مواضيع اليوم

متى نقوم بتحنيط الصحافة المصرية؟

متى نقوم بتحنيط الصحافة المصرية؟

تمر الصحافة المصرية، الورقية والإلكترونية، بحالة مرض لغوي أضحتْ به سقيمة المعنى، فقيرة اللغة، متهالكة الأسلوب، حتى بدا قاموسُها لا يحتوى على أكثر من عشرات من الكلمات لا تنضم إليها مفردة جديدة، ولا تساندها جملة سليمة، ولا تدعمها إضافات أو محسّنات أو.. بيانات بديعية.
عشرات من " كبار" الكــُتــَّــاب أعيد الآن قراءة ما يبسطونه، ويفرشونه، وينثرونه على صفحات الصحف وال...مجلات، أونلاينية أو مطبعية، فلا أعثر علىَ فارق في الأسلوب واللغة والمفردة ما بين كتاب عقد أو عقدين منصرمين وبين كتابات انفجرت في وجوهنا مع نهاية عصر مبارك ومروراً بطنطاوي ومرسي ثم عهد الردح الفضائي الآني!

اللغة الصحفية والفضائية الجديدة تلوّث، وتروّث أسماعــَـنا، وتفسد أذواقنا، وتسفك دماء ضادنا الجديدة فلا تدري بعدها أكانت حربا على آخر معاقل ما يجمع العرب، أي اللغة وأم كلثوم، أم هي نتائج طبيعية لفساد تعليمي وشارعي وعائلي وإعلامي تمكــَّـن أخيرا من استبدال تشويه اللسان .. بــقطعـِـه.
مرّ علينا حين من الدهر كانت فيه اللغة فضيلة، والأسلوبُ مكَملا للأخلاق، والتعاضد والتآلف بين المثقفين، ولو اختلفوا وتطاحنوا وتعاركوا، سمة رئيسة، يصفق فيها الشوقيون للحافظين، والعقــَّـاديون للرافعيين، والمنفلوطيون للمازنيين.
في عهدنا الحالي يصبح جمال اللغة طلاسم، وبلاغتها ألغازاً، ورَباط حروفها المقدس بعثرة عقد مهتريء من أجمل لغات الأرض وأغناها وأثراها بيانا وأحكاما وشعرا ونثرا يجعلك تتأكد أن شكسبير وجوته وموليير مرّوا فوق ضادنا قبل أن يستقروا في أحضان لغاتهم.

اقرأ الافتتاحية لرئيس تحرير أي صحيفة مصرية سواء على النت أو وأنت تتصفحها وتتلوث أصابعــُــك بحبرها الأسود الذي يصل رئتيك قبل أنفك، فتجد هباء منثوراً، وسبابا مبثوراً، وشتائم مسكونة بروح القتال غير الشريف.
جُمل مركبة على الهواء، وفقرات غير متماسكة تسقط من بين ثغراتها المعاني والمقاصد والأهداف، وتطفح عليها خربشات دجاج لا تدري بعدها هل المقال جاء مع دخان متعلق في فضاء غرزة للمخدرات، أم خارج لتوه من الصف الأول في مدرسة محو الأمية.

وجوه مكررة. أقلام تعبث وهي تكتب، ولا يحكّ الكاتبُ رأسه بها قبل أن يدفعها إلى تروس المطبعة، فإذا خرجت فالقاريء يقرأ اسم الكاتب ويبصم قبل أن تمر عيناه المتكاسلتان فوق حروف لا تحمل له زاداً، ولا تضيف لمعارفه معيلومة متناهية الصغر لعلها تضحى بعد حين معلومة تسدّ فراغاً طال أمده.
في مصر تزدهر مصانع فبركة الخبر فهي أسهل من البحث عنه، وتستطيع أن تجلس في مقهى شعبي تختلط فيه الثرثرة بلفائف التبغ، وصوت المذياع بصيحات لاعبي الطاولة، ومع ذلك فتخرج من كل هذا بمقال أو خبر ( عاجل أحيانا ) لا يصدّقه جنين أو طفل لم يبلغ الفطامَ بعد، ويتناقله الملايين كأنه تنزيل من التنزيل أو ملحق لكتاب مقدس أو وصايا نبي لم نسمع عنه من قبل.

فبركة الخبر تقوم على اتفاق مبهم بين رئيس التحرير وبين الصحفي إياه، فالأول يغمض عينيه عن افتراء أكاذيب وأباطيل الثاني، لكن هذه الصناعة القذرة والعفنة والنتنة والمتفسخة والمتخلفة تنتقل من الألسنة إلى الآذان انتقال النار في حقول الهشيم.
في مصر نـُـقْـسم بمصداقية الخبر الكاذب قبل فبركته، وندافع عنه فور نشره، ونستميت من أجله بعدما يصبح ملء السمع والبصر.
في عام 1977 أي منذ ستة وثلاثين عاما نشرت في مجلة ( المستقبل ) لنبيل خوري، رحمه الله، الباريسية مقالا صغيرا تحت عنوان ( دمعة حزن على الصحافة المصرية)، ويستبدل التاريخ ذيله برأسه ويطل علينا إعلاميا في الفضاء والنت والورق ليعيد ترتيب الأكاذيب ولو كان هذه المرة باساليب فجة ورخيصة ومريضة وضعيفة ومتهالكة لا يقوم عليها بناء، ولا يتطور بها مجتمع، ولا تتقدم بها أمة، ولا تزداد بها معرفة.

الصحافة المصرية هي نتاج أمين لعصور القحــط والخوف والقلم الفهلوي ، لذا عندما تم اختيار المستشار أحمد رفعت ليقرأ حُكمه في قضية القرن التي شاهدها نصف سكان الكرة الأرضية وقام بتبرئة علاء وجمال مبارك، وأحال والدهما إلىَ سجن مؤبد ظاهراً، ومستشفى فاخر وحياة أكثر رغدا من قبل من وراء ظهر المصريين، كانت لغته أسوأ وأضعف من لغة تلميذ في السنة الثانية الابتدائية بمدرسة للتلاميذ المتأخرين في أقصى قرى الصعيد أو الأرياف.
وفي القنوات المصرية يبدو أنهم يشترطون أن يكون المذيع من كارهي اللغة العربية والمذيعة من خصومها الألداء.
والدولة كلها من رئيس الوزراء إلى الوزراء والمحافظين والفنانين والصحفيين والمراسلين يتمرغون ويرتعون ويتوارثون لغة ومنطقا وموضوعات وقضايا متحللة ومتخللة ومحتضرة كأنهم يحاولون نزع الروح منها قبل نطقها.

كبار الكـــُـتــَّــاب والصحفيين لم يسقطوا فقط لأنهم عروا أقفيتهم للسلطة في أربعة عقود، ولم يتأخروا عن تعريتها أيضا للمتحدثين باسم السماء على الأرض ولو كانوا معاقين ذهنيا وعاطفيا وثقافيا ونفسيا ودينيا، لكن أكثرهم ( الأكثرية بدون مبالغة ) انتهوا للعمل أجراء في مصانع فبركة الخبر، وتعليبه في أسلوب رخيص، وتغليفه بلغة بالوعية لا تعرف الفارق بين الحروف و .. الصرف الصحي.

مصر في حاجة إلى ثورة لغوية لتطهير وتنظيف اللسان، تعقبها ثورة أخرى لاغلاق مصانع فبركة الخبر، ثم ثورة ثالثة لوضع ماسبيرو في أحد متاحف أم الدنيا الممتدة من وادي الملوك إلى أبينا الأكبر.. خوفو!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 15 ابريل 2014 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات