إن المسألة التي يثار حولها النقاش بشكل مستمر ليس حصريا في أوساط رجال المال والأعمال بل حتى الأشخاص العاديين هو عن حجم الازمة الإقتصادية القادمة وتأثيرها على حركة رأس المال والتجارة على مستوى العالم. ويظن الكثيرون, وظنهم ليس في محله, أن الأزمة سوف تكون متعلقة بالديون السيادية في الولايات المتحدة الأمريكية أو الدين القومي الأمريكي ولكن المسألة أكثر تعقيدا بسبب تشابك الإقتصاد على مستوى العالم. في هاذا الموضوع سوف أتناول وبالأرقام مسألة الأزمة الإقتصادية القادمة ولماذا يطلق عليها البعض الأزمة النهائية أو الأزمة الكبرى التي سوف تعيد تشكيل النظام المالي العالمي بل والخارطة السياسية العالمية.
بداية, فإن الدين القومي الأمريكي هو عبارة عن السندات التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية وتملكها جهات خارجية كالصين وجهات داخلية كصناديق التقاعد كما أنه لا يشمل سندات الضمان التي تصدرها الحكومات المحلية وحكومات الولايات. إن المصدر الموثوق لحجم الدين القومي الأمريكي هو ساعة الدين الأمريكي(US Debt Clock) والتي سجلت في لحظة كتابة هاذا الموضوع أن مقدار الدين القومي الأمريكي يقترب من مبلغ 20 تريليون دولار بخطى حثيثة. وهناك ملاحظة لا بد من ذكرها قبل أن أتابع وهي أنني لم أتمكن من العثور على مصدر دقيق ورسمي يفصل بين حجم سندات وزارة الخزينة الأمريكية المملوكة لجهات خارجية أو داخلية وساعة الدين القومي الأمريكي لا تقدم تلك النوعية من المعلومات بل معلومات عن إجمالي الدين العام وحجم الفوائد السنوية المدفوعة وتفاصيل أخرى كثيرة ولكنها على الرغم من ذالك, تتجاهل تلك الجزيئية المهمة. ويمكن تسجيل الصين كأكبر مشتري لسندات وزارة الخزينة بمبلغ يقترب من 1.5 تريليون دولار تليها اليابان بإمتلاكها لسندات يبلغ حجمها تريليون دولار تقريبا.
وكالة التصنيف الإئتماني ستاندرز أند بورز(S & P) قامت في سنة 2011 ولأول مرة في التاريخ بتخفيض التصنيف الإئتماني للولايات المتحدة من (ِAAA) إلى (AA+) مما أصاب الأسواق المالية بالذعر. ولكن ماذا يعني تخفيض التصنيف الإئتماني لدولة بحجم الولايات المتحدة؟ إن ذالك يعني زيادة تكاليف الإقتراض على المدى الطويل حيث أن سندات وزارة الخزينة الأمريكية كانت تصنف على درجة(AAA) بما يعني أنها إستثمار أمن لأقصى درجة وإنخفاض تصنيفها إلى (AA+) يعني إنخفاض درجة الأمان بالنسبة للمستثمرين والأهم إنخفاض الثقة بقدرة الحكومة الأمريكية على الوفاء بإلتزاماتها فتصنيف (AA+) يعني جودة عالية ومخاطر منخفضة ولكن على المدى القصير بينما تزداد المخاطرة على المدى البعيد, أي كلما زادت مدة إستحقاق السند زادت المخاطر المتعلقة بعد القدرة على سداد قيمته. ولعل هذه النقطة قد تكون غير معلومة للعامة ولكن هناك نوعان من السندات التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية: الأول تكون الفائدة فيه ثابتة مما يعني تأكل قيمته بسبب التضخم ويطلق عليه(Fixed income investment) والنوع الثاني من السندات تكون نسبة الفائدة عليه مرتبطة بالتضخم.
إن كلمة الثقة هي أساسية ومحورية وتشكل حجر الأساس في أي تعاملات مالية لأي دولة وليس فقط الولايات المتحدة. وحتى نعرف مدى تأثير فقدان الثقة بقدرة الولايات المتحدة على الوفاء بإلتزاماتها المحلية والدولية فما علينا إلا أن نتخيل حجم سندات الخزينة الامريكية والأدوات المالية المقومة بالدولار الأمريكي والتي قد تؤدي موجة بيع محمومة سببها فقدان الثقة إلى إنهيار قيمة الدولار الأمريكي وبداية أزمة إقتصادية سوف تفوق في حجمها أي أزمة سبقتها. ولكنني كا ذكرت في بداية الموضوع فإن الأزمة ليست متعلقة حصريا بالدين العام الأمريكي(الدين السيادي) أو الدين الداخلي كالديون المترتبة على الطلاب الجامعيين(Students Loan) والتي بلغت تريليون ونصف دولار أمريكي لحظة كتابة هاذا الموضوع, بل تتعلق الأزمة بحجم الأدوات المالية كالأسهم والسندات والخيارات والمشتقات المالية المقومة بالدولار الأمريكي والتي تبلغ 1 كدريليون دولار أمريكي. وقد يظن البعض أن ذالك الرقم خيالي وهو يعني ألف تريليون دولار أمريكي ولكنه للأسف ليس كذالك حيث يبلغ حجم السندات والأسهم والخيارات المالية(Options) مبلغ 300 تريليون دولار أمريكي بينما يبلغ حجم مايعرف بالمشتقات المالية(Derivatives) 700 تريليون دولار أمريكي بإجمالي 1 كدريليون دولار أمريكي وذالك على المستوى العالمي. إن حجم تلك الأدوات والمشتقات المالية سوف يجعل مقارنتها بالدين القومي الأمريكي كجبل الجليد الذي تظهر قمته للعيان. إن أغلب تلك الأدوات المالية هو (Pseudo) ويعني وهمي هدفه المضاربات وتحقيق الأرباح لعدد قليل من الأشخاص ولا تمثل إقتصادا حقيقا يعتمد على الإنتاج ولا تساهم في حل مشكلة البطالة أو سد العجز في الميزان التجاري. أما إذا أردنا الرجوع لأحد أهم أسباب ذالك التضخم في حجم تلك الأدوات المالية الوهمية فإن السبب الرئيسي هو قانون غلاس-ستيجال الذي تم إقراره سنة 1933 في عهد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إثر أزمة الكساد العظيم وإنهيار وول ستريت(1929-1933) وتم إلغائه سنة 1999 في عهد الرئيس الأمريكي السابق, بيل كلينتون بعد ضغوط من قبل مؤسسات مالية في وول ستريت ودعم كل من رئيس بنك الإحتياطي الفيدرالي ألان غرينسبان ووزير الخزانة الأمريكي لورانس سامرز.
وفي الختام, فإن إلغاء قانون غلاس-ستيجال أو إعادته للعمل أو أي إجرائات أخرى يتم إتخاذها لن يمنع حصول أزمات إقتصادية ولكن سوف يكون حجمها أقل وتأثيرها في نطاق أضيق مما يمكن تصوره من أزمة إقتصادية يزيد حجمها عن 1 كدريليون دولار أمريكي. حتى أن الرئيس الأمريكي الحالي قام بتقديم إقتراح بإعادة العمل بنسخة القرن-21 من ذالك القانون خلال حملته الإنتخابية وهو الإقتراح الذي حظي بتأييد من الحزب الجكهوري وقواعده الإنتخابية. ولكن السؤال هنا ليس عن تدحرج كرة الثلج فذالك أصبح من الأمور المعلومة بالضرورة ولكن عن التوقيت, فالجميع ينتظر ويترقب. فهل أضاع العالم الفرصة لتجنب الأزمة الإقتصادية الكبرى؟ سؤال سوف تجيب عنه الأيام.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة
https://science-culture-knowledge.blogspot.ae/2018/02/blog-post_26.html
النهاية
التعليقات (0)