لفهم السلفية الجهادية، من المهم أن نفهم علاقتها بالعنف. ذلك أن التطرّف إيديولوجيا تتحدّى شرعية المعايير والسياسات الثابتة. فالتطرّف لا يرتبط بدين أو عقيدة سياسية معيّنة في حد ذاتها، وهو في حدّ ذاته لا يؤدّي إلى العنف. وبالتالي، عند مناقشة التطرّف، ثمّة حاجة إلى التمييز بين مستوى القيم ومستوى السلوك. فامتلاك آراء متطرّفة أو راديكاليّة لا يؤدي بالضرورة إلى سلوك عنيف. وبالتالي، فإنه في الوقت الذي تُعَدّ السلفية الجهادية إيديولوجيا متطرّفة ترفض الانصياع إلى شرعية المؤسّسات السياسية، وتدعو إلى حكم الإسلام، وتقبل بمبدأ الكفاح المسلح لتحقيق أهدافها، فليس كل السلفيين الجهاديين عنيفين في الواقع.
بيّد أن الكثير من السلفيين الجهاديين يؤمنون بأن العنف هو السبيل الوحيد لتحدّي الدولة. وقد تم تحويل هذا الاعتقاد إلى ممارسة فعلية في عهد الأنظمة العربية السابقة.
في الواقع، أدى إهمال معظم الزعماء والمسؤولين العرب للقضايا الاجتماعية والاقتصادية في بلدانهم إلى فتح البابَ أمام التطرّف بمختلف أشكاله. وأدت هذه العوامل، إضافةً إلى خيبة أمل الشباب وسوء التعامل مع التيارات السلفية بعد الثورة، إلى تصعيد العنف في البلدان العربية وتصدير الجهاديين إلى سورية والعراق وليبيا.
ومنعت سيطرة الأنظمة العربية على المجال الديني ظهور قوى دينية فاعلة، ولاسيّما بعد الثورات العربية الأخيرة. كما أدى سقوط بعض الأنظمة العربية الرئيسية في المنطقة إلى خلق فراغ سمح للمجموعات الراديكالية بنشر أفكارها وتجنيد أعضاء جدد في صفوف الشباب المحرومين. وتصرفت الأحزاب الإسلامية بشكلٍ براغماتي لتوطيد مركزها السياسي، لكن فشلها مع الأنظمة السياسية في بلدانها أتاح مجالاً أوسع للتحدّي الاجتماعي والسياسي من جانب السلفية الجهادية. كما أدى تفاقُم الوضع الاجتماعي-السياسي في بلدان الثورات العربية إلى خيبة أمل في صفوف الطبقتين الدنيا والوسطى، وخاصة الشباب.
ويستغرب معظم المحللين سبب انتشار السلفية الجهادية جنباً إلى جنب مع عملية التحوّل الديمقراطي التي كان من المتوقع أن تجعل هذه الأفكار المتطرّفة أقل شعبية. ففي إطار هذا التحوّل، تمكنت الأحزاب الإسلامية من أن تعمل بحرية وأن تحكم، مثل حزب النهضة الإسلامي في تونس.
في الحقيقة، يكمن السبب وراء هذا التطوّر في القواعد التي كانت تحكم المجالات السياسية والدينية في ظل حكم الأنظمة العربية العلمانية السابقة على مدى عقود طويلة والتي أثّرت في فترة ما بعد الثورات العربية. فخلال سنوات ما بعد الثورات، أدّى منح الأولوية للمسائل السياسية والدستورية إلى إهمال الشروخ الاجتماعية والاقتصادية الموروثة من عهد الأنظمة السابقة، ولم تتمّ إلى حدّ كبير تلبية توقّعات الطبقتَين الدنيا والوسطى. وهذا غذّى مشاعر الاستياء في أوساط الشباب وشجّع على التطرّف. كما أن تهميش بعض الأنظمة العربية السابقة للتعليم الديني وفرض ضوابط أمنية مشدّدة على المساجد، خلق فراغاً في المجال الديني سمح للفاعلين الدينيّين المتشدّدين بالظهور بعد سقوط تلك الأنظمة لتجنيد أعضاء جدد في صفوف الشباب. ولذا تشهد هذه الدول الآن الآثار الطويلة الأجل لأوجه القصور تلك.
ولكي تتغلّب على نمو التطرّف والجماعات المتطرّفة، تحتاج الأنظمة الحالية في الدول العربية إلى معالجة المطالب السياسية للشباب وتنويع المجال الديني. وعليه ستكون معالجة المظالم الاجتماعية والاقتصادية بهدف توسيع دائرة الإدماج والمشاركة في الترقّي الاجتماعي واجتثاث الإحباط في صفوف جيل الشباب حاسمة.
كما أن إضفاء الطابع المؤسّسي على الحركة السلفية من خلال السماح لمن يرغبون في العمل في إطار السياسة الرسمية والمجتمع المدني بأن يعملوا بحرية، طالما أنهم يحترمون القانون، ستكون ضرورية أيضاً. ويجب على الدولة أيضاً أن تخفّف من سيطرتها على المجال الديني وتعزّز القدرة التنافسية للجهات الدينية الرسمية للسماح بظهور تنوّع في الأفكار الدينية. وأخيراً، تحتاج الأحزاب الدينية المختلفة إلى إيجاد التوازن الصحيح بين الأنشطة الدينية والسياسية لأن وجودها في سوق الأفكار الدينية سيساعد على الحدّ من تأثير الجماعات المتشدّدة.
تلعب الجهات الدينية الفاعلة دوراً أساسياً في مواجهة التطرّف، لكنها تحتاج إلى تنسيق جهودها مع الجهات الفاعلة الأخرى في ما يمكن تسميته "تحالف مواجهة التطرّف". وقد أصبحت صياغة السياسات الرامية إلى مواجهة التطرّف، وفك ارتباط وإعادة إدماج أعضاء الجماعات المتطرّفة في المجتمع ندّاً أساسياً لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب الكلاسيكية. في الدنمارك على سبيل المثال، بدأ جهاز الأمن والمخابرات الدنماركية منذ سنوات برنامجاً يجمع بين المدارس والمؤسسات الاجتماعية والشرطة المحلية للحيلولة دون تطرّف الشباب الدنماركي المسلم. ويحتاج المسؤولون في الدول العربية والسلطات الدينية ومنظمات المجتمع المدني والأكاديميين وممثلي وسائل الإعلام إلى العمل معاً لصياغة وتنفيذ هذه السياسات في بلدان المنطقة.
وختاماً، فإن المطلوب الآن هو بدء نقاش أوسع حول الدين والسياسة وكذلك عملية العدالة الانتقالية، الأمر الذي من شأنه توسيع نطاق الإدماج داخل المجتمع ومواجهة تيار التطرّف. ذلك أن الاعتماد على استراتيجيات مكافحة الإرهاب الكلاسيكية لن يفشل في منع التطرّف العنيف وحسب، بل ربما يزيده في الواقع. لذا، فإن الحكومات العربية والجهات السياسية والدينية الفاعلة الأخرى بحاجة إلى العمل معاً بشأن استراتيجية لمواجهة التطّرف تأتي بالإصلاح إلى المجالين السياسي والديني.
التعليقات (0)