يقول الكاتب العظيم خيري شلبي رحمه الله في كتابه "كتب وناس": "الكاتب الموهوب هو من ينسيك بأنك تقرأ، إذ هو يضعك مباشرة في قلب الفعل الحيوي دون مقدمات، يحيلك إلى طرف أصيل في الفعل الفني الذي يبدأ تحلقه الفعلي بمجرد وقوع بصرك على السطر الأول". هذه الخلاصة التي توصل إليها "شلبي" تنطبق على الزميل والصديق والروائي المتميز سعد القرش الذي يشق طريقا خاصا به في ميدان الرواية والقصة القصيرة، إنه مثل النحات الماهر الذي يخلص لعمله فيصنع تمثالا تسرح فيه أعين الناظرين، كل واحد منهم يرى فيه أشياء لا يراها الآخرون، لأن النحات ترك مساحات هائلة للخيال، لكي يشاركه الجمهور في عمله. وهذا ما يفعله "القرش" يجعلك تعيش في العمل الروائي، وكأنك في قلب الأحداث.
أحد جوانب براعة "القرش" يكمن في لغته الصافية الراقية التي لا تتعالى على القارئ بمفردات صعبة لا يستوعبها، ولا تهبط إلى اللغة العادية فتفقد الروعة الفنية، ما يجعل المتلقي يتلذذ بمتعة الحكي في العمل الذي ينسجه "القرش" بمهارة.
نلمس هذا جليا في رواية سعد القرش الجديدة "وشم وحيد" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، ويعود فيها بالقارئ إلى زمن الخديو إسماعيل، عندما كان المصريون الفقراء يحفرون قناة السويس بالسخرة دون رحمة أو معاملة آدمية. تبدأ الرواية بموت والد البطل "وحيد" بين يديه أثناء العمل في حفر القناة، ويأمره المقدم بأن يضعه في المقطف ويدفنه عند الكوم، لكن "وحيد" يأبى أن يدفن والده "يحيى" دون الصلاة عليه وبعيدا عن بلدته "أوزير" التي يتمنى العودة إليها، وكان قد التهمها حريق، ورفض والده أن يغادر القرية مع أخويه إدريس وعائشة وأولادهما إلى مصر المحروسة، وأصر على البحث عن زوجته، إلى أن وصلته استغاثتها الواهنة، وخرجا من القرية وقد بلغ منهما التعب مبلغه إلى أن وصلا إلى قرية "أبو صير"، وفي خص شربا من قُلَّة لإطفاء العطش الذي أنهك قواهما، وسرى النشاط في جسد "يحيى" وزوجته، واشتاق الجسد إلى الجسد، وخرج "وحيد" إلى الدنيا من رحم الموت، وعاش دون أن يرى أمه. استطاع "وحيد" أن يهرب بجثة أبيه بعد أن ألبس المقدم المقطف وطعنه بركبته بين فخذيه وطرحه أرضا ولف السوط حول عنقه، ودفن جثة والده في حفرة أحاطها بالصخور لحمايتها من زحف الرمال، لكن سيلا عارما كالموج جرف القبر، فضاعت جثة الوالد. حاول "وحيد" الثأر لوالده أثناء افتتاح الباشا قناة السويس بعد الانتهاء من حفرها، لكن المحاولة فشلت، وهام في الأرض بحثا عن الأمان، يحيط به الموت من كل مكان، وقد كان من عائلة كريمة لها شأن، لكنه الآن "وحيد" هذه العائلة. وصل إلى القاهرة، كل همه أن يعثر على عمه "إدريس" وعمته "عائشة" وأولادهما، لكنه في طريق البحث شاهد بين المقابر رجلين يحاولان اغتصاب امرأة، فهوى على أحدهما بنبوت وهرب الآخر، ورافق المرأة إلى بيتها، لكن رابطا جمع بين الاثنين، فلم يقويا على الفراق، هي امرأة لا تعرف لها اسما سوى أن سيدها الذي مات كان يناديها "أمة الله" ومنحها "وحيد" اسم "هند" وأنجبا ولدا أسمياه "هاشم" ليكون امتدادا لوحيد يشغله عن البحث عن عمه وعمته، ثم يتزوج "هاشم" لتنفتح طاقة جديدة إلى المستقبل، لتعلو كفة "الحياة" على كفة "الموت".
التعليقات (0)