قصة صحفي يبحث عن أمل
أحمد ولد إسلم
كانت فكرة أكثر من رائعة حين اقترح موقع منصات علينا أن نتحدث بضمير المتكلم عن تجاربنا الصحفية، صادفت الفكرة هوى في نفسي، وأردت أن تكون قصتي تعبيرا جماعيا عن العديد من زملائي الذين شاركوني السنوات الخمس الماضية من حياتي، وقاسمتهم في الغربة أمل العودة إلى الوطن، وهم اليوم يقاسمونني حلم الهجرة منه.. فشكرا لمبدع الفكرة..شكرا لمنصات.
كانت البداية..
في حي الصفْحة الشعبي جدا بمدينة النعمة الواقعة على بعد 1200 كلم شرق نواكشوط، دار حديث سريع ذات ليلة في عام 1994 بيني وبين شخص ما عدت أذكره، لكن الواقعة ما زالت راسخة في ذاكرتي، كنت في الصف الخامس ابتدائي، وبي تأتأة لا أكاد أبين كلميتن باسترسال، ما أذكر أن ذلك الشخص قال لي ساخرا لا يمكن أن تصير صحفيا، وأجبت بسرعة بل سأكون صحفيا..وأدرك أني لم أكن أعي العمق الحقيقي لهذه الكلمة حينها..بل لم تخطر ببالي الواقعة إلا بعد حصولي على شهادة الباكالوريا واختياري تخصص الإعلام، ويبدو أن عقلي الباطن احتفظ بها في زاوية من زواياه طيلة الأعوام العشرة..
وفي الطريق معركة..
في عام 2000 حين حصلت على شهادة الدروس الإعدادية كان علي اختيار الشعبة التي سأواصل الدراسة فيها، وقع اختيار الإدارة وطاقم الأساتذة على الشعبية العلمية، واتخذوا قرارهم دون استشارتي، فيما كنت ألتمس الخطوات الأولى على طريق اكتشاف مواهبي الأدبية، وبدأت أسود في أواق شخصية جدا بعض الأسطر التي أردت أن أحولها شعرا..
مع مطلع العام الدراسي كان الأمر جليا كالشمس، فقد ورد اسمي في لائحة طلاب السنة الأولى ثانوية من شعبة العلوم الطبيعة، استفسرت الإدارة طالبا منهم تغيير الشعبة إلى شعبة الآداب المعاصرة، لكن علاقة مدير المؤسسة بأسرتي حالت دون ذلك، واشترط موافقة والدي.
بدا أني أخوض معركة لست مهيئا لها، استلمت في البداية ومر أسبوعان من السنة الدراسية، وفي كل يوم أزداد إيمانا بخياري، ويزداد ذهني رفضا للرياضيات والفيزياء، كان الأمر في غاية الصعوبة، وصرامة الوالد وأفراد الأسرة الذين يكبروني جميعهم لم تترك أمامي خيارا، وحاول كل منهم بطريقته إقناعي بأن التخصص العلمي سيفتح لي آفاقا مهنية واعدة، وستكون لي مكانة مرموقة في مجتمع يكتشف البوادر الأولى لعصر العلم.
استمر ذهني في رفض الرياضيات والفيزياء حتى ما عدت أقدر على حل معادلة من الدرجة الأولى…وفي مساء من شهر أكتوبر 2000 اتخذت القرار، جلست بجانب والدي وقلت بلغة حاسمة: أمامك خياران؛ إما أن أتحول إلى شعبة الآداب، أو أترك الدراسة نهائيا..!
كان كلامي صادما، ففي مجتمع محافظ مثل موريتانيا يعتبر مجرد نقاشك قرارا اتخذه والدك عقوقا…نظر أبي بزاوية حادة جدا، وكأنه لا يصدق ما سمع..أعدت الكلمتين بتمهل وأنا أوضح مخارج الحروف..توقعت أسوأ ردة فعل ممكنة..
التفت والدي بكامل جسمه وقال دون تردد هل تدرك ما تقول؟
أجبت نعم أبي ..استمراري في شعبة العلوم يعني فشل مشوار الدراسة إلى الأبد..
استفسر مجادلا..هل تدرك الفرق بين أن يقال أحمد ولد إسلم كاتب أو شاعر.. وبين أن يقال أحمد ولد إسلم المنهدس أو الطبيب..هل تدرك الفرق في المردودية، في المجتمع، في المستقبل…؟!
نعم أدرك ذلك..أدرك أني أستطيع الاستمرار في تخصص لا أقتنع به.
وضع والدي حدا للنقاش الذي بدا بلا فائدة، وقال متحديا: حذاري..أن تختار أسوأ تخصص وتحصد أسوأ النتائج…!
كانت تلك الكلمات قاسية جدا ولكنها كانت أيضا بوابة أمل فتحت لي، وعلي قبول التحدي..جذلا، قلت: موافق.
لا يستغرب هذا التصرف من عائلة كعائلتي ففي مدينة النعمة دخلت كلمة " كهرباء" قاموس السكان لأول مرة عام 1995 ووصلت أول قافلة للأنرنت عام 2001 ، من الطبيعي جدا أن ترفض الأسر التخصصات الأدبية فجامعة نواكشوط الوحيدة في موريتانيا ترسل إلى الشارع سنويا عشرات من خريج الأدب، ولا تبعث وزارة التعليم إلى الخارج إلا الأول على مستوى موريتانيا في مسابقة الباكالوريا.
المنطلق..
في يوليو من عام 2003 وبعد ازدحام طويل أمام مباني الثانوية العربية في نواكشوط قرأ أحد الاساتذة في مكبر الصوت أسماء الناجحين – طريقة بدائية جدا لكنها مستعملة في موريتانيا- كان اسمي من بين تلك الأسماء، وفورا اتصل أخي رحمه الله ليعلمني أني وعددا من رفاقي نجحنا في مسابقة الباكالوريا،لم أكن من الأوائل، ولكن مجرد النجاح في أول محاولة يعتبرا تميزا في مدينة النعمة حيث تنعدم كل شروط الدراسة..
ساعات من استقبال التهاني وكان علي اتخاذ القرار بالتخصص الجامعي، تلقائيا كنت قد وضعت في ورقة صغيرة ثلاثة تخصصات أحبها، الإعلام، والترجمة والعلوم السياسية، اثنان من تلك التخصصات لا يدرسان في موريتانيا؛ الإعلام والعلوم السياسية.
حديث مقتضب مع الوالد حول الفكرة، أبدى موافقته، وشرع في البحث عن وسيط للحصول على التسجيل في الخارج، برزت الجزائر وسوريا خيارين، في الأولى يدرس أخي، وفي الثانية يعمل أحد المعارف في السفارة..
أثمرت تلك الاتصالات عن موافقة مستشار في السفارة الموريتانية بالجزائر على منحي أحد المقاعد المخصصة للطلبة الموريتانيين والتي لم تبعث لها الدولة العدد الكافي وبقيت شاغرة، ليستغلها موظفو السفارة في توطيد علاقاتهم، وبعد أسابيع أبلغت بقبول ملفي وحصولي على تسجيل في كلية القانون بجامعة باتنة، دفعت مبلغ 250 أورو بعد ذلك لأحد السماسرة ليحول تسجيلي إلى قسم الإعلام بجامعة عنابة، هناك يدرس أخي.
رفقة آملة..
من المصادفة أن خمسة ممن حصلوا على التسجيل بنفس الطريقة في الإعلام أرسلوا إلى جامعة عنابة، كنا ستة ندرس في قسم واحد، ونحلم بحلم واحد، أن نتخرج ونعود إلى موريتانيا، البلد الذي يستحق علينا الكثير، تحملنا خلال العام الأول الكثير من الشتائم واللمز، والتلميحات المزعجة والأسئلة السخيفة، إذ لا يصدق أحد أن موريتانيا التي منحت استقلالها بعامين قبل الجزائر وتملك الحديد والسمك والنفط والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث لا توجد بها إلا جامعة واحدة لا تدرس إلا تخصصات نظرية بمناهج متقادمة…كذب بعضنا وغضب بعضنا أحيانا وأخير هدأت عاصفة الأسئلة..
وبعد عام حصل ثلاثة منا على منحة من الدولة لوساطة يملكونها، واستمرت أسرتي وأسر اثنين من زملائي في الانفاق علينا حتى منتصف العام الثالث حيث خصصت لنا منحة من وزارة التعليم العالي قدرها مائة أورو في الشهر.
لم يكن يخالجنا شك في أن الدولة التي خصصت لنا منحا لدراستنا تخصصات غير موجودة في البلد ستكون قد وضعت استيراتجية ضمنتها الاستفادة مما سنعود به، ومرت السنوات الأربعة طويلة كان كل منها يخطط فيها لحلمه..وتخرجنا ستتنا عام 2007 وكنت من بين الأوائل في قسم الإعلام.
وعدنا والشوق يحملنا إلى موريتانيا ونفس كل واحد منا مطمئنة أنه سيقضي شهر أغسطس في مدينته الأصلية، وتواعدنا أن نتلقي في سبتمبر لنبدأ الإنتاج..فتخصصنا نادر والطلبات عليه كثيرة.. هذا ما كنا نتخيل..
السراب اللامع..
في الخامس والعشرين أغسطس 2007 أقفلت عائدا من مدينة كانت بها نشأتي الأولى، التقت في عطلتي التي دامت تسعة وعشرين يوما عددا من أصدقائي القدامى ممن هجروا الدراسة وتوجهوا إلى إفريقيا، فمنهم من صار ذا مال، ومنهم من تزوج وأنجب، ومنهم يملك السيارات الفارهة، وعرض كل منهم أن يسهل لي مرافقته إلى حيث يعمل، بل تعهد لي بعضهم بتحمل نفقات الرحلة إلى الغابون أو الكونغو وأن يمنحني راتبا محترما..
كان الحديث عن تلك العروض يثير سخريتي فأنا الحاصل على شاهدة جامعية في تخصص نادر في بلدي ومن المتوفقين في دفعتي، كنت أرد عليهم ساخرا ما تعدوني به في السنة سأحصل عليه في الشهر أو في الفصل على أقل تقدير.
في نواكشوط كثرت نسخة من ملف يحوى شهاداتي العلمية والتدريببة، وامضيت خمسة أيام، دلفت فيها مداخل أغلب المؤسسات الإعلامية ،استقبلني بعضها ورفض الآخر، وجاملني بعضهم وعبس آخرون..
وفي يوم قائظ دخلت على المدير المساعد للإذاعة الوطنية، كانت السكرتيرة أخبرتني أن المدير العام أحال ملفي إليه، استقبلني بترحيب وسألني عن بغيتي؟
أجبت بوضوخ أريد العمل في الإذاعة فأنا خريج قسم الإعلام السمعي البصري ومن المتفوقين في دراستي وأتقن استخدام الحاسوب..و..و.
ابتسم ساخرا: أمامك الكثير كي تحصل على عمل…وأردف: على العموم كنت نظرت ملفك، سنمنحك فرصة التدريب في الإذاعة…لكن ليكن في علمك أنه تدريب دون تعويض…ولا أوقية واحدة.
كانت وقع الكلمة الأخيرة لاذعا..ولكني قبلت العرض.
وفي الصباح جئت إلى الإذاعة..وهناك وجدت ثلاثة من رفاق دربي حصلوا على نفس الفرصة.."تدريب دون تعويض"..
قررنا أن نتوجه إلى التلفزيون على أمل أن تكون إدارته أكثر تفهما، لكن تبين العكس تماما، فلم يسمح لنا حتى بتجاوز البوابة الأمامية، وسلمنا ملفاتنا إلى بواب قال لنا فيما بعد إنه سلمها لسكرتيرة المدير..وفي كل مرة نعود للاستفسار عنها يطلب منا الانتظار ويحثنا على الصبر..فقررنا ترك الملفات التي ما تزال في أدراج السكرتيرة ولم نتلق ردا منها بعد.
مر شهر سمعت فيه الكثير الوعود العسلية، وسمعت قدرا كبيرا من الإعتذار، وبقيت ورفاقي متشبثين بالأمل الذي عدنا به، وفسرنا التباطؤ بالبيروقراطية المتجذرة في إدارات البلد.
وفتح باب جديد..
زوال أحد أيام سبتمبر رن هاتفي كان الصوت هادئا ومهذبا: معك محمد محمود أبو المعالي، وجدت ملفك هنا، إذا كان لديك متسع من الوقت فأرجو أن تمر بي في مكتب صحيفة أخبار نواكشوط.
تعتبر صحيفة أخبار نواكشوط إحدى أعرق الصحف الموريتانية،وقد مرت عليها قبل فترة الذكرى الثالثة عشر على انطلاقتها، تدرجت من أسبوعية واحدة باللغة الفرنسية، إلى أسبوعيتين بالفرنسية والعربية ثم يوميتين، و أخيرا أضيف لهما موقع ألكتروني إخباري باسم وكالة نواكشوط للأنباء.
بعد حديث دام دقائق كانت الفكرة واضحة، يريد مدير المؤسسة إطلاق موقع ألكتروني إخباري، ويحتاج من يشرف عليه.
سبق لي أن التقيت السيد محمد محمود ولد أبو المعالي في صيف عام 2005 حيث كنت أعد بحثا عن استخدام الصحفيين الموريتانيين للأنترنت، واجريت معه مقابلة لذلك شكل عرضه باب أمل جديد بالنسبة لي وافقت على الفكرة من حيث المبدأ وأجلنا بحث التفاصيل.
كان الأمر سهلا بالنسبة لي فأنا أحد المهووسين بالأنترنت وسبق أن أدرت موقع اتحاد الطلبة الموريتانيين في الجزائر وأملك إحدى أكثر المدونات الموريتانية زيارة، لذلك لن تواجهني صعوبة تقنية في إدرة الموقع الجديد يكفي فقط أن أطلع على نظام إدارته.
وفي الأول من أكتوبر2007 وجدت نفسي في مكتب خاص بالموقع الجديد وأنا أحرر أول خبر سأنشره، وكان عن منح أسبانيا طائرة لمراقبة شواطئ موريتانيا.
كانت فرصة نادرة أن أعمل تحت إشراف الأستاذ محمد محمود أبو المعالي، فمنهجيته تقوم على إتاحة الفرصة للصحفي المبتدئ لتجريب كل أفكاره، وفي النهاية يتدخل في الوقت المناسب لتصحيح الخطأ دون كبير ملامة..
واجهتني أكبر صعوبة في تحرير الأخبار ذات الصلة بالمحاكم، فكنت أطلق المصطلحات دون اعتبار، فأسمي المشتبه متهما وأسمي القرار حكما..وفي كل مرة يصحح لي أبو المعالي بحكمة…ويلاحظ رغبتي الكبيرة في التعلم.
ثلاثة أشهر كانت كافية لتجريب الموقع وتجريبي.. وفي الثلاثين ديسمبر2007 أطلقت وكالة نواكشوط للأنباء، مولودا جديدا يقتحم الساحة الألكترونية الموريتانية بنستخين إحداهما عربية والأخرى فرنسية.
وبعد أيام من ذلك قررت إدراة المؤسسة أن تحيل إلي رئاسة تحرير النسخة العربية.
سعدت بذلك كثيرا، وكان الأستاذ محمد محمود أبو المعالي يراقب أدائي وبين الحين والآخر يهمس لي بوصية أو تنبيه..وتارة بلوم.
منحني لقب رئيس تحرير نوعا من الراحة النفسية، لكنه حرمني من أكثر مجالات الحياة الصحفية متعة..الشارع.
كان العمل المكتبي يأخذ 90% من وقتي وبالكاد كنت أغطي بعض الأنشطة التي تأتي في عطلة نهاية الأسبوع أو التي تحتاج تغطية خاصة.
أكسبني ذلك خبرة مهمة في التحرير الصحفي وكنت كل يوم أكتشف خطأ لي أو لأحد زملائي فأتجنبه، أو على الأقل أكون على علم به.
خلال خمسة أشهر تألقت وكالة نواكشوط للأنباء فصارت ثاني أكبر موقع إخباري موريتاني بعد وكالة أنباء الأخبار المستقلة.
كان سر نجاح وكالة نواكشوط للأنباء يكمن في الحرية الكبيرة التي يتمتع بها طاقمها، كما أنها غير محسوبة على توجه سياسي معين.
تضاعف العمل بشكل متسارع، وزادت أعباء التحرير بتسارع الأحداث السياسية والأمنية في موريتانيا، ووجدت نفسي أعمل بجهد أكبر مما أتحمل، كانت الوكالة تأخذ من وقتي حوالي ست عشرة ساعة في اليوم وفي الأيام الأقل نشاطا تأخذ اثنتي عشرة ساعة في اليوم.
جرى نقاش بيني وبين الإدرة لتخفيف ذلك أو توفير ظروف مادية ومعنوية تناسب الجهد المبذول.. مر شهران ولم يحصل شيء من ذلك، أو ربما استعجلت أنا، كنت منهكا، وكانت أمور أخرى بدأت تطرأ على خط المؤسسة فقررت الإستقالة في العشرين يوليو 2008.
البحث عن قشة في البحر..
في تلك الأثناء كانت الإذاعة الموريتانية قد أعلنت أخيرا عن مسابقة اكتتاب صحفيين، كيفت معاييرها خصيصا مع مواصفتنا نحن الستة المتخرجون من الإعلام السمعي البصري، بعدما ما مرت عشرة أشهر وهي تعدنا باكتتابنا في نهاية كل شهر.
عشرة أشهر عرفنا فيها موريتانيا على حقيقتها، واقتنعنا أن المعيار الوحيد للترقية أو التوظيف هو أن تسبح بحمد الحاكم وأن تلعنه غدا إذا سقط، أن تكون قريبا للمدير أو تعرف من يعرف قريبا له.
خلال تلك الأشهر العشرة عرفنا قيمة أن تطلب العمل بشاهدتك في موريتانيا؛ في الإذاعة التي يعمل بها أكثر من أربعمائة عامل يوجد من بينهم فقط اثنان يحملان شهادة في الإعلام أحدهما متخصص في الصحافة المكتوبة، وغير ذلك من الصحفيين والفنيين اكتتبوا مع كل مدير جديد، وكان يشرف علينا صحفي لم يحصل على شهادة الباكالوريا، ومع ذلك يتولى رئاسة تحرير نشرة.
أصررنا نحن الستة أن نكسب المعركة، قررنا أن نشارك في مسابقة الاكتتاب وإن خولف ما هو معلن نلجأ للتصعيد وربما إلى القضاء.
اختتمت المسابقة ولم يبق إلا إعلان النتائج الذي كان مقررا يوم الخميس السابع من اغسطس 2008.
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان فقد قرر الرئيس الموريتاني يومها سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله أن يضع حدا لنشاط أربعة من كبار الضباط العسكريين، وفي ردة فعل مفاجئة وضع الضباط الرئيس في السجن.
وكان أول قرار صدر عن المجلس العسكري الجديد إقالة مدير الإذاعة ومدير التلفزيون.
وبعد أسبوع من الإنقلاب كان رد المدير الجديد للإذاعة على زملائي أن مسألة اكتتاب صحفيين جددا ليست من أوليات المرحلة.
ونسف ذلك القرار أحلام ستة شباب علقوا أملهم على إذاعة تسير وفق مزاج جنرال.
كنت الأكثر حظا، فبعد استقالتي من عملي رئيسا لتحرير وكالة نواكشوط للأنباء تلقيت ثلاثة عروض عمل محلية اخترت من بينها العمل في وكالة أنباء الأخبار الموريتانية المستقلة أكبر موقع ألكتروني موريتاني على الإطلاق، وشغلت منصب سكرتير تحرير.
إيجابية التجربة الجديدة أنها أعادتني إلى الشارع، عدت إلى سماع شكاوى البسطاء، إلى أنات المرضى، إلى أحلام أطفال الشوارع، وأحاديث المستولين.
أعادتني الأخبار إلى الصحفي المتجول، أجري مقابلة هنا مع سياسي وهناك مع فنان وتارة مع متسول، وليس الصحفي القابع خلف مكتب وثير يراقب شاشة حاسوب محمول، ووجدت لذة العمل الصحفي، وفي كل يوم أنزل إلى الشارع أزداد حنقا على حكام هذا البلد.
كان وقت وكالة الأخبار أقل بمستوى النصف من وكالة نواكشوط و ظروف العمل فيها أحسن.
لعنة التسمية..
في بلد لا يوجد فيه معهد للإعلام وتحتفل أقدم صحيفة مستقلة فيه بعددها الألفين، وتحكمه منذ ثلاثين سنة طغمة من العسكريين لا يؤمنون بحق الإنسان في التنفس إلا عن طريق أنابيبهم، لا يستغرب أن تكون تسمية "صحفي" مثيرة للإشمئزاز.
فقبل العام 1991 لم يكن يسمح في موريتانيا بصدور الصحف المستقلة، وبعد تعديل الدستور لتمديد حكم العقيد معاوية ولد الطائع صدر قانون الصحافة وأغرقت وزارة الداخلية الشارع بأكثر من أربعمائة ترخيص صحفي، لا تتجاوز الصحيفة ورقة في حقيبة أحد المرتزقة يبتز بها كل من يدخل عليه، فسادت صورة نمطية في العقل الجمعي للموريتانيين أن الصحفي مرادف للمرتزق المتملق المتزلف، الذي ينشر تقريرا يقدح شخصا، وفي العدد الموالي ينشر تقريرا يمدحه.
ووصل الأمر أن بات أغلب الصحفيين الجادين يستحيون من إظهار بطاقاتهم الصحفية على رؤوس الأشهاد، فمهنة الصحافة صارت سبة في موريتانيا، لذلك كنت في أحيان كثيرة حين يسألني أحد ما هل تعمل في جريدة؟ أجيب بسرعة لا، أنا أعمل في وكالة أنباء، فالجرائد تعني في المخيلة الموريتانية الكذب والنفاق والتسلط والتزلف.
بصيص النهاية..
منذ اليوم الأول لانقلاب السادس من اغسطس أوقفت الإذاعة اليتمية في موريتانيا بشكل مفاجئ جميع برامجها الحوارية، واستعاضت عن ذلك ببث بيانات التأييد والمساندة للمجلس الأعلى للدولة، ووجدنا - نحن المحررون- أنفسها في عطلة غير معلنة فالبيانات تأتي عادة محررة من طرف أصحابها، وما علينا إلا قراءتها بصوت إذاعي يتيح للعامة فهم مضمونها..
لذلك كان آخر يوم أدخل فيه مباني إذاعة موريتانيا يوم الخامس من اغسطس، وعوضا عن ذلك أدركت أن البقاء في هذا البلد يعني في أبسط تفسير له قتل ما تبقى لدي من موهبة، واستهلاك ما جمعته من خبرة، فلا مجال هنا لتطبيق ما تعلمت، ولا لتطوير ما اكتسبت، وعليك أن تسير في فلك المسبحين بحمد السلطان الجديد، والذي يأتي بعده..
بدأت وزملائي في البحث الجاد عن أي عمل خارج موريتانيا كي نحافظ على بقية الشمعة الخافتة التي عصفت بها رياح البيروقراطية والمحسوبية والرشوة.
تلقيت عدة اتصالات من أصدقاء قدامى في الغابون والكونغو يستحثوني للاتحاق بهم، لكني رفضت، ففقد آمنت بالنجاح في الإعلام مهما كلفني ذلك.
وفي سبيل تحقيق هذا الحلم عكفت منذ فترة على إرسال سيرتي الذاتية لأكثر من مائة مؤسسة إعلامية عربية ودولية بحثا عن عمل، لكن المزعج لي ولزملائي أن أغلب المؤسسات تشترط خبرة لا تقل عن ثلاث سنوات، ويعني ذلك أن بقاء أحدنا ثلاث سنوات هنا في موريتانيا لا تضمن له الحصول على أي عمل أو خبرة، وستجعله كيوم ولدته أمه.
وفي بريدي الألكتروني الآن يحوي مجلد الصادر أكثر من مائة رسالة تحمل عنوان "طلب عمل" فيما يحوي صندوق الوارد ردا واحدا فقط من مؤسسة إعلامية في المشرق قدمت لي عرضا باهتا جدا لكني قبلته كي أخرج من هنا…
والغريب أن جميع زملائي بعثوا إلي بسيرهم الذاتية أو أوصوني بالبحث لهم عن عمل حين أصل البلد المضيف..وكان التعبير المشترك لهم " لا تهمني قيمة الراتب بقدر ما يهمني ارتباط العمل بتخصصي" ذلك التخصص الذي درسناه على نفقة دافعي الضرائب في موريتانيا واليوم نجهد لننعش به إعلام دول أخرى..
شكرا لأنك وصلت هنا..أعتذر عن الإطالة..
صحفي ومدون موريتاني
ملاحظة: كتبت هذه القصة في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر 2008 واليوم لما أصل البلد الذي كان يفترض أن أعمل به، لأن سفارته تنتظر ردا من وزارة خارجيته على طلبات التأشيرة…أدركت الآن أن البيروقراطية المقيتة هي القاسم المشترك بين كل الدول المتخلفة.
التعليقات (0)