مواضيع اليوم

ما يُبْكيك؟

شيرين سباهي الطائي

2010-02-14 21:44:52

0

من يقرأ في كتبِ الأوّلين عن بعضِ الصالحين الذين يبكونَ لسماعِ آية من القرآن العظيم أو نصّ من حديثٍ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يتنقّلُ بين تلك الحكايات والقصص صحيحِها وضعيفِها وموضوعها وهو يجدُ فائدة عظيمة يكتسبها عندما يهتدي لطبائعِ النفوس وتغيُّرات الأهواء والقلوب،فالتّبايُنُ بين الأفراد وهم يذرفونَ الدّمع عندَ مواضع الذِّكر الحكيم وزَوَاجِر الكَلِمِ الطيّب واضحٌ وظاهر ..

وتُمثُّلُ الخَلفيّة التراكميّة للأحداث التي تمرّ على كلّ إنسان رابطةَ العصَبِ في مثل هذه المواقف العاطفيّة،وتعمَلُ اختزاناتُ الذاكرة والعقول الباطنة عملها بشكلٍ كبير في هذه الأثناءَ لتُظهِرَ على السّطحِ ما يختلجُ في النفس من خوفٍ أو هلعٍ أو جُبنٍ أو حزن يمتدّ بحسبِ الحال والعوالق المحيطة بالحدَث ..

ولو اتّفَقَ كثيرٌ من الباكينَ في وِحدَةِ السبب لذلك البكاءَ على أنّ مصدَرَهُ الحُزن لانْبَرَى سؤالٌ مهمٌّ هنا "ما يحُزِنُك؟" ولو تشابَهَتْ تفسيراتُ الألسنة عن ذلك الحُزن من بابِ التأثّر بالحال الدّاعي له لظَهَرَ سؤالٌ آخر مهمٌّ أيضاً "مِمَّ تَخاف؟" ولو قال أغلبُ من بكى وحزِنَ بأنّهم يخشونَ نفسَ المصير لجاءَ السّؤالُ المهمّ الذي درَجَ أهلُ التاريخ على تدونينه في مصنّفاتهم عن تلك القصص "ما يُبكيك؟" ..

وأحسَبُ بأنّ الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين قد أفرَدَ باباً لأحوال بعض الصالحين عندَ الموت،وذكَرَ من المآثَرِ الكثير عن جُلّهم بأنّهم بكوا أو قاربوا البكاءَ رغم استغرابِ الجالسين معهم والحاضرين لوفاتهم من بكاءِ صاحبِ العمل الصالح والسيرة الحسنة وهو قادمٌ على ربٍّ يحمدُ للمحسنينَ أعمالَهم ..

لكنّ إجابات أولئكَ التي أوردها الغزالي كانتْ مُغايرةً لما يغلبُ على الظّنّ أنّه السببُ أو الدّاعي،ويجيبُ معظمُ هؤلاءِ بأمورٍ خطرَتْ على بالهم أو كدّرَتْ خواطرهم واختلطَتْ بعبراتِهم كانتْ هي المغزى من هذا التعبير بالدّموع المُحِقّةُ في تحدُّرها والجادّةُ في ظهورها للعيان،وبذلك يأتِ الحالُ بحكمةٍ أو موعظةٍ هي الفائدة المقصودة من الإكثار من هذا النوع للحكايات والقصص التاريخيّة ..

إذا وقَعَ الكلامُ موقعَ الصّدقِ وصادَفَ باحَةَ قلبٍ جاهزةً للتأثّر قابلةً للنّصح أو التفاعل مع المعاني الظاهرة والباطنة للمضمون فلا شكّ بأنّ البُكاءَ في هذه الحالة واقعٌ وحادثٌ بأيّ شكلٍ من الأشكال وبأي نوع من الدّموع المرئيّة والمُلاحَظَةٌ ولو حاولَ صاحبَها إخفاءها عن الناظرين،ورغمَ هذه الصورة المتكرّرة على مرّ العصور إلا أنّ التفسيرات لو أُمِيطَ اللّثامُ عنها فهي غيرُ متّحِدَة وغيرُ متكافئة ..

إنّ فهمَ الناس للعبارة هو المُحفّزُ على الترجمة البكائيّة لها دونَ مقدّمات أو تهيئة مُسبقَة،وإنّ ثقافة الفرد التي اكتسَبَها من صعوباتٍ مرّت عليه أو مشكلات عاصرَها هي التي تسمَحُ للدموع أن تصبحَ مفتاحاً لكثيرٍ من الخير أو بدايةً لعصرٍ مقيتٍ من الشعور بالإحباط المستمر والغُبنِ المطّرد،وستكونُ الذّكرى بعدَ أوّل موعدٍ مع البكاء قائداً لمرّات ومرّات قادمة لا يتحكّمُ فيها إلا مَنْ أوتيَ قلباً من حديد ..

لا يسألُ السائلُ حينَ يسألُ غيرَه "ما يُبكيك؟" ليعرِفَ سبباً لهذا الأمر أو يقِفَ على دافعٍ لهذا التصرّف بقَدْرِ ما يسألُ استغرباً أو إنكاراً أو تسليةً للباكي،وكأنّه يقولُ له ما يُبكيكَ والدنيا جميلة والخيرُ موجود وليسَ في الموقف ما يدعو للبكاء،وما يُبكيكَ والأصلُ أنكَ قادرٌ على أن لا تبكي ولا تهطلُ لك دموعٌ في هذا الوقت،ولكنّ الردّ السريع الذي يُتقِنُهُ العقلاء الماهرون في تبريرِ مواقفهم الاستثنائيّة يُلجِمُ السائلين ويجعلَهم يندمونَ أن سألوا ويستسلمون لجوابٍ هو الصواب والفَصْل ..

قد تَعْني للسّامع قصّةٌ مؤثّرة تاريخاً يعرفُ مثلَه،وقد تَعْني للنّاظر صورةٌ مؤلمةٌ ألماً عانى شبيهاً به،وقد يَعْني للقارئ نصٌّ مُحكَمٌ واقعاً يعيشُه واستطاعَ كاتبُ روايةٍ أو مقالٍ أن يستثيرَ عاطفتَه به،وقد يكونُ الفرحُ مدعاةً للبكاءِ كرابطٍ يربطُ بين الانتظارِ للفرَج والشكر على النّعمة أو التعبير عن عدَمِ التّصديق،وقد تكونُ الصّدمةُ والمفاجأة هي من فَتَحَ الباب أمام طبيعة الإنسان البُكائيّة لتأخُذَ زمامَ الأمور ..

انعكاسُ الصّور والتّخيلات الماضية والمستقبليّة على هذه القضيّة يجعلُ منها استباقاً لأيّ موضوعٍ يُبحَثُ في مجال التأثير السلبي للموروث الثقافي عندَ كلّ الشعوب،فالمجتمعات التي تؤمنُ بأنّ القضايا الإنسانيّة هي حلقَةُ الوصل بين الماضي والحاضر تُكثِرُ من استجداءِ العيون نحوَ البُكاءِ أكثرَ من غيرها،بينما المجتمعُ الذي يعتبرُ أيّ واقعةٍ هي من مسلّمات الأمور وسُنّة الحياة تُصنّفُ هذا اللون من البُكاء عندَ الاستماع أو القراءة أو المعرفة أو الرؤية نوعاً من الضّعف ..

عندما أُمْعِنُ النّظرَ في اختلافٍ كهذا أخْرُجُ بانطباعٍ غريبٍ يحتّمُ عليّ احترامَ الباكينَ أيّاً كانَ سببُ بكائهم وأيّاً كانتْ طريقَةُ استقبالِ خدودِهم لدموعِهم،فالوِجهَةُ التي يتّجهُ نحوَها التفكيرُ والطريقُ التي يسيرُ فيها التذكّرُ لا يعرِفُها نفسُ الباكي إلا بعدَ هطولِ أمطارِ دموعِه وهو يُخبرُ من سأَلَهُ "ما يُبْكيك؟" ..

فلا ينْكَرُ إذاً على من لم يَبْكِ لحالٍ هي في الأصلِ مُبكِيَة،ولا يُنكرُ على من بكى لصورةٍ ليسَتْ في الأصلِ مكانَ بُكاء،ولا عتَبَ أيضاً على من أبكَتْهُ أوصافُ الجنّة ولم تقْطُرُ له دمعةٌ واحدة في صفة النّار،فهوَ عندَ ذكر الجميلِ يشتاقُ له لحدّ البكاءِ أو أنّه يخشى أن لا يكونَ من أهل النّعيم،وعندَ ذِكرِ النّار استوعَبَ أنّها للكافرين وأنّ الله لا يعذّب من لا يشركُ به شيئاً فادّخرَ دموعَه لرجاءِ رحمةِ ربّه ..

ولا يحقّ لأحدٍ أن يأخذَ على شخصٍ بكى لزواج ابنتِه ولم يبكِ لموتِ ابنِه،فبكاؤه عندَ زواجِ البنت قد يكونُ لمعرفتِهِ بأن العمرَ مرّ به لهذه اللحظة أو أنّ الفرَحَ أجّجَ فيه عاطفة الحبّ لدرجة البكاءِ أو أنّه يخشى أن يأخذه الموتُ قبل أن يرى أحفاده منها،وتمالكُهُ لنفسه عندَ موتِ ابنِه رغبةً في أن يكونَ لهُ أجرُ الصّبر أو اطمئناناً لأنّ المصيبة القويّة هذه رحمة من الله به وخيراً وجنّة بعدَ طول عمُر ..

إنْ قيلَ لي يوماً "ما يُبكيكَ؟" فجوابي قطعاً سيكونُ "هو ما يُبكيني" ..
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات