إن الذي يربط بين المصريين بعضهم وبعض، حب يكمن في داخلهم، تجاه وطنهم وبلدهم (مصر)، التي يتغنى أهلها بقول مصطفى كامل: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا. وهذه حقيقة واقعة، وبَجْدة دامغة.
لكننا نرى بين الجموع خلْفا أضاعوا البلاد، واتبعوا الشهوات، جعلوا مصالحهم فوق الأوطان، ينادون: إسقاط الفساد، وما أرادوا إسقاط الفساد، إنما أرادوا البلاد، فانتشر فسادهم في طول البلاد والعَرض، لا يسمعون بكاء محب مصر الفَزِع، ولا فلاَّحها الجزِع، لا يخيفهم صوت النذير، ولا يُهمهم صمت البشير، فهم صُم الآذان، عُمي البصائر، غُلْف القُلوب، لا يسمعون، ولا يُبصرون، ولا يفقهون.
وهاهي مصرنا الحبيبة، تستنجد بأبنائها، وتستغيث بأحبابها، فقلبها مليء بالأسى، وبكاء عينها استحال دما، على ما صارت إليه شوارعها المليئة بالآلام، متخوِّفة مما تحمله الأيام، وقد كانت بالأمس سعيدةً بثورة أبنائها، وفَرِحةً بالعودة طليقة لأولادها، فإذا بهؤلاء يقلبون فرحها حزنا ونحيبا، وبكاء وعويلا، على أبناء لها فقدتهم، لا من أجل دفاع عن أراضيها، ونِعِمَّا هو، وإنما في مؤامرة دبرها أعداء بنيها، بيد خونة فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والواجب أن تكون هذه المصائب مجمِّعة للشعب كله، موحِّدةً للطاقات، فهي لا تفرق بين كبير وصغير، ومسلم ونصراني، وسلفي وإخواني، وإسلامي وعلماني، علينا أن نغلب مصلحة الوطن، وأن نبحث عن نقاط الاتفاق قدر المستطاع، حتى لا يستنفد الاختلاف طاقتنا، ويَنفُذ الوهن إلى وحدتنا، فيكون من السهل أن نُؤتى من أمامنا ومن خلفنا، بل وأن نُغْتال من تحتنا..
وقديما قال أحمد شوقي:
يا نائحَ ( الطَّلح ) أشْباهٌ عوادينا
نَشجى لواديك أم نَأسى لوادينا؟
فإن يك الجنسُ يابن الطَّلْح فرَّقَنا
إن المصائب يَجْمَعْنَ المُصَابِينـَا
من عادة المصائب أن تُجمِّع لا تفرق، وتوحِّد لا تُبعثر، تحتاج دائما إلى عقلاء يبحثون عن بواعثها، وكيفية الخروج منها، تحتاج إلى جهد الجميع ليقفوا وقفة رجل واحد، أمام التحديات، والتي كان من أشدها خطرا، وأبعدِها أثرا: الإعلام الفاسد، ربيب الشر الحاسد..
ففي هذا الوقت وبكل أسف، رأينا رايات رُفعت، وألسنة في السم غُرست، فصار غَرْفها سُمَّا، ونطقها سُماَّ، فما أصابت أحدا إلا قتلته، أو على الأقل أمرضته، ألسنة عبيد الشيطان، جنَّدهم لتحقيق قَسمه، في الوقوف أمام المصلحين، وتضليلهم عن الطريق المستقيم، إنها لا تمت لمصر بصلة، وإن كانت تحمل اسمها، في بطاقة أو جواز، بل هم عبيد لتلك القوى الباغية، والشياطين المحرِّضة. عثروا في حكمهم عُثورا، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}.
وهؤلاء هم مشعلو الفتن، ومؤججوها، يسيرون بالفتن في الشارع مسير الشمس في الأقطار، وكلما خبت زادوها سعيرًا؟ ويدَّعون أنهم من المصريين، من الثائرين، وما هم بثائرين، وما هم بمصريين..
وبجوار هؤلاء فئة قليلة، قاموا من رقدتهم، وفاقوا من سكرتهم، لا يريدون صلاح البلاد، ولا إعمار الفساد، وإنما يبحثون عن حقهم المسلوب، ونصيبهم المنهوب، فيزيدون الإضرابات، ويؤججون الاعتصامات، وينادون: ثائرين ثائرين، لحقنا طالبين، وعنه غير راغبين. وياحسرة على الظالمين.
وأنا أسأل: هل كتب على مصر أن تعيش الفوضى إلى زمان ما بعد الثورة، وتعيش كل يوم فَورة بعد فَورة، يوما بيد الظالمين، ويوما بيد الثائرين، المدَّعين أنهم من الثائرين، وما هم بثائرين، وما هم بمصريين..
هل يريد هؤلاء أن يجعلوا من الثورة أُضحوكة، ومن (شعبٌ لا يصلحه إلا العدل) أُكذوبة؟!
إني لأعجب من قوم طلبوا الباطل فأدركوه، وما أظن أنهم طلبوا الحق فاخطأوه، فلو كانوا للحق طالبين، وقامت ثورتهم نبعًا من دين، لعادوا للحق فور علمهم به، واهتدائهم إليه، فالحق طُلبتهم، والحقيقة بُغيتهم. أما هؤلاء فقد باعوا ضمائرهم، يزعمون رد الحق المنهوب، فهلا أصلحوا فكرهم المثلوب؟! ويدَّعون أنهم ثائرين! وهل كانوا مصريين؟! وما هم بثائرين.. وما هم بمصريين..
ورحم الله الإمام ابن القيم حيث قال: فلم يزل في الناس من يختار الباطل، فمنهم من يختاره جهلاً وتقليداً لمن يحسن الظن به، ومنهم من يختاره مع علمه ببطلانه كبراً وعلواً، ومنهم من يختاره طمعاً ورغبة في مأكل أو جاه أو رياء، ومنهم من يختاره حسداً وبغياً، ومنهم من يختاره محبة في صورة وعشقاً، ومنهم من يختاره خشية، ومنهم من يختاره راحة ودعة ا.هـ.
(إن الثائر بحق هو ذاك الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد) رحم الله قائلها، وجزى بالخير طالبها، فقد ثار الشعب ضد الطغيان، وأسقط كل ظالم وجبان، تساقط ورق الشجر، وحبات المطر. فآن له نزع الألم، وزراعة الأمل، فيرتقي بالبنيان، ويتطاول بالعمران، ويزرع البساتين، ويعين العاملين، وحينها يحق لنا أن نقول: نحن المصريون.. نحن الثائرون..
التعليقات (0)