طرح الأخ إسماعيل عبدي في البيان المنشور على صفحات الإنترنت، و الذي أعلن فيه إستقالته من لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية و حقوق الإنسان في سوريا، طرح إشكالية خطيرة تتعلق بظروف العمل المنظم في سوريا سواءٌ أكان ذلك من خلال أحزاب أو جمعيات أو أية تجمعات أخرى، و سواءٌ أكان ذلك داخل سوريا أو خارجها.
و الحقيقة التي يجب الإعتراف بها هي أنه بمجرد أن يجتمع شخصان في سوريا حتى يكون ثالثهما الشيطان، ليس بالمعنى الذي يذهب إليه المثل، و لكن الشيطان الذي ينقل كل ما يدور بينهما إلى دوائر المخابرات، كما أنه و بمجرد أن يبوح أحدهم بمكنونات صدره لأحد معارفه، أو لرفيقه في التنظيم، أيَّ تنظيم، حتى لا يلبث السر أن يتجاوز الإثنين و يصل إلى من لا يجب أن يصل إليه، بفضل شبكة تجسس اخطبوطية ضخمة أسسها النظام السوري تحصي على السوريين أنفاسهم.
و في الواقع تعتبر لجان الدفاع عن حقوق الإنسان مثالٌ جيد لدراسة ظاهرة الإختراق الأمني لأسرار التنظيم السوري السري منه و العلني، و لحياة المواطن السوري الناشط أو حتى الذي لا يتدخل في الشأن العام، بحيث يبدو هذا المواطن عارياً تماماً أمام هذه الأجهزة، و يبدو تنظيمه كتاباً مفتوحاً، و كل الخطوات التي يقدم عليها معروفةٌ سلفاً، إن لم تكن مرسومة بدقة من قبل الجهة المخابراتية، فما ينطبق على اللجان، يسري للأسف على أي تنظيم آخر.
و قد شهد كاتب هذه السطور إلى جانب أصدقاء آخرين بدايات تشكل اللجان موضوع الحديث، أو على الأقل فرع أوربا، و لن أقول ساهموا في إنشاءها، لأنه لا علم لنا بالتوقيت التي نشأت فيها و من قام بوضع اللبنات الأولى لها، و ماذا كانت غايته، كل ما هنالك أن ملكيتها كانت مسجلة بأسم آل نعيسة، حيث خرج علينا أحدهم و هو يرفع رايةً خط عليها صفته كسجين سياسي سابق، قبل أن تنقلب هذه العائلة على المبادئ التي رفعت رايتها، و تكشف عن وجهها الحقيقي و تعود إلى موقعها الفعلي و حاضنتها، من جهتنا فقد كان دافعنا للإنضمام إلى هذا الجهد الذي كان يبدو نبيلاً هو رغبتنا بأن يكون للكرد صوتٌ يعبر عن آلامهم، لكن فقدان الشفافية في الموضوع برمته، و وجودنا فيما يشبه المتاهة، و وقوفنا على أرضية لا تبدو ثابتة، و خاصة عندما سألنا عن آلية العمل في سوريا، حيث قيل لنا أن هناك هامشاً ترك للجان للعمل خلاله، و أن هناك خطوطاً حمر لا يسمح لها بتجاوزها، أي أن هناك إتفاق بين طرفين، تقدم المخابرات بموجبه لعب أطفال للجان، و هذه تقوم باللعب بها تحت إشراف الأولى، على أن لا تكسر تلك الألعاب و تؤذي بالتالي نفسها و غيرها، لكي يبدو المشهد جميلاً من الخارج.
و هذه الإستنتاجات المبكرة دفعتنا للإبتعاد سريعاً عن اللجان، مع الإستمرار في تقديم المساعدة للزملاء المتبقين بدافع الصداقة الشخصية.
لقد تبين من بيان الإستاذ إسماعيل عبدي، الذي إستمر بالعمل بأخلاص في لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية و حقوق الإنسان بعد ذهاب آل نعيسة، تبين أن إختراق اللجان (و أخواتها كما أكد لي) قد وصل إلى درجات خطيرة، حيث يحضر عناصر المخابرات المؤتمرات بإريحية، ليس كضيوف شرف، بل كمُلاك حصريين لها، و حيث يتحول إيميل اللجان إلى إيميل مخابراتي خالص، و قد حاولت ثنيه ـ الأستاذ عبدي ـ و هو الذي دفع ثمناً باهظاً من عمره سجناً بسبب أفخاخ اللجان و بسبب تجاوزه الخطوط الحمر، بعدم نشر ما يمتلكه إلا بعد التأكد منه، و قلت له بأن المسألة برمتها قد تكون لعبة مخابراتية لضرب أعضاء اللجان ببعضها، و لكن كمية القرائن و الأدلة التي إمتلكها قد دفعته لإعلانه ذاك و نشر بعضها، خاصة أنه رجل قانون و زميل سابق في المحاماة، و لا أشك في حسن تقديره لما توفر لديه منها.
و هنا تحضرني قصة تجسس لا زالت فصولها مستمرة حتى الآن، حيث كنا أثناء فترة الدراسة الجامعية في دمشق نشك في قيام أحدهم بأعمال التلصص علينا، و كنا لذلك نتجنبه، إلا أن مجموعة من الشباب إستغلت قيامه بأخذ قيلولة خلال فترة الظهيرة في أحد البيوت، و قامت بتفتيش جيوبه، فعثرت على بطاقة (عدم تعرض) له، قامت بتصويرها، و قد كانت البطاقة موقعة و ممهورة من رئيس أحد أفرع المخابرات، يطلب بموجبها الضابط بعدم التعرض للمذكور و تسهيل مهمته لأنه معروفٌ من قبله. المهم أن الرجل قد توجه إلى أوربا و تقدم بطلب للحصول على اللجوء، و لم ينقطع عن زيارة سوريا أبداً، ثم أخذ يعمل في عمليات تهريب البشر قبل أن يتحول إلى نجم تلفزيوني، حيث تستضيفه أكثر من فضائية بإعتباره محامي و ناشط حقوقي و مدافع عن حقوق الإنسان، مع العلم أن تواجده المتقطع في جامعة دمشق كان لغاية التجسس على الطلبة، حيث أجزم بأنه لم يكن طالباً في أيٍّ من كلياتها، و إذا كان قد تأبط كتاباً في يومٍ ما، فذلك كان جزءاً من عدة العمل لا أكثر.
لقد تحولت مسألة التجسس على المواطنين في سوريا إلى وباءٍ خطير إستشرى في جميع مفاصل المجتمع حتى شوهه، فبالإضافة إلى الجيش العرمرم من المخابرات، هناك جيشٌ آخر رديف من المخبرين، يحصون على الناس أنفاسهم، حيث ينتشرون في كل زمانٍ و مكان، بعضهم يعمل بدافع الإرتزاق و بعضهم الآخر بدافع الخوف، و لكن في النهاية ينتمي الجميع إلى فئة طفيلية تمتص دماء الناس، تحتاج إلى العلاج بدرجات متفاوتة، و هو ما بدأت به الثورة السورية.
التعليقات (0)