الدعوة لفض الاشتباك بين قيصر والله : دع لقيصر ما لقيصر وما لله لله, لإعطاء كل نصيبه, لم تكن ترضي قيصر, ولم يقل فيها الله كلمته النهائية إلى يومنا هذا.
الدعوة هذه لم تكن تعني منطقتنا العربية قديما, و لا تعنيها حاضرا أو في المستقبل المنظور. وقيصر العربي يرفض دائما مثل هذه المعادلة, وقال كلمته النهاية فيما يتعلق بتقاسم الحصص والتوزيع, فالكل أو لا شيء. أما الله, فتعلن الأحزاب الناطقة, دون تكليف, باسمه, بأنه لم يقل كلمته النهائية بمثل هذه المحاصة, إلى الآن على الأقل, "تقية", في انتظار الخلاص النهائي من قيصر الدنيوي وعدم ترك شيء له, عند سنوح الفرصة, ليخرجه من الدنيا والآخرة بخفي حنين.
في المنطقة المذكورة تمدد قيصر العربي طولا وعرضا وبكل الاتجاهات لتصبح كاملة لقيصرها. فهو وحده يحدد ما لله, وما يريده الله, وما يرضيه وما يغضبه, ومتى يكون استدعائه مطلوبا, ومتى يكون غير مرغوب فيه, وكذلك طرق عبادته وأماكنها, وأقصر الإجراءات الموصلة معارضي هذا القيصر من عباد الله الصالحين وغيرهم للقاء وجهه الكريم, بالإرادة المنفردة . ففيه سر من الله, وأسراره مقدسة لا يعرفها إلا الله وحده, ويقرها دون معارضة, فقيصر العربي لا يحب المعارضة.
في المنطقة ذاتها, دون سواها في عالم اليوم, لكل دولة زعيمها (الذي يعادل قيصرا ويماثله, في بعض الوجوه, انتفاخا وصولجانا وقصورا وخدما وحشما, ولا يعني هذا إن حكامنا قياصرة على الطريقة الرومانية وأصحاب إمبراطوريات, فهم مجرد مستبدين داخليا "غلبانين" خارجيا, وهذه لم تكن كلها صفات القيصر الروماني وفي جميع الحالات و الأوقات). انه الزعيم العربي الحديث المتميز الطامح المستبد. (لقب الزعيم الذي تختلف مدلولاته وسلطاته واختصاصاته من بلد الأخر, وحتى في البلد الواحد من منطقة لأخرى, و تختلط حتى في رأس الزعيم نفسه, لا يوجد له مقابل في القواميس السياسية الأجنبية قديمها وحديثها) لم يعد يقبل سلطة ومجدا بأبعاد محلية, فطموحه في توسع زعامته بمنطقته, وعبرها, غير محدود, التوسع, أو التهديد به, على حساب الجيران وزعاماتهم, (عدا التوسع بطبيعة الحال نحو الجهة الممنوع النظر إليها, إسرائيل), حتى ذهب الشعور بالعزة بأحدهم ليعلن أمام أقرانه, المستمعين له دون حسد, بأنه أصبح زعيما "امميا" و"ملك الملوك" لقارة بأكملها, إفريقيا (لا ندري, أن كان الجزائري, على سبيل المثال, وهو من إفريقيا, و دفعت بلده أكثر من مليون ونصف مليون شهيد للحصول على استقلالها, على علم بذلك, أو يرضى بمبايعة ملك غير جزائري على بلده وحكامها المحليين, أو أن يصبح من رعايا التاج الجديد. والسؤال كذلك لغيره من الأفارقة الخاضعين لتاج دون دراية منهم بذلك). وإمام دين ودنيا. وبان التفكير بتكوين إمبراطورية عظمى لم يفارقه مطلقا, والشروع في التنفيذ قد بدأ فعلا, ليس بالسلاح هذه المرة فهذا الأخير تم تسليمه للأعداء لخطورة على الحياة, وطلبا للسلامة و البقاء على العرش, وإنما بالذكاء البترولي والدهاء, وابتكار النظريات التي يترقب العالم ولادتها, وتطبيق ما سبق أن ولد منها, للخروج من أزماته, وخاصة هذه الأخيرة.
لم يفتخر زعيم واحد بمنجزات داخلية حققها طيلة فترة تسلطه الممتدة عقود دون انقطاع, ببناء دولة حديثة ذات مكانة في المجتمع الدولي , تحترمها الدول بحق, غير مبنية سياساتها على الابتزاز واللعب بأوراق الإرهاب والتخويف, والتحالفات المشبوهة والمريبة. ولم يعلن واحد منهم عن منجزات وفرت عيشا كريما للمواطنين, أو للرعية, ولا كرامة إنسانية لهم, ولم يشير إلى أي نوع من الحريات سادت أو بدأت تسود, أو سوف تسود, في دولته, ولا لما يفكر بفعله لوقف الهجرات غير الشرعية لمواطنيه إلى بلاد الله الواسعة غير المرحبة بهم. لم يشر إلى الإنسان وحقوقه, ولا للدولة وسيادة القانون فيها, ولا لمؤسسات قامت أو سوف تقوم. فهذه أمور خطيرة إن تحققت تذهب بالزعامات والزعماء, وتخرج قيصر من القيصرية.
في أس وفي فروع أوضعانا المأساوية استفحال نفوذ مثل هؤلاء الزعماء, الذين أصبحوا وكأنهم قدر الأمة المحتوم إلى يوم الدين. استفحال يقابله استكانة شعبية تصل إلى درجة التسليم والاستسلام, (حتى لا نقول الخنوع. مع إيماننا بان دوام الحال من المحال) وترك كل شيء لتدبير وحكمة الزعيم, وكأّنّ الرعب الذي حملته صرخة: انج سعد فقد هلك سعيد, ما زال, وعبر الأجيال, ترتعد منه الأوصال.
ويوازي ذلك انحسار مستمر لمفهوم الدولة الحديثة, المقروء في الكتب, أو المنقول عبر الفضائيات, لان الدولة الحديثة, لم تقم يوما في تاريخنا, ليتكون لها مفهوم مادي مجسد, وتراكم تجارب وخبرات تصلح في مجموعها لتكون مرجعيات يمكن العودة إليها والبناء على المفيد منها, وتكريس ما للدولة للدولة . كما أنها لن تقوم:
ـ ما دام الزعيم الجديد في أوجه, ومدعوم بأسرته أو عشيرته أو قبيلته أو طائفته. وليس بأغلبية مواطني دولته.
ـ وما دام الزعماء, رغم كل خلافاتهم السطحية والعميقة, متفقون على أن يبقوا قياصرة دون منازع. يدعم بعضهم بعضا, إذا ما تهدد بقاء أحدهم في الزعامة. فيتنادون لقمم الزعماء, وتجري المصالحات بعمليات قيصرية.
ـ وما دام الصديق مستفيد من هذا البقاء والعدو مؤيد له, ومطمئن, ومساند إن دعت الحاجة.
ـ وما دام لا يزعج أحدا, صديقا أو عدوا, أو شعب الزعيم نفسه, دخول أو عدم دخول العصر, والتفكير ببناء الدولة.
ـ وما دامت منطقتنا لا تنتج دولا وأفكارا, وإنما بترولا, وغازا, وفوسفات, ومهاجرين, وزعماء.
ـ وما دام القانون الدولي لا يهمه من الدولة الا شكلها, ولا تعنيه الشعوب في شيء. فيكفيه كي تصبح الدولة دولة توافر عناصرها: إقليم وسكان وحكومة. يتبعه اعتراف دولي ومساواة في السيادة, كما لا يهمه نقل السيادة من الدولة لحاكمها المطلق. فهذه شؤون داخليه تتعلق بترتيب البيت الداخلي.
ـ وما دامت السياسة الدولية تهتم, لتحقيق مصالحها, بالحكام, فتؤيد إعلاء سيادتهم المطلقة على سيادة دولهم ليصلوا عبرها لدول ناقصة السيادة.
ومع ذلك فقد يرتب الزعيم شؤون دولته بتبني دستور معلن ومكتوب. ينظم السلطة السياسية. فيفصل بين السلطات ويبين لكل سلطة اختصاصاتها وحدودها, على أن تعود إليه طبيعة الفصل, و توزيع المسؤولبات والمسؤولين. ويقر بضرورة إنشاء مجلس نواب, أو مجلس أمة, أو مجلس شعب, أو جمعية وطنية, جميع الممثلين, أو على الأقل غالبيتهم المطلقة فيها, منتخبون حسب أصول الانتخاب المعد من قبله وبتدبيره وتدبير أعوانه, سلطة تشريعية تقر ولا تشرع. تؤيد ولا تبادر. لا تعارض أو تراقب التنفيذية, وإنما تساعدها في التنفيذ, مسؤولة أمام الزعيم أولا وأخيرا, ولا يعنيها الناخبون الذين لم ينتخبوا أعضاءها إلا بناء على توصيته.
ويحرص على أن ينص دستوره على سلطة قضائية مستقلة, إلا عنه وعن أعوانه احتراما ومهابة, وتماسكا لوحدة الدولة. ومحاكم عادية للقضايا الصغرى , واستثنائية للقضايا الكبرى وتثبيت الأمن والأمان وسلامة الأوطان.
كما ينص عل حريات عامة وفردية, يعود إليه تحديد مضمونها واتساعها, ورقابتها, وتعليقها كلما اقتضت المصلحة ذلك, ومصلحته لا تقتضي إلا ذلك. ويجيز المعارضة التي لا تعارض. ويحرم كل معارضة غيرها تضر بالدولة وثوابتها ومصالحها ومكانتها.
في عهد الزعماء ليس للدولة ما للدولة من امتيازات وصفات وسمات, فهي مجسدة بزعيم. وما الزعيم إلا الدولة. وكان لويس الرابع عشر بعث حيا ليعلن من جديد الدولة أنا. L’Etat, c’est moi
د. هايل نصر
التعليقات (0)