منذ سنة 2009 وفي مثل هذا الشهر استأذنت جريدة ايلاف الإلكترونية بأن تستضيفني في فضاء التدوين الذي أدرجتْه ضمن خصوصيات عملها الصحفي المتميز...شرعتُ منذ ذلك التاريخ في طرح قراءتي للحالة العربية،أساسا،عبر هذه النافذة التي عنونْتها بـ :"سيـــاسة" في دلالة صريحة لاهتماماتي الشخصية كما عكستْها جلّ مقالاتي المدوَّنَة ...منذ أكثر من خمسة أشهر خلت لم أجد الرّغبة في تأثيث مدوّنتي بأيّ خاطرة...تُرى لماذا؟...
المدوَّنـــة الوثيقة
بالعودة إلى ما كتبتُه في هذه المدوَّنة على امتداد ثلاث سنوات يُمكن الوقوف بوضوح على محطّتين لافتتين:الأولى ما قبل "الربيع العربي" والثانية "في خضمّ ذات الربيع "...
- ما قبل الرّبيع العربي:
لئن كنتُ مدركا تمام الإدراك لضيق مساحة التعبير الحرّ-إن لم أقل انعدامها- في زمن ما سمّيتُه بــ"ما قبل الرّبيع العربي"،فإنَّ ذلك لم يمنعني من المجازفة بالمجاهرة بقناعاتي حتى إن خالفتْ "هوى السلطان"...
كيف استطعتُ أن أخترق حصار حرّيّة الرأي دون أن يلحقني أذى لا طاقة لي باحتماله ؟...
تمهيدا لذلك أقول:ككلّ أيّ فرد تسكنه همومُ وطنه ويتفاعل إيجابا أو سلبا مع الجغرافيا التي تحتضنه ،كان لا بدّ من البحث عن موقع تحت الشمس يُتيح لي الشعور بمواطنتي من خلال انخراط حذِرٍ في المنظومة التي تتحكّم في الشأن العام..وقد ظفرتُ،إلى حدٍّ ما،بما مكّنني من ذلك،وكنتُ في خضمّ تلك العواصف الهوجاء شاعرا بالتحدّيات ومدرِكا لحدود إمكانيات عطائي المتاحة في طريق ملتوية وغير معبّدة...وتلك حكاية أخرى لا تفي حاجتها إشارة عابرة...
في وضعٍ جديد من تجربتي الحياتية تمكّنتُ من التّفرُّغ لتشخيص الواقع المحلي في وطني تونس فوجدته لا يختلف عن ذات الحال في باقي البلدان العربية إلا في بعض التفاصيل التي لا ترتقي إلى اختلاف في العِلَّة الجامعة المشترَكة ...تلك العلّة المتمثلة في معضلة داء الأنظمة الشمولية السائدة في الوطن العربي وتضخّم الأنا السلطوي وبالتالي حرمان الشعوب من حقها في الحرية التي لا كرامة دون نيلها وبالتالي لا قدرة على الإبداع والتفوّق للشعوب المصادَرَة حرّيّتها...
وبما أنّ الحرّيّة في المطلق تبقى دون مدلول عملي ومبهمة فلقد انخرطتُ في التسليم بأنّ أيَّ مشروع يتغنّى بالحرية ويدّعي النضال من أجلها يُعَدُّ مضللا أو عبثيا أو متآمِرا إن لم يعتبر الديمقراطية السبيل الوحيد المتاح لتأمين سيادة الشعوب على نفسها وبالتالي توفّر حظوظ تمتّعها بالقدر الأوفر من الحرية والكرامة ..إذ الديمقراطية تبقى الآلية التطبيقية الأمثل التي اهتدى إليها الفكر الإنساني المتحضّر تجسيدا فعليا لمقولة "السيادة للشعب"...
الخلاصة أنّي "ابتُليتُ" برغبة جامحة دفعتْني دفعا إلى البوْحِ بما أثمرتْه تأمُّلاتي في الشأن الوطني..وحيث أنّ هامش حرّيّة التعبير داخل أسوار الوطن بلغ تدريجيا درجة الاختناق في الوقت الذي اشتدّتْ فيه حاجتي إلى أن أتنفّسَ تعبيرا حرًّا،فلقد وجدتُ في هموم الوطن العربي الكبير ما يُتيحُ لي هامشا من الحرّية أوسع يُمَكّن من قول ما أريد قوله،إجمالا وضمنيّا،في الشأن المحلي الوطني دون تقيُّدٍ بصرامة رقيبِهِ المتغطرس القامع...
أرجو العودة لما كتبتُه في هذه المدوّنة وفي بعض الجرائد الوطنية والعربية قبل "ثورة الياسمين" التونسية (14 جانفي 2011) للوقوف على أنّ الهمّ العربي واحد خلاصته الحكم الشمولي وغياب الحرّيّة والديمقراطية...
في خضمّ الربيع العربي :
ليست الأمور على أحسن حالٍ فيما تُسَمَّى بـ"بلدان الرّبيع العربي"،بل هي في وضع أسوأ ممّا كانت عليه باستثناء حرّيّة التعبير بمفهومها الشامل التي ما تزال تعيش إلى اليوم عصرها الذهبيّ ومنذ أن سقطت الأنظمة الشمولية...الغريب أنّ الناس في ذات البلدان أحرار أحرار ومع ذلك يسكنهم الخوف:
- الخوف من عودة الدكتاتورية،في غفلة منهم،بقناع جديد...
- الخوف من انسداد الأفق وتبخّر الحلم في ازدهار اقتصادي واجتماعي وثقافي يضع العالم العربي على سكة الانخراط في حضارة العصر والإسهام في إثرائها...وبالتالي الخوف من إهدار فرصة تاريخية نادرة لمعالجة الخلل صنعتها شعوب أثبتت أنها لم تستسلم للإحباط واليأس رغم تكرّر هزائمها ومحنها منذ قرون خلت...
-الخوف من نرجسية النخب واستعلائها على شعوبها التي أنقذتها من جلد الذات والتيه والغباء وعماء البصيرة...
- الخوف من الوجبات المعلّبة في علب أمجاد الماضي التي فقدت صلاحية استعمالها بمرور الزمن وتبدل الأحوال دون التفطّن إلى الحاجة إلى المعالجة والرسكلة والتجديد...الخوف من الضياع في دهاليز الإرث الحضاري العربي الإسلامي باستحضاره محنَّطا جامدا يعوق حركة التاريخ ويحول دون الانخراط في الواقع الحيّ حاضرا ومستقبلا...
- الخوف من حريّة لا تحرّر العقل بقدر ما تحرّر العضلات لممارسة صراع الديكة...
- الخوف من حرّيّة قمع القويّ للضعيف والأغلبية للأقلية والرّجل للمرأة...
- الخوف من شحّ عطاء الإبداع والإنتاج وانفجار الأحقاد الدفينة وتنامي البغضاء والنميمة ونعيق الغربان على وليمة شعوب ثارت فتحوّلت إلى ضحية لوحوش كاسرة...
- الخوف من أن يتحوّل "ربيعنا العربي" إلى تسونامي لا يُبقي ولا يذر فتذهب ريحنا...
ولأني خائف،كالكثيرين،وكما لم يحصل أن تملّكني الخوف بكلّ هذا الحجم الذي تحوّل إلى رعب...لأني خائف بعد أن أطلّ الصباح وأذّن الديك وصاح،فلقد امتنعتُ طيلة هذه المدة عن الكلام المباح...
لكن ماذا لو ردّدتُ مع الجماهير المزمجرة:"لا خوف لا رعب/السلطة بيد الشعب"؟....
التعليقات (0)