هذا ما تعّود أصولنا منذ القدم على ترديده دائما. وما تعودنا سمعناه كثيرا من أجدادنا ومن جداتنا, وقليلا من آبائنا وأمهاتنا ممن هم وهن على قيد الحياة. وأقل من القليل من أقراننا ممن هم في أعمارنا. و لم نعد نسمعه مطلقا من الأجيال الشابة على طول الوطن العربي وعرضه. وكأنّ الحق لم يعد حقا, والجرأة في طلبه توصل للتهلكة. ففقد الحق طالبه, وفقد المطالب, إن تجرأ, حقه في السعي لطلبه.
صحيح أن المطالبة بالحقوق المتعلقة بالزواج والطلاق, والبيع, والشراء, والميراث, والنسب .. تستقبلها المحاكم وتبت فيها وتصدر أحكامها وقراراتها بشأنها, دون خشية كبيرة لدى القاضي (غير المعترف له باستقلاله, والمحاصر بأصحاب الأوزان الثقيلة والحراب الحادة النافذة لكل شيء وعبر كل شيء), من تبعات إصدارها, ولا المتقاضي من نتائجها, فقد لا يهمه كثيرا فقدان حقوق مادية, أ ومعنوية, تعوّد على ذلك, والعادة المتواترة تصبح عرفا مستقرا.
ولكن المطالبة بحقوق متعلقة بالحريات العامة وحقوق الإنسان, رغم كفالة الدستور لها, هي التي, وبالتتابع, لم تعد تجد مطالب يخفّ في طلبها, كحرية التعبير كتابة وقولا, وحرية النقد, وتكوين الأحزاب السياسية, وجمعيات المجتمع المدني, وحرية الصحافة والنشر, وحرية التنقل والسفر, والمطالبة بعرض قضايا انتهاك حرياته وكرامته على قضاء عادل مستقل ونزيه, والحق بان يكون الإنسان إنسان..حقوق أصبح على الجميع التنازل عنها طوعا أو إكراها, وإلا على غير المتنازل التنازل عن حقه في الحياة والحرية, وحق البقاء في الوطن وبين الأهل والخلان.
وصحيح انه غير مستهجن ولا مستغرب ــ في دولة شمولية القانون فيها يُعلى عليه ولا يعلو, ينُتهك المكتوب منه والعرفي, وتسمو قرارات السلطة التنفيذية, والقرارات الإدارية, على القواعد الدستورية, وتصبح المحاكم الاستثنائية صاحبة الاختصاص العام, والمحاكم العادية استثنائية بحكم الواقع, ويحاصر القاضي بهدف الحاقة بالأجهزة الأمنية ــ أن يضيع الحق والمطالب به معا.
وصحيح أيضا أن في دولة القانون والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني وسيادة النظام الديمقراطي وقيمه, واستقلال القضاء ونزاهته, تختلف الأمور. فللحق قدسية وللمطالب به وسائل وضمانات تعيد له حقه. وتصبح مقولة ما ضاع, ولن يضيع, حق وراءه مطالب واقعا يعيشه الجميع, ويردده الجميع, ويقره الجميع, ويدخل الضمير الجمعي ويستقر فيه.
من القضية التالية, التي كان كاتب هذه السطور من شهودها, يتبين مع ذلك انه حتى في دولة القانون قد ينتهك الحق والقانون, ولكن القانون نفسه هو الذي يرد الاعتبار لنفسه, وبقوة القانون واعتباره, وبفعل رجاله الذين يكرسون حياتهم لنصرته, وبفعل المجتمع الذي تربى على قيمه, وعلى رفض الصمت (القول عندنا الساكت عن الحق شيطان اخرس, قول إذا ما تم الإصرار عليه فقد تُشيطن قطاعات واسعة في مجتمعاتنا) عن أية إساءة إليه, أو انتهاك له ولو كانت هذه الإساءة أو هذا الانتهاك من القائمين عليه, وحراسه الطبيعيين, ومطبقيه, وبفعل سلطة قضائية عليا. ولو كان هذا الحق المنتهك متعلق بأجنبي دخوله وإقامته في فرنسا غير شرعية, وتعتبر انتهاكا لقانون دخول وإقامة الأجانب.
القضية جرت أمام محكمة الاستئناف بتولوز وفي المكان الذي تقام فيه العدالة دون انقطاع منذ 1000 عام (بمناسبة إجراء إصلاحات على مبنى المحكمة المذكورة كُتب على لافتة كبيرة: هنا تقام العدالة منذ ألف عام) وتتلخص بأن السيد " أ " من الجنسية التونسية. تم توقيفه من قبل دورية للشرطة في 17 مارس/آذار 2009 بعد رقابة روتينية, تبين إثرها انه لا يملك أوراقا تمنحه الحق في الإقامة في فرنسا طبقا للقانون. اقتيد السيد المذكور بعدها إلى مقر الشرطة المختصة للتحقيق معه والتعرف على هويته وجنسيته وأسباب قدومه لفرنسا وكيفيته. واتبعت الإجراءات القانونية في قضيته . فتبلغ أثناء ذلك الحقوق التي يوفرها القانون له. حقه , من الساعة الأولى , في التحدث لمحامي يطلع على ظروف الحجز ونظاميته ومكان وزمان التوقيف, ومعاملته أثناء التوقيف والحجز. وحقه في أن يزوره طبيب يعاين حالته وإذا ما كان الحجز لا يلاءم وضعه الصحي. وحقه في مساعدة مترجم فوري له لضمان تبلغه حقوقه وإدلائه بأقواله والإجابة على الأسئلة باللغة العربية. إضافة لتزويده بأوراق مطبوعة سلفا تبين له حقوقه كاملة باللغة التي يفهمها. وجري تبليغ النيابة فورا بذلك بالهاتف. كما أُرسل المحضر إلى المحافظة Préfecture بالفاكس لتصدر هذه الأخيرة قرارا بالاقتياد إلى الحدود reconduite à la frontière . واقتيد بموجبه المحتجز إلى مركز الحجز الإداري بانتظار الترحيل ( المركز المذكور ليس سجنا ولا يتبع إدارة السجون, للمحتجز فيه حق استقبال الزيارة والاتصالات بمن يريد بمن فيهم محاميه. ولكنه مقيد للحرية لا يستطيع المحتجز الخروج الحر منه).
عندما لم تتمكن المحافظة من ترحيل السيد " أ " خلال ال48 ساعة التي ينص عليها القانون طلبت إحالته أمام قاضي الحريات والحجز juge des libertés et de la détention طالبة منه تمديد إقامته في المركز لمدة 15 يوما لتتمكن من الاتصال بقنصليته للتأكد من هويته واستصدار رخصة قنصلية تمكنه من السفر إلى بلده ( ولهذا القاضي وحده اختصاص قبول التمديد, أو رفضه إذا ثبت له عدم قانونية التوقيف أو وجود عيوب إجرائية. أو يخرجه من المركز لمحل إقامة معروف assignation à résidence على أن يثبت المعني وجوده يوميا بالتوقيع على سجل لدى شرطة محل إقامته).
طلب محامي الدفاع رفض طلب المحافظة بتمديد حجز المعني في مركز الحجز لأنه يسكن عند صاحبة له, مقيمة بصفة قانونية, وسيصبح أبا لطفلها معترفا بأبوته له. حجة لم يأخذها القاضي في الاعتبار لعدم الملائمة للشروط التي يفرض القانون توافرها في الأجنبي المحتجز لوضعه في إقامة معروفة ومضمونة خارج مركز الحجز. ومنها امتلاك جواز سفر ساري المفعول يُسلّم للشرطة فور دخول مركز الحجز, وتوفر مصدر مالي كاف لمعيشته إلى وقت الترحيل, وضمان الحضور للسفر في الموعد المحدد.
استأنف المعني قرار الدرجة الأولى الصادر عن قاضي الحريات والحجز والذي ينص على حقه بالطعن فيه بالاستئناف خلال 24 ساعة من تبلغه القرار.
وفي 25 مارس 2009 أكد الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتولوز قرار قاضي الحريات والحجز. معتبرا أن هدف الاستئناف المذكور هو المماطلة والتمديد والتهرب من التنفيذ. وحكم على المستأنف بغرامة مالية مدنية قدرها 300 يورو.
في 26 مارس/آذار 2009 تم ترحيل السيد " ا " إلى بلده تونس.
كان لهذا صدى كبيرا في الأوساط القضائية والقانونية, ولدى بعض منظمات حقوق الإنسان. فصدر بيان,نشرة صحفية, مشترك في 1 افريل/نيسان 2009, موقع من جمعية السيمادCimade (المهتمة بمساعدة الأجانب, وتقيم مكتبا لها في كل مركز حجز إداري, لتقديم المساعدات والاستشارات القانونية والإجرائية لهم, وتعريف الأجنبي بحقوقه, ومراقبة تلك الحقوق ومدى احترامها). ولجنة إعلام ومساندة المهاجرين GISTI . و نقابة محامي فرنسا Le Syndicat des avocats de France. ونقابة القضاء Syndicat de la magistrature , مستهجنا قرار محكمة الاستئناف المذكورة. بعنوان:
عندما ينال القاضي من مبدأ التقاضي على درجتين: انحراف محكمة استئناف تولوز.
بعد عرضه الوقائع المشار إليها أعلاه, اعتبر البيان/النشرة, أن القاضي قد ضيق حقا أساسيا, وهو الاعتراض بالاستئناف على حكم صادر بالدرجة الأولى. وحرّف بخطورة مبدأ التقاضي على درجتين. مبديا تعجب الموقعين واندهاشهم من تضييق حق الاستئناف بفرض غرامة مالية مدنية, في مواد سالبة للحرية في مراكز الحجز. مستنكرين القرار الصادر عن محكمة استئناف تولوز, آملين أن يبقى ردع الأجنبي المحتجز في استعمال حقه الأساسي في الاستئناف ضد قرار أو حكم صادر من محكمة الدرجة الأولى, بتخويفه بفرض غرامة مالية عليه في حالة خسارته استئنافه, معزولا, ولا يصبح سابقة قضائية و jurisprudence يُتّبع.
لم ينتصر أصحاب الإعلان /النشرة , فقط لأجنبي إقامته غير شرعية انتُقص حقه في الاستئناف بفرض غرامة مالية عليه لخسارته دعوى الاستئناف, وإنما, وبالدرجة الأولى, لما هو مساس بمبدأ قانوني أساسي, وهو حق التقاضي على درجتين الذي جاءت به الثورة الفرنسية, وتكرس إلى يومنا هذا. انتصار لنزاهة القضاء والوصول بحرية لكل درجاته, وللدعوى المنصفة, وان لا يدخل الاجتهاد الخاطئ, لقاضي في الدرجة العليا, ما يعرف بالقضاء الثابت وأحكام المحاكم, ليصبح مرجعية في القضايا المشابهة.
وأخيرا, ومن وحي هذه السطور, لا نعتقد أن القارئ سيمنع نفسه من طرح أسئلة على نفسه, بغياب حقه بطرحها على غيره, ومنها:
ـ لماذا نختلف نحن عن غيرنا فيما يتعلق بمفهوم الحق, والقانون, والقضاء, والنظام, والتنظيم ؟
ـ لماذا لم تترسخ في أرضنا, وفي عقول وقلوب إنساننا, قيم القانون وثقافته وروحيته؟.
ـ لماذا نفتقد لموهبة وضع القوانين؟
ـ لماذا نخاف ونحترم, احتراما كاذبا خشية ونفاقا, منتهكي القانون, ولا نخاف القانون نفسه ونزدريه ولا نحترمه ؟.
ـ لماذا نربط القانون بالشرطي, ولا نربط الشرطي بالقانون؟
ـ لماذا نجد عندنا, وعندنا فقط, نسبة كبيرة من رجال القانون يتعيشون على حساب القانون, ويحتالون عليه, ويجارون المتجاوزين على أحكامه, ويخرجونه عن قانونيته؟. ولا ينتصرون له مطلقا؟.
ـ لماذا تسود في مجتمعاتنا بعض المفاهيم التي تنشر الإعجاب "بشطارة " الخارجين على القانون؟
ـ لماذا الراسخ عندنا فقط و منذ أجيال وأجيال ــ والعصي على روح العصر و تطور الأجيال ــ هي الأعراف والتقاليد المتأصلة في النفوس و في الأذهان بشكل "قوانين", كالثأر القبلي والعشائري والأسري, والانتقام, وغسل العار, ورد" الشرف" المهدور والاعتبار, ولماذا هذا دون غيره يثير النخوة العربية , وفيه دون غيره الأنفة والكرامة, ولا تثيرها القوانين القمعية الهادرة للكرامة الإنسانية, المفروضة من الأنظمة السياسية, والأفعال التي تجعل من صاحب تلك النخوة والأنفة,والكرامة مجرد مستجد متسول رحمة, ولقمة عيش, على أبواب سلطات قهره, وأمام اصغر حمّال لأصغر مسؤولية؟
ـ لماذا عندنا, وعندنا فقط, يتردى كل شيء, يتردى الإنسان وكرامة الإنسان, وحقوق الإنسان, والمفاهيم المتعلقة بالإنسان؟.
لا يدعي أحد المقدرة على الإجابة الشافية على هذه التساؤلات, فهي متعلقة بمسائل عمر بعضها قرون, في مجتمعات أخرجت عن دورها بفعل تسلط أنظمة استبدادية عليها, ولم تستطع مجارات تطور الإنسان عبر القرون, ولم تستطع إنتاج حضارة أو تتمثل حضارة في غياب الشروط المطلوبة لذلك.
و لا تستطيع الإجابة عليها عبقرية الزعيم المعصوم, أو نخبة موهوبة ترى الأشياء كما تريد وتخطط لبقائها كما هي وكما تريدها. ولا الحزب القائد أو الأمير الرائد.
الإجابة تتطلب تضافر جهود رجال القانون, وعلماء الاجتماع, ورجال السياسة, (وليس الساسة بالصدفة والتسلق), والمؤرخين, والمفكرين والمثقفين, وكل الفاعليات الواعية في المجتمع, كل المجتمع, وبالروح الجماعية, والإرادة الجماعية التي تصبح القوانين التعبير الصادق عنها.
والبدء فيها يكون في الحراك الاجتماعي والجماعي, فالمجتمعات الآسنة, بفعل الشمولية, غير قادرة على العيش والتأقلم مع قيم وحضارة عصرنا المتطور المتحرك دون توقف ودون انقطاع.
ويوازي هذا ويرافقه تحرير العقل من الأوهام وعقد النقص, ليمارس خاصية التفكير بحرية, وعودة البصيرة للبصر, والجرأة للنفوس, والإحساس بالمسؤولية.
ولا يتوقعن أحد البدء بالإجابة, أو الوصول إليها, في غير دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان.
في مثل تلك الدولة يمكن أن يصبح الحق (بمفهومه الحضاري, المنصوص عليه بالقانون والمحمي بأحكامه) مصونا في بلداننا, ويجدّ طلابه في إثره إذا ما ضاع أو هدده الضياع. ويصبح القانون سيد الجميع, وانتهاكه يثير الضمير الجمعي. واستنكار القريب والبعيد.
د.هايل نصر
التعليقات (0)