قلت : ماذا تريدين أن تعرفي بالضبط .. فلقد طلبتِ مني ما يصعب تلبيته في هذه العُجالة ..
قالت : لا تقلق .. إننا لسنا في عجالة .. قل ما تشاء .. أنا أريد أن أسمعك فقط ..
اختفت الشمس وراء جبل الجوشن ، وبدت الحديقة المترامية عند أقدامه كتلة من الخضرة الداكنة والجمال .. والشارع الذي بينهما خال دوما من المارة ، تعبره سيارات نزقة مسرعة في الاتجاهين ، وتناهى صفير القطار منذرا بدخوله المجال المأهول ، يتهادى فوق سكة عرشه المنصِّفة للمدينة ..
مشينا على رصيفها العريض .. تحدثتُ عن مفردات متناثرة من حياتي ، لم أستعرضها بالترتيب المفيد ، كنت أتقافز فوق السنين والأحداث والمفاصل ، ببهلوانية تختزل في أحشائها ماضيًا كثيفا كغابةٍ استوائية ، دون أن تفجّر الدمامل المتقيحة ..
كنت في سباق مع نفسي ، أريد أن أصمت لأسمع ردَّها ورأيَها .. لكنها كانت تكتفي بالاستزادة ، وبأنها لم تصل إلى المحطة المبتغاة ..
لم أخمّن تماما ماذا تريد .. فهي تعرف إحداثياتي الأساسية من خلال ظروف تعاملنا الرسمي وغير المغلق .. وتعرف نمطي وطريقتي في التعامل مع المحيط ، وتعرف كثيرا عن سلوكي العام وتفكيري ، وربما ، وعلى مدار اجتماعات العمل الأسبوعية ، تفرّست شخصيتي ، وسبرتها من بعيد ، بعينيها الحادتين المختبئتين وراء خصلات شعرها الأسبل الكثيف الناعم ..
كان في عينيها ما يسمى " حولة الحسن " ، تبرزان فوق جسد يتكور كحبات الفِطر الأبيض الربيعي ليونة وطراوة .. وحين تضحك ، تضحك من قلبها ، فتضحك عيناها ، وتحمرّ الوجنتان ، وتتلون الصورة بكل ألوان الطيف ، بين بشرة بيضاء متوردة ، وشعر أسود مصفف بعناية ، ليخفي شيئا من تطاوُل الوجه المكلثم ..
كان حضورها في اجتماعات العمل طاغيا ، رغم تجنبها التظاهر أو التزاحم على المقاعد الأمامية .. وكانت تجلس حيث تجد مكانا شاغرا ، تضع رجلا على رجل ، غير آبهة بضيق بنطال الجينز الأزرق ، مسندة رأسها إلى إحدى يديها المنعقدتين فوق الصدر ..
قلما تتكلم ، أو تسأل ، أو تعترض .. كانت تصغي باهتمام ، حتى إذا ما سُئلت ، أجابت بدقة ونضج ، ينمّان عن سعة أفق مستمَدّ من امتداد انتمائها لحقول الجزيرة الشرقية .. فإذا تكلمت ، كانت واضحة ، مباشرة ، حاسمة .. وإذا كلـِّفتْ بعمل ، أدتـْه بسرعة وكفاءة ..
وعندما عرفتْ أننا ندرس الاختصاص الجامعي نفسه ، شعرتُ بأن ذلك أثار اهتمامها ، فصارت تتأخر بعد انتهاء الاجتماع ، بذريعة تبادل الخبرة في نماذج من أسئلة الامتحان ، والأمالي والملخصات ، رغم أننا في جامعتين مختلفتين ..
وحين سافرتُ لأداء الامتحان ، كانت في الأسبوع التالي ، مبكرة في الحضور ، متلهفة ، " لتطمئن " .. كما قالت .. وأضافت : إن لها صديقة لبنانية تدرس في نفس جامعتي واختصاصي ، ويمكنني الاعتماد عليها في تأمين ما يغنيني عن السفر إلا وقت الامتحان .. أسعدني عرضها ، خاصة مع استمرار تأزم الأوضاع اللبنانية في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي ..
كان مرور القطار بجانبنا فرصة توقفتُ فيها عن الكلام ، فيما لم يبدُ عليها أنها ستكف عن استزادتي ..
وإذ بدأت أصوات الضجيج تتلاشى وراءنا ، حجبتْ غلالة من الضباب أضواءَ الشارع ، فتوقفتْ أمامي وجها لوجه ، وقالت : ما رأيكَ لو قلت لكَ : أنا أحبك ..
لم يكن كلامها مفاجئا لي ، وكنت أدرك أنها تختبئ وراء إصبعها ، لكني لم أشأ أن أسرق رغبتها بتنفيذ خطة مسبقة الإعداد ، أو أن أفوّت عليها نشوة الاعتراف ، أو أن أمنعها من الارتماء في أعماق بحيرتي العذبة الباردة ..
قلت لها متظاهرا باللامبالاة : هذا شأنكِ ، وتلك قضيتك .. لم تعلـِّقْ ، بل تأبطت ذراعي واستدارت للعودة ، وقالت :
تريد أن تسمعني ؟
قلت بفرح : أتمنى ..
قالت : مصيبتي أنني فهمتك أكثر مما تعتقد ، وأحببتك أكثر مما تتصور ، وتعلقت بك وأنا أرقبك في كل مكان جمعنا ..
وكنت أسمع تعليقاتٍ وهمهمات وهمسات مختلفة عنك ، حاولت أن أجعل منها حاجزا يفصلني عنك ، لكن كلمة واحدة أخرى ، كانت كفيلة باجتياح حواجزي ..
أتعبتـَني .. وتعبتُ منك .. لكني غفرت لك حين لم ألحظ عليك انحيازا واحدا تجاه جميع الآخرين ..
كنت أبحث عن هفوة منكَ أدعّم بها حواجزي ، لكني لم أوفق ..
فهل كنتَ شديد البراعة حتى أخفيتَ عني ما لم أستطع اكتشافه ؟؟!!
أم كنت فعلا تتعامل معنا بنفس الروحية ، محافظا على مسافةٍ وديةٍ متساويةٍ مع الجميع ؟؟
في الحالتين .. أنا أقدّرهما لك ، ومن أجلهما ازداد تعلقي بك ..
قل فيني ، وعني ما تشاء .. لقد صبرت وفكرت وانتظرت طويلا حتى تأكدت من مشاعري ، وأنا متأكدة أنك ـ الآن على الأقل ـ لا تحمل لي مقدار ما أحمله لك ، لكني سأجعلك تهيم بي رغما عنك .. فلن تستطيع النجاة من شباكي .. لقد نسجتها بعناية وحرفنة وأناة .. وأنا أثق بأنك تتفهم حالتي ، ولن تجعلني في لحظة أندم على اعترافي ..
فلقد تابعت حواراتك مع الآخرين بكثير من التوق والشغف ، وذلك أيضا زاد في تعلقي بك ، ولا سيما بعد أن عبّرتَ عن كثير من المواقف التي ـ ربما لم تكن توجهها لأحد ـ لكنها وصلتني على الهواء مباشرة ، واستلمتها بعناية وفرح ، وفسرتها وفهمتها كما يجب ، وبنيت عليها قصوري وأحلامي معك ..
ولقد عارضتْ صديقاتي علاقتي بك ، وتحديتهم ، وشرحت لهن كثيرا من أفكارك ومواقفك التي شهدتها أو سمعتها .. وليس لهن عليك أي ملاحظة سوى أننا ننتمي لطائفتين مختلفتين ..
ولأننا كذلك ، كنت مصرة أمامهن على متابعة مشواري معك .. ولن يمنعني ذلك من أن أصغي لنداء قلبي .. وقد طلبت منهن أمس أن تضع كل واحدة منهن نفسَها في مكاني .. وتحكم عقلها ، وتعطيني قرارها ..
اثنتان منهن قالتا : لن تنصاعا لعواطفهما ، واثنتان ، ذرفتا دموعا ساخنة وهما تعانقانني وتباركان موقفي ..
قلت لهن بعدئذ : لقد فزت بالأغلبية .. فنحن ثلاثة والمعارضات اثنتان ..
ولم يتوقف الجدل بعد تفرقنا إلى بيوتنا ، فأكملناه عبر الأسلاك حتى الفجر ، وبقيت كلٌّ منا عند موقفها ..
صمتت بينما كنا نقطع الشارع المؤدي إلى بيتها ، ثم قالت
وهي تومئ إلى كنيسة مجاورة :
هل تعتقد أن علاقتنا هذه ليس لها منعكسات سلبية داخل الطائفة ، لو شاع الخبر ؟؟ لكني لن أتراجع ، ولن أتردد ..
توقفنا عند مفترق بيتها ، أمسكتْ بيديها يديّ الاثنتين ، وقالت : عِدني أن لا تتخلى عني مهما كانت الضغوط كبيرة ..
هززت رأسي موافقا ، ثم قلت : لن أتخلى ..
الثلاثاء ـ 01/03/2011
التعليقات (0)