مواضيع اليوم

ما حدث .. وما سيحدث .. الرؤية المستقبلية

عبد الهادي فنجان الساعدي
دعاني أحد الاصدقاء القدامى من خريجي قسم اللغة الانكليزية، والذين خدمتهم الظروف والحذاقة أن يختصوا بهذه اللغة السهلة الممتنعة التي اختصصت بها ايضا . الا ان حالتين من الحالات العراقية المزمنة هما اللتان سببتا عدم تواصلي باستمرار مع هذه اللغة الجميلة . اولاهما هي انني لم اكن مصابا بعاهة الانتماء الى حزب البعث ، والحالة الثانية هي اصابتي بفايروس الاهتمام الفطري المبكر بالادب والشعر ونهمي للقراءة .
نعود الى دعوة الصديق القديم للكتابة في احدى الصحف الامريكية بعد ان تجاوزنا مسالة اللغة حيث قال بان شروط الكتابة لهذه الصحيفة لا تشترط اتقان اللغة بقدر اتقان الفكرة .
لقد طرحت له معظم المواضيع التي نكتب بها في صحفنا العراقية والعربية اضافة الى المواضيع الموسوعية والتاريخية وما يشمل اللهجات المختلفة والاديان والمعتقدات والشعر واللغة وما يكتب في المجالات الثقافية والسياسية والمؤتمرات والتعليقات والطروحات المختلفة ، الا انه رفض كل ذلك وقال بانه يريد ((ما سيحدث .. لا ما حدث)) .. وهنا تذكرت مداخله كان قد عرضها الكاتب والصحفي المصري المعروف محمد حسنين هيكل في احد برامجه عندما عرض صورة للمفاوضات الامريكية – العربية ، المتمثلة بالجانب الامريكي .. والجانب العربي المصري . وكانت المفاوضات – من المفترض – أن تدور حول القضية الفلسطينية. كانت شروط المفاوض الامريكي هي (أن ينسى المفاوض العربي – المصري – التاريخ والجغرافيا القديمة وان يتفاوض على الوضع الراهن .. أن ينسى تاريخ الامة العربية وامجادها القديمة والحدود القديمة . ويتركز التفاوض على الوضع الراهن وما موجود على الارض الان فقط) أي القبول بالوضع الراهن والامر الواقع واعتباره امرا نهائيا وان تبدأ المفاوضات من هذه النقطة. لقد كانت صدمة للمفاوض العربي – المصري الذي كان في الحقيقة هو هيكل نفسه وقد اعادها بنفس الصورة ونفس الاندهاش السابق دون ان يضيف تحليله او استنتاجاته المستقبلية والانية .
(ومن هنا كان تجاوز الماضي بل محوه في السير العلمي امرا بدهيا ، فماضي العلم هو الخطا من حيث ان التعديل في العلم ليس على ما مضى بل على ما ياتي ولذلك فان العلم الغربي بحدوسه وبنتائجه التطبيقية هو الحدث الاكثر ثورية في تاريخ الانسان)(1).
اننا نتكلم ونكتب بنسبة 90% عن الماضي و 10% عن الحاضر أما هم وخصوصا الامريكان ، فيتكلمون ويكتبون بنسبة 10% عن الحاضر و 90% عن المستقبل. وفي حالة طرح الماضي وتجاربه والكتابة عنه فلا يتم ذلك الا لغرض الاستفادة منه في الكلام او الكتابة ولغرض توظيفه بشكل يخدم طروحاتهم المستقبلية والا فالماضي طواه النسيان وليس هناك من وقت لاعادة صياغته او صناعته لانهم يعرفون تماما انه في حالة اعادة صناعته سيصبح "معاد" .
(لا يزال الفرد المسلم – العربي في بنيته العميقة كائنا دينيا، سلفيا ، يرث اكثر مما ينتج وينقل اكثر مما يبدع ، لا يعيش دينه بوصفه تجربة روحية خلاقة في الوجود والمصير بل بوصفه اوامر ونواهي يسهر على حراستها الشرع والشرطي وفي هذا ما قد يفسر انعدام التجارب الانسانية الكبرى في العالم العربي – الاسلامي ، في جميع الميادين الثقافية وانعدام التساؤلات الابداعية الكبرى وفيه الى ذلك ما قد يفسر الاسباب التي تجعل المسلم العربي السلفي لا يعترف بغيره المختلف ، بوصفه شريكا له في الحقيقة ولا ينظر اليه تبعا لذلك الا بوصفه ضدا ، ونقيضا وضالا. وكان على الفرد في هذه الرؤية السلفية أن يعيش كمثل تمثال على صورة النص لا يتغير حتى ياذن الله)(2).
لقد وجدنا بان هناك اكثر من (3500) مركز دراسات مستقبلية في الدول المتقدمة ، نصفها في امريكا وهي مهيئة او لديها دراسات عن كل الامور المستقبلية أو المتوقعة في المستقبل القريب او البعيد . تقول احدى الباحثات في احد مراكز الدراسات هذه بان لديهم معلومات عن كل التوقعات المستقبلية للولايات المتحدة لمائة سنة قادمة . صحيح أن الغيب لا يعلمه الا الله ولكن الدراسات المستقبلية تستند في نتائجها على معطيات الحاضر وتجارب الماضي اضافة الى تحليل المعطيات والنتائج التي تتم الدراسة واستخلاص الحقائق من خلالها (علم الانسان ما لم يعلم)(3).
أن هذه المراكز بامكانها ان تعد دراسة بالف صفحة حول أي موضوع يطلب منها من قبل الرؤساء والوزراء والاكاديميين ورجال الصحافة ورجال الاعمال ويمكن اختزال الالف صفحة بمائة صفحة او عشر صفحات او حتى بصفحة او صفحتين وذلك بحسب أهمية المركز الذي يشغله المسؤول وكبر مسؤولياته .
لم تات العولمة اعتباطا انما هي نتيجة لمتطلبات العصر الحاضر في تهيئة الوسائل لمعرفة النتائج وقد اعترف الكثير من العلماء والباحثين باهمية التطورات التقنية في مجال الكومبيوتر ووسائل الاتصالات التي ساعدتهم في استخلاص تلك النتائج التي توصلوا اليها .
(قتل الانسان باسم الله والدين كما يقتل الحيوان ، قتل يفرغ الدين من معناه محولا اياه الى شكل من اشكال التوحش . هكذا بدلا من ان يكون الدين العون الأول للانسان في بناء عالم اكثر حرية واخاء ، واعمق انسانية، يصبح على العكس اداته الأولى في التاسيس لكل ما يفسد الحياة البشرية ويشوهها ويدمرها)(4).
أما نحن فنستخدم اخر المبتكرات العلمية والتقنية في عالم الاتصالات في ممارسة اكثر اعمال الانسان تخلفا ووحشية نستعملها في اقتناص الناس وذبحهم باكثر الطرق بشاعة في الحين الذي نرفض العولمة لاستيضاح المستقبل ، فنستخدم ادواتها في اعمالنا اليومية وبرمجة كل ما تركه السلف قبل الاف السنين من تراكمات وكانها مقدسات لا يمكن النقاش فيها حتى لقد اصبحت مسلمات او مقدسات حاجزه لاية خطوة من الممكن ان تؤدي بنا الى قليل من النور .
وهكذا نعرف الفرق الشاسع بين ما وصلت اليه الامم الاخرى وما وصلنا اليه .. لقد قطعوا الكثير من مسيرة الالف ميل الى الامام .. اما نحن فما زلنا نناقش ونشكل لجان تناقش الخطوة الأولى في مسيرة الالف ميل .. وهل هي للامام .. أم للخلف .

الحواشي:
(1) المحيط الاسود / أدونيس : ص50 / دار الساقي ط1 / 2005 .
(2) المصدر نفسه ص70-71 .
(3) سورة العلق الاية 5 .
(4) المصدر السابق ص101 .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !