ما بين الإستقطاب والمعادلات الصفرية
عرفت مصر ، كما عرف شعب مصر طوال تاريخه بالإعتدال والوسطية والمرونة والليونة ــ بغير إفراط ولا تفريط ــ فى كل شىء ، ولم يكن حتى مجرد التطرف ، أو التشبث بالمواقف ديدن أى فصيل أو جماعة سياسية أو إجتماعية أو حتى فرد عادى من أفراد المجتمع المصرى ، وذلك لأن ، ومما هو معروف بالضرورة ، أن التشبث بالمواقف ، وفرض الرؤى بالقوة ــ سواء كانت ناعمة أو خشنة ــ يقود إلى ، فضلا عن التخلف و الفساد والإستبداد ، إلى الجمود فى المكان والزمان ، ومن ثم الضمور ، و الهلاك فى نهاية المطاف .
ولعل تلك الميزة ، أو بالأحرى المزية ، والتى تكاد تكون متأصلة جينيا ، أو وارثيا بالفعل ، فى الوجدان المصرى الفردى والجمعى ، و على مر العصور ، كانت بمثابة ما يمكن تسميته ؛ بشفرة الإستمرارية الحضارية غير المنقطعة لمصر وللشعب المصرى منذ عهد الفراعنة وحتى الآن . فكما يذكر العديد من المؤرخين العرب والأجانب ، فضلا عن المستشرقين ، أن كل الحضارات الأخرى التى وفدت إلى مصر منذ الدولة الإغريقية مرورا بالرومانية فالبزينطية وحتى الفتح الإسلامى لمصر ، قد إنصهرت وذابت جميعا فى أصول وروافد الحضارة المصرية ، وليس العكس ، وغابت هى وبقيت مصر ..!
وإذا كان أصحاب الرؤى المفروضة بقوة السلطة والنفوذ ، أو ما يسمى بالأكثرية فى الشارع السياسى ، أو غيره من شوارع وحوارى وزقاق أخرى ــ وذلك فى أى عهد من عهود تاريخ مصر الحديث ــ ودون أية حجية منطقية وعملية ، أو "براجماتية" ، أو نفعية ، تستند إلى الواقع ، يرون أن ما يفرضونه هو الفضيلة المطلقة ، أو العدل المطلق ، أو الحقيقة المطلقة ، أو ما يسمى ب" الدوجما " ، ومن ثم فإنه واجب النفاذ والتطبيق ، ورغم أنف الجميع ، فإن ذلك سوف يكون مآله ، و فى نهاية المطاف ، أحد الأمرين ، أو كلاهما معا ، فأما أن يلفظ جينيا ، أو وراثيا ، على المستوى الفردى والجمعى ، أو أن يثور كافة أفراد و طوائف الشعب معا ضده ، وفى وقت واحد ، وذلك بدون أى تنسيق أو إتفاق أو حتى تخطيط وترتيب مسبق ، وكما حدث إبان ثورة 25 يناير ، وما يمكن أن يليها من ثورات أخرى محتملة الوقوع . فيا ليت ، ومن الآن ، أن يعتبر كل من يريد أن يعتبر بغير تكرار نمطى و ممل ــ ومكلف بطبيعة الحال ــ و غير موفق ، أو غير حصيف ، لللأخطاء ، وذلك لأن الكلفة فى هذه الحالة لن تكون على حساب فرد ، أو جماعة بعينها ، بل سوف تتحملها مصر كلها، و ليس فقط على حساب الأجيال القادمة ، ولكن أيضا من تاريخها ..!
إذن ما نراه الآن على الساحة المصرية ، ومن كافة الفصائل " المتناحرة " هو غريب ، وبعيد كل البعد عن طبائع مصر والمجتمع المصرى ، فضلا عن حركة التاريخ ذاته ، فليس من المقبول وفى ظل تلك الأجواء المشحونة ، و تلك الحالة الإقتصادية المزرية التى وصلت إليها البلاد ، أن يصر كل فصيل سياسى على موقفه ، أو مبدأه تاركا أنصاره فى الشارع ككتل بشرية تموج فى جغرافيا مصر ، و لا تعوق فقط حركة المواصلات ، ولكن أيضا حركة الإقتصاد المصرى ذاته ، والذى هو فى أمس الحاجة الآن إلى بعض الإستقرار ــ ولا أريد أن أقول ، وليعاذ بالله ، إلى غرفة الإنعاش ..! ــ لجلب وجذب وتشجيع الإستثمار الخارجى للإستثمار الحقيقى فى مصر ، وليس فقط عن طريق بيع أذون الخزانة ، والتى هى عملية إقتراض فى جوهرها وليس إستثمار ، ومن ثم فهى تشكل عبئا ، و فى نهاية المطاف على الإقتصاد المصرى ، تتمثل فى تسديد أعباء تلك السندات ، والتى منها الفائدة السنوية المفروضة ، أو المضروبة عليها ..!
إذن ليس من العيب ، كما ليس من التنازل المعيب ، ومن ثم الهزيمة ، فى شىء ، أن يتنازل كل طرف من أطراف العملية السياسية فى مصر على كل ، أو جل ، ما ليس عليه إجماع ، أو توافق وإتفاق بين النخب ذاتها من ناحية ، وكذا كافة أفراد وطوائف المجتمع المصرى من ناحية أخرى ، ودون أية إقصاءات ، أو "إستخفافات" ، بأى طرف ، أو فصيل ، أو حتى مجرد فرد عادى من أفراد المجتمع ، وذلك للوصول إلى حلول ، أوحتى حل وسط A compromise متوافق عليه ، يمكن أن يقود مصر وشعبها ، إلى بر أمان خلال تلك المرحلة الإنتقالية الصعبة والحرجة التى تمر بها البلاد ، والتى نتمنى أن تقل حتى عن الستة أشهر التى أعلنتها مؤسسة الرئاسة ، إن أمكن .
أما الإحتكام إلى المعادلات الصفرية الإقصائية الضيقة ــ ولا نتجاوز حتى إذا قلنا الشيطانية ــ والتى يتمسك كل طرف فيها بمواقفه ، أى إن كان هذا الطرف ، أو هذا الفصيل ، فإما أن تقبل كلها ــ ويرفض وفى ذات الوقت كل ما يطرحه الآخر ــ أو ترفض كلها ويكون عندئذ التهديد بكل الوعيد و الموت والثبور وعظائم الأمور لكل من إعترض عليها وحال دون تلبيتها ، فلن تقود إلا أصحابها فقط ، وفى نهاية الأمر ، إلى الإنزواء ، أو حتى الإندثار من الحياة السياسية ، وحتى الضمير الجمعى للمجتمع المصرى فى الأجل المتوسط ، والبعيد ، على السواء ..!
مجدى الحداد
نشر لى هذا المقال فى جريدة الوفد فى عدد الأحد الموافق 28 يوليو 2013 ، وذلك على الرابط التالى :
http://www.alwafd.org/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF/518869
التعليقات (0)