من المعلوم أن أبسط الأشياء التي لا نلقي لها بالا؛ عندما يطلب منا تعريفها نجدها أصعب؛ لما تتطلبه من الدقة والتوضيح.
وتعد اللغة من الأمور التي نجد عنتا ومشقة في تعريفها, وقد تضاربت حولها الآراء عند أكبر المهتمين بها وبعلومها. كلٌّ يذهب مذهبا خاصا بحسب ما يراه مناسبا لها لتقييدها.
فاللغة عندنا نحن ـ المسلمين ـ من النعم الإلهية التي كرم الله بها الإنسان، وفضله بها عن سائر الحيوان، فبها يتواصل لاستحالة عيش البشر في عزلة، كما تمثل الكون لأنفسنا في عقولنا ـ تعلم تصنيف الأشياء باستخدام الكلمات التي توفرها لنا لغتنا ـ .
فعبارة اللغة كما يقول ابن جني: ( حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم). ثم قال: ( وأما تصريفها فهي فُعْلة من لَغَوْت أي تكلمت، وأصلها لُغَوَ، ككُرة وقُلة وثُبة، كلها لاماتها واوات [ لقولهم كروت الكرة، وقلوت بالقلة؛ ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب.] وقالوا فيها لغات ولغون كثُبات وثُبُون. وقيل هي من لَغِيَ يلغى إذا هذى... وكذلك اللغو، قال تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما). أي بالباطل. وفي الحديث: من قال في الجمعة "صه" فقد لغا: أي تكلم.
وقال ابن الحاجب في مختصره: ( حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى).
وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول: اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني).
فاللغة إذن؛ هي عبارة عن أصوات ينتجها جهاز النطق في الإنسان، معبرا عن عما يحس به من حاجات يريد بيانها و الإيضاح عنها، وهكذا عرفها القدماء أيضا ـ كما رأينا ـ.
فالإنسان في هذه ا لحالة إما أن يكون منتجا لهذه الأصوات أو متلقيا لها، وعن طريقها يتم التفاهم بين الأفراد لتحقيق شبكة العلاقات الاجتماعية، ونشوء حضارة الإنسان. معنى ذلك أن اللغة هي ( الكلام) منطوقا أو مسموعا، أي أنها تتعامل مع عضوي اللسان و الأذن.
فاللغة إذا خاصية يتميز بها الإنسان وحده دون سائر الموجودات والمخلوقات؛ رغم وجود نوع من المستويات اللغوية لدى الحشرات والطيور والحيوانات؛ يتم بواسطتها التفاهم المشترك بين أفرادها. كما أثبتت ذلك البحوث العلمية.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير المياه، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، و نحو ذلك. ثم ولِّدت اللغات عن ذلك.
وأشار السيوطي عند استدلاله للغة هل هي توقيف أم اصطلاح؛ إلى أنها توقيف بتغليب بعض الآراء على بعض دون استدلال حاسم بات وقاطع. ولكنه يستدرك بقوله: ( ولعل ظانا يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة، وفي زمان واحد؛ وليس الأمر كذلك؛ بل وقف الله عز وجل آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه؛ مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله.)
فمن خلال هذا الكلام يتبين أن الكثير من العلماء يرون أن اللغة لم تنتج عن تواضع بين البشر بحسب الأغراض. وذهب بعضهم إلى تفسير التعدد اللغوي لكثير من الأمم واختلافه؛ وأرجعه إلى أن آدم تكلم مع بنيه بجميع اللغات ولما تفرقوا غلبت على كل واحد لغة معينة وتناسى الأخريات فظهر الخلاف.
ومن جهة أخرى، يذهب الباحثون إلى اعتبار اللغة تواضع بين مجموعة من الأطراف أكانوا بشرا أم غيرهم من المخلوقات. فالحيوانات ـ مثلا ـ لها أصوات خاصة للتواصل. فصوت القطة في حالة الغضب يختلف عنه في حالة الشجار، وعنه في حالة طلبها للطعام. والكلب كذلك وسائر أنواع المخلوقات.
ومن الأمور التي ينبغي التنبيه عليها؛ هو أن الأصوات التي ينطق بها الإنسان لها تحكم عقلي ظاهر، ونظام يتأسس بين مجموعة من الأطراف لا تخرج عنه، بل نجدهم يتوارثونه، وإلا أصبحنا أمام ضوضاء من الأصوات لا معنى لها كأصوات السيارات والاحتكاك لما فيها من الاضطراب. فالعقل هو الذي يمنح جهاز النطق المحدود ثراء و فاعلية لا حدود لها.
ولهذا الأمر نفسر الأمر الذي دفع علماء العربية في مبدإ اهتمامهم باللغة العربية؛ أن خرجوا إلى الأسقاع البدوية، وقاموا بجمع اللغة من أفواه الأعراب باعتبارهم الوارثين للغة الصافية عن الأجداد؛ غير مختلطة بغيرها من الأصوات الخارجة عن النظام المتبع في تركيب أصوات اللغة العربية.
وفي هذا ضرب للتواضع اللغوي بين الشعوب. أبو الأسود يحكى عن أن ابن أخيه حدثه بكلام مجهول فسأله عن ماهيته، فقال: حرف لم يبلغك، فأجابه أبو الأسود (يا ابن أخي، لا خير لك في حرف لم يبلغني). و هذا يوضح مدى التثبت في أخذ الكلام الذي يتداول عند الناس لا ما ينتجه الإنسان نفسه. هذا يحفظ لنا أيضا ذلك التداخل الذي قد يقع بين بعض اللغات من التشابه، وكمثال على ذلك كلمة (مات) في العربية و(mat) في اللغة الإنجليزية. فالأولى تعني الهلاك، والثانية تعني الحصيرة؛ رغم تساويهما في النطق. فكل لغة لها نظام عقلي للتعبير عن الموجودات بمفردات لها شحنات دلالية خاصة.
وهذا الأمر لا نجده فيما بين اللغات فحسب، بل قد نجده داخل اللغة الواحدة، فكلم (عين) قد تعني أشياء كثيرة، بل قد نجد نفس الكلمة تعني الشيء وضده ككلمة (الجون) التي تعني الأبيض والأسود. وهذا الأمر أيضا لا بد فيه من وجود ذكاء عقلي يسمح بتمييز المفردات التي تستعمل للتصريح أو التورية؛ لا ما تم التواضع عليه في اللغة البدائية، ووضع لفظ بعينه لكل معنى نود التعبير عنه.
من جهة أخرى نستنتج أن اللغة تعبر عن الهوية؛ باعتبارها تجرد عالم التجربة إلى كلمات، فاللغة مرتبطة بالوعي والعمليات الإدراكية.
وفي الوقت الحاضر أصبح مصطلح لغة يطلق على ما من شانه أن يميز أيَّ نظام عن الآخر سواء أكان لغويا أو غيره على جهة التوسع. فأصبحنا نسمع بلغة الإشارة، ولغة الكمبيوتر، وحتى لغة العيون كأنها لغات حقيقية توازي لغة الإنسان.
وفي الختام يذهب عالم النفس الأمريكي (سكيبنر) مؤكدا فكرة اللغة المكتسبة لا المتواضع عليها إلى أن اللغة عادة مكتسبة، مثلها مثل العادات المكتسبة عند الإنسان أثناء نموه من الطفولة إلى الرجولة، فالطفل يولد ذهنه صفحة بيضاء خالية من أي لغة تماما، و يتملك اللغة فيما بعد عن طريق التدريب.
التعليقات (0)