كان يتيماً فقيراً ..
اضطر للعمل بمحل للبقالة بالجملة للانفاق على نفسه على حساب دراسته التي أهملها ..
تطلع للزواج من ابنة صاحب العمل .. نهره صاحب المحل وأعطاه درساً ظلت مرارته في حلقه مدى عمره ..
أحس بالضآلة والتقزم والهوان ..
إلا أن أحاسيسه تلك انصهرت في بوتقة العزيمة فكانت وقوداً له من فصيلة التحدي والإصرار على إثبات الذات ..
غرس خنجر الصبر في قلبه فسالت دماء العزيمة .. تلونت بها أيامه ودفعته دفعاً للاجتهاد في دراسته وتدوين صفحات عمره بمداد الكفاح ..
ونجح .. حصل على مؤهله الجامعي بتفوق ما أهله للحصول على منحة لاستكمال دراسته الدكتوراة بفرنسا وعاد منها استاذاً جامعياً يضرب به المثل في الكفاح والاجتهاد والصبر على مكاره الأيام ..
في محاضراته بالذات يكون مدرج الكلية كامل العدد .. لا يتخلف أحد من عشرات مئات الطلاب عن حضور محاضراته..
كان رجلاً تتصارع ريفيته وبساطته مع جلال ورفعة منصبة .. كان مخلصاً إلى حد التجاوز في شرحه للمادة ..
قبيل نهاية احدى محاضراته حيث تتناقل أيادي الطلبة وريقات الأسئلة والاستفسارات من الخلف إلى الأمام حتى تستقر على منصتة ليجيب عليها .. وفوجئنا بامتقاع وجهه وتخشب جسده وتصلب عينيه على ورقة كانت بيده ..
قتلنا التطفل .. والخوف .. انتظرنا ..
ثم انطلق الحمم البركانية من فيه يقرعنا بعبارات شديدة الحنق ! .. كل ذلك ونحن لا نعرف لماذا .. حتى علمنا السبب ..
ذهب إليه سؤال من طالب متظارف منطوقه
( ما الفرق بين شهر الإفلاس وشهر العسل .. وما الفرق بين آثار الإفلاس وآثار الحكيم ) !!
بمجرد أن قرأ العميد السؤال علينا حتى انفجرت قاعة المحاضرات بأكملها في الضحك الهستيري لطرافة السؤال وخفة دم سائله وظهوره بطعم الصودا الباردة في اليوم شديد الحرارة ..
كسر السؤال حدة الجدية .. وأشاع جواً من المرح لم تشهده تاريخ محاضرات العميد الصارم .. ثم بدأ العميد يتكلم .. وهو الرجل المعروف عنه ضربه لسياج حديدي من الحظر على حياته الشخصية ..
رويدا رويدا تخفت أصوات الصخب مع استرسال عميد الكلية في الكلام حتى عاد المدرج إلى الصمت الرهيب ..
حزن العميد بشدة من سؤل الطالب المتظارف الذي أراد منه أن يهزأ به ويسخر منه ومن لغته الريفية البسيطة .. وفهم مغزاه..
فتحدث العميد عن رحلته الدراسية إلى فرنسا التي سافر إليها عازبا عازفا عن متع الحياة لا يشغله إلا الدراسة..
وكيف كان يعمل للانفاق على نفسه وأسرته .. وكيف كانت المغريات حوله من كل مكان في فرنسا عاصمة النور والأضواء والسحر ..
كنا منصتين .. منبهرين تأثراً برحلة الكفاح الشاقة للدكتور العميد الذي أراد من سردها أن يقول أنه لم يعرف طعم ذلك العسل الوارد في السؤال.. ولم يصل إلى ترف مشاهدة فن الفنانة آثار الحكيم ..
فقد كانت حياته حتى في (بلد العسل) حسب قوله ملحمة كفاح وحفر في الصخر وحرص على النجاح حتى الموت ..
ومذاق الحرمان لا يغادر قلبه .. ومضى يتحدث ..
كانت الكلمات تخرج من قلبه .. والدموع تتأرجح في مآقينا.. حتى وصل إلى عبارة :
" في فرنسا وفي شهر رمضان كنت صائماً وكنت أفطر على الخبز الجاف والماء توفيراً لمصاريف أرسلها لأهلي في مصر"
صمت العميد برهة ..
فترقرقت الدموع في عينيه ..ولكنه احتبسها ..
هنا انفجرت قاعة المحاضرات المكتظة بما يربو على الألفي طالب الذين هبوا جميعاً واقفين. .
والتهبت الأكف بالتصفيق الحاد المتواصل بلا انقطاع . تأثراً ..وحباً .. وتقديراً.. وتوقيراً..واحتراماً.. وإجلالاً ..وتعظيما ..
وانحفرت في ذاكرتي منذ تلك الواقعة وفي عقلي الباطن الصورة المهيبة للأستاذ الجامعي والمفعمة بالرصانة والعلم والقريبة تماما من وصف شوقي للمعلم الذي كاد أن يكون رسولا..
وبعد ما يربو على العشرين عاما مرت على هذه الواقعة ..
فقد جرت في مصر أنهار كثيرة تلونت مياهها بالشوائب والطحالب حتى تسممت ..
وانتهى الأمر إلى صورة مفزعة مقززة للأستاذ الجامعي بدرجة عميد..
وبطلها عميد كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا " صار عميدا سابقا" ..
والذي شرعت في كتابة هذا المقال بشأن مصيبته الرهيبة..
ولقد أحببت أن أوطد للمقال بواقعة تدلل على الصورة التي كنا نعرفها عن الاستاذ الجامعي بدرجة عميد كلية منذ عشرين عاما ..
ثم أعرج إلى ما اعتراها من ثقوب وندوب وتقرحات في ظل عهد الفكر الجديد وللمقارنة بين الصورتين ..
إلا أن المقال انفلت مني بسبب الاسترسال ..
مما سيضطرني إلى اتباعه بمقال آخر مكمل عن مصيبتنا في رموزنا والقائمين على تربية ابنائنا وتعليمهم ..
فللحديث بقية ..
التعليقات (0)