تعتبر قضية الصحراء إحدى أقدم القضايا المعروضة على الهيئات الدولية للبث فيها رغم صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بلاهاي الذي أقر صراحة وجود روابط للبيعة بين المملكة المغربة و سكان الإقليم و أن أرض الصحراء لم تكن أرض خلاء كما كان يدعي المستعمر الاسباني. لكن يبقى الحدث الأبرز في تاريخ التدبير السياسي لهذا الملف هو المبادرة الجريئة - عبر مقترح للحكم الذاتي الموسع - الذي تقدم بها المغرب و الذي بموجبه تمنح لساكنة الصحراء صلاحيات واسعة في تدبير شؤونهم السياسية و الاقتصادية و الإدارية و القضائية مع الاحتفاظ برموز السيادة للمملكة المغربية كالعلم الوطني و العملة والسياسة الخارجية مع خضوع ذلك لاستفتاء شعبي لسكان الإقليم.
المبادرة لاقت دعما دوليا لافتا و إجماعا وطنيا لا يحتاج لبرهان في مقابل تعنت و شراسة منقطعة النظير من الجزائر التي ما فتأت تدعي أنها لا ناقة لها و لا جمل في قضية الصحراء غير أن واقع الحال يفضح عكس ذلك. دوافع الجزائر في عرقلة أي حل في الصحراء سواء الحكم الذاتي أو غيره لم تعد نابعة فقط من الرغبة التاريخية للجزائر في إضعاف المغرب و إيجاد منفذ على المحيط الأطلسي و لكن حجم التحولات التي يعرفها المغرب سياسيا وحقوقيا و قدرته على إطلاق مشاريع اقتصادية ضخمة ومبادرات اجتماعية و تنموية نالت وتنال تنويه المجتمع الدولي و المؤسسات الدولية، أضف إلى ذلك المستوى المعيشي و التنموي الذي أصبح يعيشه المواطن في تونس الجارة الشرقية للجزائر. هذين التجربتين المغربية و التونسية خلقتا حالت حصار وإرباك للمستفيدين من وضعية الجزائر، ففي الوقت الذي تسجل الدولة الجزائرية مداخيل خيالية من عائدات الغاز يعيش الشعب الجزائري في الفقر و الظلم و الضياع. هذا الأمر يدفع النظام الجزائري إلى تحصين استمراره جاثما على أنفاس الشعب الجزائري من خلال إلهاءه بقضية لا علاقة له بها من جهة و من جهة أخرى لا مصلحة للعسكر في الجزائر إذا ما تطورت التجربة الديمقراطية المغربية في المنطقة، فالديمقراطية معروف أنها تعدي .من هنا تتبادر مجموعة من الأسئلة المرتبطة بطبيعة و خلفية وآفاق السلوك الجزائري الشاذ و المعاكس لمنطق التاريخ و الجغرافية ، من قبيل ألا يفتح إقرار و تنزيل الحكم الذاتي بالمنطقة أبواب جهنم على العسكر في الجزائر من خلال سقوط مبرر استمرارهم في نهب خيرات ارض الجزائر ؟
ألا يشكل تثبيت الحكم الذاتي و عيش سكان الصحراء في خير و كرامة زعزعت للجزائر عبر تحرك الشارع الجزائري للمطالبة بخبزه و غازه و صوته؟
ثم إذا كانت ملائكة قصر المرادية يريدون فقط خير و سعادة و رفاهية سكان الصحراء لماذا هذا النزيف الحاد الذي تعرفه المخيمات لماذا هذا الخروج اللافت لقيادات من البوليساريو ملت و اكتشفت إلى أي حد يرفض النظام الجزائري أي حل للقضية لأنه ببساطة يستمد منها كل مبررات نهب و سرقة الجزائريين واستمراره في تزوير إرادة الشعب الجزائري. الجزائر تعرف جيدا أن صراعها مع المغرب لم يعد صراع جغرافيا فقط بل اتخذ من كل مجالات الحياة العامة جبهة للصراع غير أن الخلفيتان في كل من المغرب و الجزائر تختلفان جذريا فمغرب محمد السادس ومنذ خطاب العرش الأول وضع الشأن الداخلي بمعنى تنمية الإنسان المغربي و البحث عن سعادته و رقيه أولوية قصوى في الوقت الذي لم تستطع الجزائر من تحقيق أي حد أدنى من الإجماع الوطني حول أي من الملفات يكفي هنا أن نقارن عمل هيئة الإنصاف و المصالحة بالمغرب مع مشروع الوئام الوطني بالجزائر .
ففي المغرب استطاعت هيأة الإنصاف و المصالحة أن تطوي إلى حد بعيد ملفات حقوق الإنسان في الماضي من خلال آليات قانونية و مؤسساتية استطاع معها المغاربة أن يفتحوا صفحات جديدة من ثقافة دولة القانون و أدبيات حقوق الإنسان رغم بعض الممارسات التي تبقى محدودة و تستدعي المزيد من الانتصار لمبادئ حقوق الإنسان أفرادا و جماعات و استطاعت هيأة الإنصاف و المصالحة من جبر كثير من الضرر سواء الفردي والجماعي و لعل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي يشرف عليها الملك شخصيا و يوليها أولوية كبرى تعتبر من اكبر حلقات جبر الضرر من خلال استدراك حاجيات المواطنين المادية و الإنسانية
أما في الجزائر و من خلال تصريح لوزير خارجية الجزائر الأسبق احمد طالب الإبراهيمي لجريدة الشرق الأوسط يؤكد أن مسعى المصالحة والوئام المدني الذي جعله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عصب سياسته و مشروع دولته و مرتكزا أساسيا لتواجده على رأس النظام الجزائري . لم يكن على حد تعبير الإبراهيمي إلا قفازا لتغطية استمرار سياسة الإقصاء من جهة . و من جهة أخرى يقول وزير الخارجية الأسبق للجزائر لقد فشل المشروع و توقف دون تحديد أية أهداف أو إقناع القادة السابقون لجبهة الإنقاذ الإسلامية بالعودة إلى ممارسة السياسة على مقاص الجيش. بل ذهب الوزير السابق ابعد من ذلك عندما أكد أن الصراع بين الرئاسة و الجيش لا يشمل شرعية الوجود بدل فقط حول اقتسام مجال النفوذ و لهذا فالجزائر الرسمية ترى في تقدم المغرب على مستوى حقوق الإنسان تشويشا على تحكم العسكر في رقاب الشعب الجزائري فما بالك عندما تتم ممارسة الحكم الذاتي بالصحراء بما يتيح ذلك للسكان من حقوق و امتيازات ستفضح لا محالة أطروحة الجزائر التقليدية، هذه الحقوق و الامتيازات التي ينص عليها مشروع الحكم الذاتي للصحراء تظهر في الفصل الثالث للمبادرة الذي يقول صراحة » تندرج هذه المبادرة في إطار بناء مجتمع ديمقراطي حداثي، يرتكز على مقومات دولة القانون والحريات الفردية والجماعية و التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهي مبادرة واعدة بانبثاق مستقبل أفضل لسكان الجهة، فضلا عن أنه من شأنها أن تضع حدا للمعاناة من الفراق والنفي وأن تساعد على تحقيق المصالحة. «و من خلال الفصلين 25 و 26 من مقترح الحكم الذاتي إذ ينصصان على تمتع سكان الجهة بكافة الضمانات التي يكفلها الدستور المغربي في مجال حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا. و كذا على توفر جهة الحكم الذاتي للصحراء على مجلس اقتصادي واجتماعي يتشكل من ممثلي القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والجمعوية، ومن شخصيات ذات كفاءات عالية.
خصوصية النظام السياسي في كل من المغرب و الجزائر تعتبر واجهة أخرى تهدد النظام الجزائري في حال تسوية مشكل الصحراء عبر الحكم الذاتي: ففي المغرب و بعد الاستقلال الكل يعرف حجم الصراع الذي عاشته الملكية بالمغرب خصوصا مع من كانوا يحملون فكرا انقلابيا سواء من العسكريين أو من بعض التيارات السياسية التي كانت موضة الستينات و السبعينات، المتمثلة في النموذج الشيوعي أو القومي أو الدولة الدينية خصوصا بعد سطوع نجم تيار الإخوان المسلمين و التيارات المشتقة منه أو المعجبة به. هذا الصراع حُسم في المغرب بالاحتكام إلى التاريخ و الحق والحكمة و الحوار على اعتبار أن المغرب لم يجرب منذ قيام الدولة الإدريسية أي أسلوب في الحكم غير الملكية القائمة على إمارة المؤمنين المستمدة قوتها من البيعة و الإجماع لتبقى المحاولات الانقلابية التي عرفها عهد الحسن الثاني حالات منعزلة في تاريخ المغرب. من هنا يكون التدافع السياسي بالمغرب تدافع مبني على الاختلاف في التصورات التدبيرية و الاجتماعية للشأن العام تختلف من حزب لآخر مع تسجيل مراكمة نوعية و كمية و نضج في الممارسة السياسية منذ الاستقلال مع قدرة النظام المغربي على استيعاب و إدماج الأطراف التي كانت خارج الإجماع كاليسار المتشدد على عهد الحسن الثاني و جزء كبير من الحركة الإسلامية، لكن الكل يشتغل تحت سقف أصبح اليوم مصدر استقرار للمجتمع المغربي ولمستقبله مع ضرورة تطويره و إصلاحه في أفق إبداع نموذج مغربي من الجهوية الموسعة يعطي للنخب المحلية هامشا أكبر من الممارسة والتدبير. أما في الجزائر فإن السمة المميزة للنظام الجزائري منذ استقلال الجزائر هي اللااستقرار و الانقلاب و في أحسن الأحوال وجود رئيس شكلي تحت وصاية المؤسسة العسكرية التي تعتبر نفسها المعنية بتدبير حياة الجزائريين و الوصية على أصواتهم و خيراتهم، فالصحفي الجزائري يحيا أبو زكرياء المقيم بستوكهولم يرى أن الانتخابات الجزائرية توحي أن المواطن في الجزائر يلعب دورا مهما في العملية السياسية بينما هو لا يقدم و لا يؤخر في تنصيب الرئيس و هذه الخاصية صاحبت النظام السياسي الرسمي في الجزائر منذ عهد الرئيس أحمد بن بلة الذي أوصله الجيش إلى سدّة الرئاسة، مُنهيا الخلاف بين ثوّار الأمس حول مسألة: مَنِ الأولى بتولي الحكم في الجزائر بعد مغادرة فرنسا الجزائر؟
وقد أطاح وزير الدفاع الجزائري هواري بومدين بالرئيس أحمد بن بلة سنة 1965م؛ ليحققّ بذلك التزاوج الكامل بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية الجزائرية التي كان بومدين على رأسها، بل ليكرّس الاتحاد بين المؤسسة العسكريّة وحزب جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم الأحادي في تلك الفترة في الجزائر. وبعد وفاة هواري بومدين أو اغتياله؛ اختارت المؤسسة العسكريّة العقيد الضعيف الشاذلي بن جديد الذي فاجأ اسمه جميع الرسميين في الجزائر، وكان اختيار الشاذلي بن جديد مقصوداً، وتبقى أهم محطة من بين محطات تدخل المؤسسة العسكرية و استفرادها بالحكم في الجزائر هي الانقلاب على صناديق الاقتراع و إسقاط الشاذلي بن جديد و إدخال الجزائر في دوامة من الحرب الداخلية امتد لظاها إلى ابعد من الجزائر عبر تفريخ الجماعات المقاتلة التي استفادت من وجود البوليساريو للتسلح و خلق بؤرة للإرهاب من اشد المناطق صعوبة في التطويق. أمام هذا الانهيار الذي عرفه النظام الجزائري سيلجأ العسكر في الجزائر إلى استدعاء محمد بوضياف الذي كان يعيش بالمغرب في محاولة للاستنجاد بالشرعية التاريخية التي كان يحظى بها بوضياف على حساب الشرعية الانتخابية التي كان تحظى بها جبهة الإنقاذ . بعد اغتيال بوضياف تمت العودة لبوتفلقة و دائما حسب الصحفي و الباحث الجزائري يحيى أبو زكرياء، هذا التنصيب لبوتفلقية كان على أساس توافق بينه و بين المؤسسة العسكرية.
من هنا تظهر خطورة تسوية مشكلة الصحراء فانتهائها يعني سقوط المبرر الذي يسوقه العسكر كي يستمروا في لعبة تنصيب مؤسسات رئاسية لا تسمن و لا تغني من سياسة و الكل يعلم انه لا يمكن بناء دولة المؤسسات دون حد أدنى من الاستقرار السياسي الذي تمثله مؤسسة رئاسة تحظى برضا الشعب، و الجيش الجزائري يعي جيدا هذه الجزئية لذلك يعمل كل ما في وسعه لكي يستمر مشكل الصحراء و معه تستمر معانات الآلاف من المحتجزين الذين وصل بهم اليأس إلى الإقدام على الفرار من مخيمات تندوف بالجملة مع ما يحمله ذلك من مخاطرة كبيرة.
من المخاوف المركزية التي تعتري الجزائر هو مصير العناصر المسلحة الجزائرية و غيرها من المرتزقة المجندة في صفوف البوليساريو على اعتبار أن مقترح الحكم الذاتي بنص على إدماج التائبين و العائدين في صفوف الجيش المغربي في حين ستكون الجزائر مسؤولة (أخلاقيا) و سياسيا على تدبر حال الغير مغاربة في صفوف البوليساريو، هؤلاء حتما سيكون مصيرهم أشبه بمصير ميلشيات جنوب لبنان التي كانت عميلة لإسرائيل و بعد تحرير الجنوب وجدت نفسها هذه الميليشيات تائهة سياسيا و جغرافيا و بالتالي فهم يطرحون مشكلة أولا قانونية دوليا و الأخطر أنهم قد يتحولوا إلى رصيد بشري تستفيد منه المجموعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة مع ما يحمله ذلك من تهديد للسلم في المنطقة وللجزائر نفسها على اعتبار أنها من كونهم و دربهم.
من جهة أخرى يعرف المغرب حركية قوية من أجل تحصين الحكامة الترابية داخليا من خلال الانكباب على بلورة نموذج للجهوية الموسعة يقلص من صلاحيات المركز و يوسع من صلاحيات الفاعل المحلي، هذه الصلاحيات حددها الخطاب الملكي لعيد الشباب ل 20 غشت 2010 في أربع مرتكزات و هي" أولا : إنضاجه (مشروع الجهوية الموسعة)بالتعريف به، من خلال نقاش وطني واسع وبناء، وبالتعبئة الهادفة إلى تبنيه الجماعي، والانخراط القوي لإنجاحه." بما يعني ذلك من فتح لقنوات الحوار بين مكونات المجتمع و خلق ثقافة البناء التشاركي و رفع قيمة سهم الفاعل السياسي محليا.
" ثانيا : وضع خارطة طريق واضحة ومضبوطة، لحسن تفعيله، بخطوات متدرجة، وبواسطة الهيآت المؤهلة، والآليات المؤسسية والتنموية الملائمة والناجعة." مما يدفع إلى إبداع منظومة مؤسسات كفيلة بأن تجعل المغرب ورشا للنقاش العمومي و يعطي روحا أقوى للمؤسسات .
" ثالثا : انكباب الحكومة، بموازاة أعمال اللجنة، على إعداد ميثاق لعدم التمركز; يقوم على نقل الصلاحيات والموارد البشرية والمالية اللازمة للجهات. إذ لا جهوية في ظل المركزية." الشيء الذي سيقلص من بنية الإدارات المركزية و يحد من التبعية الإدارية لها و يعطي للمصالح الخارجية هامشا كبيرا من حرية الإبداع و سلطة التقدير حسب خصوصيات الجهة
" رابعا : المساهمة الفعالة للأحزاب الوطنية الجادة، في إعداد و تأطير نخب مؤهلة لحسن تدبير الشأن الجهوي." الشيء الذي يعني أن مؤسسات المجتمع السياسي لها دور محوري في تنشيط الجهوية الموسعة و خلق الكوادر الإدارية المسيسة و القادرة على تدبير الشأن الجهوي.
هذه الأوراش الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية تشكل في مجملها مشروعا مجتمعيا في المغرب في حين تعيش الجزائر حالة فراغ مشروعي لتعيش على قضية ليست قضيتها و يبقى المشروع الديموقراطي للمملكة المغرب أكبر ما يأرق الرسميين الجزائريين و يدفعهم لعرقلة اية تسوية في المنطقة، ببساطة شديدة لأن السلام في المغرب الكبير يعني سقوط المؤسسة العسكرية الحاكمة في الجزائر.
التعليقات (0)