يجتمع السعوديون على أن الراتب الذي يتقاضاه الموظف من الوظيفة الحكومية هو صمام الأمان ضد الفقر مهما كان محدودا ، كما هي الوظيفة الحكومية مصدر الشعور بما يسمى "الأمن الوظيفي" لدى كل موظف في القطاع العام .
وعلى الرغم من أن هذه حقيقة لا تحتمل النقاش إلا أنها ليست السبب الوحيد الذي يرفع معدل الطلب على الوظائف الحكومية إلى الحد الذي يجعل أغلب الباحثين عن الوظائف من خريجي الجامعات والكليات والمدارس الثانوية يتجهون للبحث عن أي وظيفة حكومية حتى لو لم تتلاءم مع المؤهلات العلمية التي يحملها طالب الوظيفة ، بل أن البعض يفضل الانضمام إلى طابور العاطلين عن العمل على الالتحاق بوظيفة في القطاع الخاص مما ساهم في ارتفاع نسبة البطالة في السعودية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن .
إذا ، هناك دوافع أخرى تقف وراء تفضيل الوظيفة الحكومية على غيرها من مجالات العمل ، وهي دوافع اجتماعية ساهمت الظروف الاقتصادية والإستراتيجية التي واكبت بدايات التنمية في تعزيزها .
ومن أهم هذه الدوافع : طبيعة التكوين الاجتماعي الذي يشكل النظام القبلي أغلبه ، وأوجه التشابه والتقارب الكبيرين بين نمط علاقة الرئيس في المؤسسة الرسمية بمرؤوسيه ، وهي العلاقة التي تتداخل فيها العوامل الشخصية بمرونة الأنظمة واللوائح ، وبين نمط علاقة رئيس القبيلة بأفراد قبيلته وهي العلاقة التي تقوم على الكاريزمية !.
أضف إلى ذلك الهدف من التوظيف ، فالوظيفة الرسمية عند العرب وسيلة لغاية محددة تتمثل في أداء مهمات محددة تحكمها الأنظمة واللوائح وليست وسيلة لإنتاج الأفكار المبدعة لتطوير المجتمع وتقدمه وفق استراتيجيات عليا تكاملية ولذلك نجد أن تنمية المواهب في المؤسسات التعليمية أمرا ثانويا أن لم يكن معدوما وبالتالي فلا غرابة أن تكون الأساليب التعليمية أكثر تخلفا وأن تنعدم عوامل تشجيع الإبداع والتفكير المبدع وتفجير طاقات قوى العمل والإنتاج ، وهذا أمر ثابت وسبب رئيس من أسباب تخلفنا !.
وبفعل معدلات النمو السكاني المتزايد في مقابل التوقف النسبي للمشروعات التنموية لأسباب مختلفة وقصور أفق الخطط الإستراتيجية المتوسطة وبعيدة المدى ظهرت إشكالية أخرى "عبئوية" وهي ظاهرة ما يعرف بالبطالة المقنعة والتي يتحول بسببها الموظف في الغالب إلى مجرد بائع "وقت"، وبتعبير آخر: مجرد طرف "ثان" في عقد ينص ضمنا على حضوره وانصرافه في أوقات محددة وفي مكان يحدده "الطرف" الأول !.
أما ذلك الموروث الثقافي الذي يمجد السلطة والقوة حد التقديس فهو مما يكسب البحث عن وظيفة حكومية أهميته عند العرب ! وكذلك "غائية" السلطة في الثقافة والوعي المجتمعي .. بمعنى : السلطة عند العرب غاية في حد ذاتها وليست وسيلة .
والوظيفة الحكومية – كتعويض نفسي – تقوم مقام السلطة لدى من لم تخدمه الظروف بولاية أو مكانة اجتماعية أو زعامة قبيلة !!
ومن المعروف ما للوظيفة الحكومية في الكيانات التي ما تزال تحافظ على الموروث "الماكس ويبري" من امتيازات مكتسبة اجتماعية وشخصية وتنظيمية أيا كان موقعها من السلم الوظيفي .
ومما تمنحه الأنظمة واللوائح للرئيس المباشر على مرؤوسيه من آليات التسلط :
أن كل موظف "ناصيته معقودة"بمزاجية رئيسه ورضاه عنه ، وبيده ترقيته ، وبيده ترشيحه للدورات التدريبية ، وبيده تقييمه السنوي ، وبيده نقله ، وبيده استحقاقه لكل منحة ومنحة .. وبيده عصا (المصلحة العامة !) . وفوق هذا وذاك بيده مصالح الناس وخدماتهم وكل ما يؤثر سلبا أو إيجابا في حياتهم !.
وبسبب هذا الواقع أصبح الكثير من العبارات والمفردات الشعبية المظللة والمزيفة للحقائق جزءا من القاموس اللغوي في أدبيات الإدارة في المجتمع السعودي وهي عبارات يتداخل ويمتزج فيها النفاق مع الإطراء والخوف مع التملق !!
وعلى الرغم من توقف مستقبل الموظف على رضا رؤسائه إلا أنه يدرك أن قدراته الذاتية في مجال التطوير والإبداع والتفكير العلمي والإبداعي ليست مما يكسبه رضا رئيسه على الإطلاق لكونها عوامل ثانوية أن لم يشوبها التردد والتوجس ريبة فتكون مواجهتها بالتجاهل وربما الإنكار وفي أحيانا العقوبة المغلفة بشهادة تقدير !!
ومع انتشار ظاهرة (الواسطة) التي تشكل أحد أجنحة الفساد أصبح الباحث عن وظيفة لا يعول كثيرا على كفاءته ومؤهلاته العلمية وقدراته الذاتية ولا على نسب تقديرات تخرجه مهما كانت مرتفعة .
هذا جانب فقط من سلطة الرئيس وآلياتها داخل الهرم التنظيمي من الإدارة الدنيا حتى رأس هرم المنشأة أو المؤسسة أو الهيئة أو الجهاز الحكومي .
فماذا عن الموظف (العادي) ؟!
لن أتكلم هنا عن حال المواطن لحظة وقوفه أمام أصغر موظف في "الدائرة" كما تسمى أحيانا ، ولا عن شعور الموظف بالزهو في اللحظة ذاتها .. إذ تكفي عبارات الاستجداء والتوسل و(الإستفزاع) والرجاء المذل فضلا عن عبارات المديح والتبجيل والإطراء ، ولو كان كل مواطن فرزدقا لكان كل موظف خليفة للمؤمنين !!
وفي المقابل ، وكنتيجة مباشرة وغير مباشرة لما تقدم فأنه قليل ، وقليل جدا ، أن تجد سعوديا يعمل في مجال صيانة الأجهزة الالكترونية أو الكهربائية أو المعدات والآلات الميكانيكية ، وأن أضطر أحد للعمل في هذا المجال (صيانة الأجهزة والأعمال الفنية الأخرى) فلن يرضى بغير "كرسي" مدير الورشة ، بينما جميع العمالة فيها من الأجانب !! .. ( فالرئاسة والمديرة ) شيء يجري في العروق !!
وربما لأجل كل ذلك أتى التوجه من الجهات ذات العلاقة كوزارة العمل ووزارة الخدمة المدنية بالحد من التوظيف في القطاعات العامة في محاولة لدفع الشباب إلى القبول بالعمل في القطاع الخاص والمشروعات الصغيرة الخاصة والمجالات المهنية والفنية . ولكن دونما معالجة جذرية لمشاكل القطاع الخاص ، والعمالة الوافدة ، والحد الأدنى للأجور ، وغيرها من الإشكالات المتجذرة ، ودون أدنى محاولة لإيجاد عوامل حقيقية يمكن من خلالها تغيير المفاهيم والانطباعات الذهنية السلبية تجاه كثير من المهن الفنية واليدوية ، وإيجاد آليات فعالة ومؤثرة في مجال الترغيب والتشجيع والتحفيز المادي والمعنوي للإقبال على الأعمال المهنية والفنية المباشرة .
وعلى هذا الأساس بقي الوضع قائما وكان من نتائجه :
أن ظل القطاع الخاص ينظر للموظف السعودي بسلبية تامة ، وظل مستفيدا من رخص أجور العمالة الوافدة الدنيا ، في الوقت الذي تدفع فيه بعض الشركات امتيازات مبالغ فيها ورواتب مبالغ فيها بشكل أكبر للمدير الأجنبي !! وعرف العمال الأجانب من أين توكل الكتف فحصدوا أكثر من 100 مليار ريال يتم تحويلها إلى بلدانهم في كل عام من أعمال يحتقر السعودي امتهانها إلا أن يكون "مديرا" فقالوا : لك هذا ولنا ما في "جيب" المستهلك !
وأصبح العامل الأجنبي منافسا لنظيره السعودي في الأعمال التي يمكن أن يقوم بها وعامل طرد له عن ممارستها .
وها هو طيب الذكر "صندوق تنمية الموارد البشرية" .. تأثيره محدود ، وحلوله قاصرة ، والقائمون عليه من رجال الأعمال أنفسهم !!!
تركي سليم الأكلبي
التعليقات (0)