ما أصل عبارة: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؟
نشر المدوّن ربيع العاملي قبل بضعة أيام مقالا على صفحة ايلاف بعنوان (سكان فلسطين) نثر فيه أرقاما عشوائية حول عدد سكان فلسطين-ارض اسرائيل في أواخر العهد العثماني، حيث يستهل "بحثه" بالقول:
[ حسب تقدير الدولة العثمانية بلغ عدد سكان فلسطين اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين كما تشير التقديرات بان عدد سكان فلسطين قد بلغ 640 ألف نسمة عام 1896 ارتفع عددهم الى 689 ألف نسمة عام 1919 وكانت نسبة اليهود 8% فقط من عدد السكان وفي عام 1922 بلغ عدد اليهود نسبة 11% من إجمالي عدد السكان في فترة الانتداب البريطاني بسبب موجات الهجرة التي كانت بريطانيا تسمح فيها الى ان وصل عدد سكان اليهود عام 1948 الى 31 % حيث كان عدد السكان العرب الفلسطينين مليون ونصف مليون نسمة واليهود 650 الف نسمة ]
من الواضح ان الأرقام اعلاه لا تتفق والمصادر المتوفرة في هذا الشأن، بيد ان الحالة اعلاه ليست استثنائية على كل حال، فمثل هذه العبثية في الأرقام والحقائق مستشرية في المواقع العربية.. فلا بأس اذا كان الأمر يتعلق باليهود.. وقتئذ كل شيء يصبح مباحا طالما ان هذا الشيء ينغص على اليهود حياتهم..؟! بل في هذه الحالة ليست ثمة حاجة الى مصادر حيث يكتفي (الكاتب) او (الباحث) عادة بعبارة من قبيل (حسب تقديرات الدولة العثمانية)..؟! فلا أحد سوف يسأله عن طبيعة هذه (التقديرات) طالما الأمر يتعلق بـ (تفنيد مزاعم اليهود الصهاينة)!! ومن الأمثلة البارزة على ذلك مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض المتداولة على الألسن العربية، وهي مقولة لا باطل فيها لكن تداول هذه العبارة واستغلالها من قبل العرب ينطبق عليه القول "حق أريد به باطل" .. وحتى نقف على أصل هذه العبارة لا بد ان ننبش بعض المراجع التاريخية التي تغطي تلك الفترة:
زار الكاتب الأميركي المرموق مارك توين منطقة المغرب العربي والشرق الأدنى في صيف 1867 حين كان يعمل كمراسل لجريدة سان فرانسيسكو ألتا كاليفورنيا. واستغرقت رحلته ثلاثة أسابيع زار خلالها المغرب وتركيا ولبنان وسوريا وفلسطين-ارض اسرائيل، وقد جمعت مقالات توين عن رحلاته في المنطقة، التي تخللت تحقيقات صحفية من الديار المقدسة، في كتاب يقع في جزأين يحمل عنوان أبرياء في الخارج. ومن أهم الأفكار التي تضمنها الكتاب فيما يتعلق بفلسطين-ارض اسرائيل: ان البلاد كانت شبه خالية في ذلك الزمان.. حيث يصور توين كثيراً من أراضي ارض اسرائيل على أنها صحراء جرداء لا إنس فيها ولا شجر ولا ثمر، فتجده يقول في معرض حديثه:
"اجتزنا أميالاً من الأرض الخراب المهجورة رغم خصوبة الأرض التي اشتعل فيها العشب اشتعال النار في الهشيم، امتداد صامت وحزين صادفنا فيه ثلاثة أشخاص فقط، عرب عراة إلا من قمصان خشنة، لم نر أحداً سواهم خلال سيرنا الطويل... لم يكن هناك حتى مجرد شجيرة، وحتى الزيتون والصبار اللذين يتحملان قساوة الجو والتربة، فإنهما بالكاد يلمحان هنا.... الناصرة بلد مهجور ....... أريحا بلد ملعون ....... القدس قرية يسكنها البؤساء...الخ"
تشكل هذه الأسطر دليلاً قاطعاً على أن الأراضي الفلسطينية كانت خالية من السكان وبدون أي أثر للحياة في ذلك الزمان. ولا يعقل ازاء هذا الوصف ان يصل عدد سكان فلسطين-ارض اسرائيل الى هذه الأعداد الضخمة التي وردت اعلاه..
يذكر يتسحاق بن تسفي الرئيس الاسرائيلي الأسبق في كتابه "ارض اسرائيل وسكانها في العهد العثماني" ، اعتمادا على تدقيق مستندات ضريبية من الأرشيف العثماني، واستنادا الى السجل السكاني للسلطات العثمانية بين الأعوام 1525 – 1573 ، ان عدد سكان فلسطين-ارض اسرائيل في بداية العهد العثماني بلغ حوالي 300 ألف نسمة، غير ان هذا العدد بدأ بالتراجع خلال القرون اللاحقة بسبب الأوبئة والهزات الأرضية وموجات الجراد وعمليات الغزو المستمرة التي كان ينفذها البدو إضافة الى الفساد الأداري والعبء الضريبي وغير ذلك..
اما الباحث بيني موريس فقد ذهب الى ان عدد سكان البلاد عشية انطلاق موجات العودة اليهودية، بلغ حوالي 400 ألف نسمة. وقد اعتمد موريس على أبحاث قام بها عالم الجغرافيا الألماني الكسندر شولتس، علما ان الأخير لجأ الى حسابات تقديرية دون الأعتماد على مصادر موثقة. وإضافة الى شولتس استند موريس الى دراسة قام بها الباحث الأسكتلندي جستين مكارثي حيث تفيد هذه الدراسة ان عدد سكان فلسطين-ارض اسرائيل تجاوز الـ 400 ألف نفر عام 1860، فيما ارتفع هذا العدد الى اكثر من 500 ألف عام 1890.
وتشير الباحثة الأمريكية جوان بيترز في كتابها "منذ القدم" الذي أفنت سبع سنوات من عمرها لأعداده الى ان عدد اللاجئين الفلسطينيين عام 48 لا يمكن ان يزيد عن 430 ألف نسمة، علما ان أعدادا كبيرة من بين هؤلاء هم مهاجرين من الدول العربية وفدوا الى فلسطين_ارض اسرائيل أملا برخاء في ظل السكان اليهود. إضافة الى الهجرة المصرية الكبيرة التي رافقت حملة محمد علي باشا الى بلاد الشام. وعليه تخلص بيترز الى نتيجة مفادها ان الكثيرين من العرب الذين غادروا فلسطين-ارض اسرائيل عام 48 لا يمكن اعتبارهم لاجئين طبقا لهذا الواقع، اي بسبب كونهم مهاجرين أصلا وليسوا سكانا محليين.
وذكر الأستاذ البروفيسور موشيه معوز في كتابه "تاريخ ارض اسرائيل" ان عدد السكان في العهد العثماني تقلص الى 100 ألف نسمة بفعل الممارسات العثمانية التعسفية، والأوضاع الصحية المتردية التي حدت بالكثيرين الى مغادرة فلسطين-ارض اسرائيل، الأمر الذي أدى الى تراجع مطرد في تعداد السكان.
ورجّح عالم الجغرافيا الفرنسي فيتال كينيه الذي أجرى بحثا موسعا في هذا المجال، أن يكون عدد سكان فلسطين_ارض اسرائيل قد بلغ في عام 1895 حوالي 450 ألف نسمة ، من بينهم 252 ألف مسلم. وذكر كينيه ان عدد السكان المسلمين المستقرين في أرضهم وصل عام 1882 الى 141 ألف نسمة ، ليرتفع هذا العدد في عام 1895 الى 252 ألف. بمعنى ان عدد السكان المسلمين تضاعف خلال 13 عام، وهو ما يظهر ان مرد هذه الزيادة لا يمكن ان يكون نتيجة للتكاثر الطبيعي وحده، حيث يقدّر كينيه، استنادا الى حساب نسبة الأزدياد الطبيعي، ان حوالي 82 ألف من بين هؤلاء كانوا مهاجرين من دول الجوار.
في عام 1695 زار فلسطين_ارض اسرائيل الرحالة وعالم الجغرافيا المسيحي رينالدي، وقام بمسح 2500 بلدة وخلص الى نتيجة مفادها ان فلسطين_ارض اسرائيل كانت شبه خالية في ذلك الزمان، يقطنها عدد قليل من السكان، يتركزون في المدن الرئيسية مثل القدس وعكا وصفد ويافا وطبرية. ويتبين من وصف رينالدي ان غالبية هؤلاء السكان كانوا يهودا إضافة الى أقلية مسيحية. اما المسلمين فيصفهم رينالدي انهم في الغالب بدو رحل، ما خلا نابلس التي كان يعيش فيها حوالي 120 نفرا من عائلة نتشة الى جانب حوالي 70 نفرا من السامريين (السمرة او يهود نابلس كما يطلق عليهم السكان المحليون). وأما الناصرة فكان يعيش فيها حوالي 700 نفرا جميعهم مسيحيين. واما طبريا وصفد فكانت بلدات يهودية، في حين كانت أم الفحم قرية صغيرة تعيش فيها حوالي عشر عائلات مسيحية. وقد بحث رينالدي في أسماء القرى والبلدات وخلص الى القول إن البلدة الوحيدة التي كانت تحمل إسما عربيا هي الرملة، في حين تعود بقية التسميات الى أصول عبرية ويونانية وغيرها، حيث أصبحت تلفظ بصيغتها العربية.
في عام 1865 تأسست في بريطانيا الجمعية البريطانية لتقصي الأوضاع في الديار المقدسة (فلسطين-ارض اسرائيل)، وأرسلت لجنة الى البلاد حيث قامت هذه اللجنة بإجراء تنقيبات أثرية ودراسات تاريخية وجغرافية وإثنية ما بين السنوات 1871 – 1878 ، وعملت على إعداد خريطة شاملة. وقد أظهرت النتائج التي وصلت اليها هذه اللجنة ان عدد سكان البلاد كان قليلا في ذلك الحين. وقد اعتمدت هذه النتائج على حجم القرى والتجمعات السكنية، حيث تظهر الخريطة ان متوسط مساحة القرية لم يزد عن 150 م طولا و 100 عرضا. وكانت ثمة مناطق مقفرة مثل مرج بن عامر وغور الأردن. اما مساحة مدينة حيفا فكانت 440 م طولا و 190 م عرضا، بينما بلغت مساحة يافا 540 م طولا و 240 م عرضا. في حين بلغت مساحة طبرية 600 م طولا و 300 م عرضا. واما القدس التي كانت أكبر المدن في ذلك الحين فكان غالبية سكانها من اليهود.
واستنادا الى كل ما ذكر يبدو واضحا جليا ان مقولة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) التي أطلقها قادة الحركة الصهيونية على فلسطين-ارض اسرائيل في حينه، لم تكن مقولة توراتية او تلمودية او عنصرية كما يشاع، بل تجسد نظرة واقعية الى البلاد استنادا الى المعلومات والأحصاءات المتراكمة والتي ورد ذكر لبعضها في البحث أعلاه...
التعليقات (0)