قبل أن أتزوج كان عندي ست نظريات في تربية الأطفال أما الآن فعندي ستة أطفال ليس معي لهم نظريات
جان جاك روسو
في فرنسا، قررت السلطات القضائية إحداث منصب جديد، لدى كل وكيل جمهورية، يسمى الوسيط المنتدب لدى وكيل الجمهورية. مهمة هذا الوسيط، تتمثل في استقبال الأشخاص الذين يتم ضبطهم متلبسين بسرقات إما أنها بسيطة و إما أنها أول محاولة للشخص المتهم بارتكابها.
الوسيط المنتدب لدى وكيل الجمهورية، و بناء على استدعاء رسمي مسبق، يستقبل في مكتبه، الشخص المتهم.. في التاريخ و التوقيت المعلومين.. لا بل هو الذي يفتح له باب المكتب، يقول له bonjour monsieur ثم يدعوه بكل رفق للجلوس !.. يسرد على مسمعه وقائع التهمة الموجهة إليه، ثم يسأله: هل كل ما نُسب إليك، صحيح ؟ فيرد الآخر: نعم سيدي... صحيح ! فيقول له مندوب وكيل الجمهورية: إن العدالة تمنحك فرصة أولى و أخيرة كي لا تكرر فعلتك، و لكن عليك أن تقرأ جيدا، نص الإنذار الذي سأسلمه إليك، ثم امضي عليه و اعلم أن العدالة سوف لن تتسامح معك في المرة القادمة لو أنت أقدمت على نفس الفعلة أو أي فعلة أخرى مشابهة لها.. هل فهمت ؟! فيرد الآخر: نعم سيدي.. لقد فهمت. ثم يقرأ المتهم، نص الإنذار، و يوقع عليه. حينها يقف مندوب وكيل الجمهورية، و بابتسامة عريضة، يصافح المتهم و يتمنى له حظا سعيدا !
بمجرد ما يخرج ذلك الشخص ، يقوم مندوب وكيل الجمهورية بنفس الشيء مع أشخاص متهمين كثيرين يقدرون بالعشرات يوميا،في بعض الأحيان...
عشرات المتهمين، يجدون أنفسهم يوميا معفيين من المتابعة القضائية و من العقاب، مقابل تعهدهم كتابيا بألا يكرروا جرائمهم التي يمكن اعتبارها جرائم صغيرة.
الإحصائيات الفرنسية تقول أن قرابة 70 % من أولئك المتهمين المنذرين لا يكررون ما فعلوا !
السلطات الفرنسية، من خلال هذا الإجراء الدخيل على تقاليد العمل القضائي بفرنسا، أرادت أن تخفف حجم الملفات التي يعالجها وكلاء الجمهورية و القضاة، و قد نجحت في ذلك، علما أن القضاء الفرنسي لا يشكو لا من قلة النواب العامين، و لا من وكلاء الجمهورية و لا من قضاة التحقيق و لا من القضاة عموما، بالنظر إلى بلد مثل الجزائر، قد يحدث فيه للقاضي الواحد أن يجد نفسه مطالبا في جلسة واحدة بالفصل في 200 قضية !
يرحم والديكم، هل يستطيع أي قاضي جزائري مهما كان سنه و عمر تجربته المهنية أن يقنعنكم بأنه يستطيع أن يقرأ كل صغيرة و كبيرة و يلم بمختلف جوانب ملفات 200 قضية، يفصل في أمرها في جلسة واحدة ؟.. بدلا من انتظار جواب عن سؤالي هذا سأنتقل بكم، أصدقائي إلى فصل آخر لكن في نفس السياق.. ألا و هو القضاء.
لقد شاهدت و سمعت على شاشة التلفزيون، وزيرة عدل فرنسية تقول بأنها أُصيبت بصدمة عنيفة عندما زارت بعض السجون الفرنسية، و أنها اعتبرت أنه من العار أن تبقى بفرنسا سجون من شاكلة تلك التي زارتها، و أنها حدث لها ذات مرة بينما كانت تزور أحد السجون، أن طلبت فتح خزانة المطبخ لترى نوعية المواد الغذائية المخزنة و الكيفية التي تُحفظُ بها، لكن مرافقيها من إطارات وزارة العدل و معهم مدير السجن، تردّدوا عن الاستجابة لطلبها ! الوزيرة ألحّت على أن يفعلوا... لكن التردد استمر بشكل غريب، فغضبت و أمرت بفتح الخزانة فورا لترى ما شعرت أن الجماعة لا تريدها أن تراه.. حينها اضطر أحد مرافقيها لأن يقترب منها، و يهمس في أذنها: " معالي الوزيرة، إننا نخشى أن تتعرضين إلى هجوم الفئران، بمجرد ما نفتح باب الخزانة !".
هذا الكلام صدر عن وزيرة عدل فرنسا، و قالته لوسائل الإعلام، دون أي حرج أو عقدة، لأنها كانت واضحة في مسعاها ، حيث أنها كانت تريد تغيير واقع السجون الفرنسية، و من ضمن ما قالت أيضا أنها لا تستطيع أن تتقبل وجود ستة سجناء في زنزانة واحدة ، علما أن فرنسا لا تعاني من نقص لا في السجون و لا في مؤطري تلك السجون، و ذلك على الأقل بالمقارنة مع بلد مثل بلدنا.
عندما في كل سنة، نفس التصريحات تصدر عن ذات المسؤولين، تقول أن الأوضاع في سجوننا تحسنت بشكل " ملحوظ" عما كانت عليه، و لا أسمع أبدا أي واحد من هؤلاء يتلفظ بأي كلام من شاكلة الكلام الذي صدر عن وزيرة عدل فرنسية، لا أستطيع إلا أن أتساءل: هل نحن أكثر تطورا من فرنسا، في مجال العدالة، و حقوق الإنسان، و ظروف سجن الأشخاص ؟
إن الفارق بيننا و بين الآخرين، أكبر بكثير من المسافة الفاصلة بين الأرض و السماء. و لقياس هذا الفارق الفظيع الذي يبعد فرنسا مثلا، عنا أو يبعدنا نحن عن فرنسا،سأفيدكم بآخر ما يشغل وزارة العدل في فرنسا.
في فرنسا، يا سيدي تعمل خلية من الاختصاصيين تحت إشراف وزير العدل، على وضع تدابير قانونية جديدة ،و مرافق عقابية مكمّلة، تسمح للرجال من السجناء باستقبال زوجاتهم و معاشرتهن، تماما كما تسمح للنساء السجينات باستقبال أزواجهن ليعاشروهن... " خلوة شرعية" بتعبير فقهاء الدين الإسلامي.
بالنسبة للمسؤولين الفرنسيين، سيسمح هذا الإجراء الجديد، ليس فحسب بضمان الاتزان النفسي للسجناء المتزوجين و السجينات المتزوجات، بل سيؤدي كذلك و بدرجة معتبرة إلى مكافحة انتشار اللواط و السحاق ( السحاق بالنسبة للنساء) في السجون، و هذا ما يساهم أيضا في الحيلولة دون انتشار الأمراض الجنسية الخطيرة و على رأسها الداء القاتل الشهير... السيدا.
تدابير كهذه التي تحدثت عنها، عندما تطلع عليها، تشعر أن هناك أناس يفكرون، يعملون، يجتهدون.. و يتطورون سنة بعد سنة، و شهرا بعد شهر، و يوما بعد يوم.
منذ شهور قليلة، اطلعت على خبر، لا أدري إلى أي حد وصل تأكد فحواه، عندما قرأت سطوره الأولى، قلت في نفسي أن هذا الأمر لو يتحقق فعلا، فإنه سيوفر واحدة من علامات نهاية العالم! الخبر قال يا جماعة الخير أن محاكم الجنايات في الجزائر من الممكن جدا أن تشتغل في المستقبل من دون محلّفين!
كما سبق أن قلت، أنا لا أعرف في الوقت الراهن إلى أي مستوى وصل تجسيد هذه الفكرة، و لكن ما أنا متأكد منه هو أن بلادي لو هي فعلت هذه الفعلة، فإنها بذلك ستستحق عن جدارة، لقب " البلاد الأعجوبة" !
كيف نزيل المحلّفين من محاكم الجنايات، في حين أن هذا النوع من المحاكم يقوم أصلا على المحلّفين الذين لا يستندون في أجوبتهم لأكثر من الاقتناع الشخصي بأن هذا المتهم أو ذاك مذنب بالفعلة المنسوبة إليه أو غير مذنب، بينما تقتصر مهمة القاضي على تكييف أجوبة المحلّفين مع ما يقره القانون من عقوبات أو براءة. المحلّفون جزء من تاريخ عريق و نبيل في الولايات المتحدة الأمريكية، و فرنسا و بريطانيا و ألمانيا و سويسرا... و غيرها من البلدان العظمى ... بل المحلفون في هذه البلدان هم أساس العدالة في المحاكم التي تفصل في القضايا الإجرامية الكبيرة. هناك، المحلفون يتمتعون باحترام و حماية و حصانة.. هناك يجري منذ سنوات تفكير في كيفية تعزيز مكانة المحلّفين أكثر من ذي قبل.. بينما عندنا، يوجد من يفكر في القضاء على عمّارهم !... بعبارة أخرى.. هذا ما يسمى التقدم إلى الخلف. السلام عليكم.
التعليقات (0)