إن الحروب الإقتصادية هي نوع من الحروب غير المحدودة وهي الوسيلة المفضلة لمن هم يمتلكون أنظمة أسلحة أقل فاعلية وتطورا ولكنهم في الوقت نفسه يملكون الكثير من الدهاء. القيمة المعنوية لأي عملة بالنسبة لبلد ما هي ككعب أخيل ولذالك فإن تدمير تلك العملة هو الهدف النهائي في عمليات المضاربة على أسعار العملات. وحيث أن الأسواق المالية تتداخل مع بعضها البعض بواسطة إستراتيجيات نجارية يبقى بعضها عصيا على الفهم حتى بالنسبة للخبراء فإنه هناك دائما من ينتظرون في الظل بسكون إستعدادا للإنقضاض على عملة بلد ما وجني الأرباح. إن عملية المضاربة على أي عملة قد لايكون حصريا لأغراض تجارية وجني الأرباح بل لإلحاق أضرار إقتصادية بشكل متعمد ويتورط في ذالك النوع من العمليات مؤسسات تجارية وإقتصادية على إختلاف مسمياتها إبتداء من صناديق الثروة السيادية, صناديق التحوط, شركات إستثمارية كما يتورط فيها عصابات إجرامية ولاعبون سيئون كما قد تأخذ شكل عمليات قرصنة إلكترونية وعمليات غير قانونية. ولكن لماذا إستهداف عملة بلد معين بتلك الطريقة؟ والجواب هو أنه لايوجد سبب يبرر شن حرب على بلد معين بطريقة تقليدية مادامت الفرصة متوفرة لتحطيمه من الداخل عن طريق تدمير قيمة عملته مما يعني تدمير الثقة بذالك البلد وإقتصاده. ولتوضيح تلك النقطة بطريقة أفضل من الممكن تقديم شرح مبسط كالتالي؛ قد يهوي سوق الأسهم لأدنى المستويات ولكن بالمقابل سوف ينتعش سوف السندات. وإذا إنهار سوف السندات فقد تكون هناك إمكانية تحقيق إنتعاش من خلال أسواق المواد الأولية وخصوصا المعادن الثمينة والنفط. هناك دائما فرصة لتحقيق الأرباح والإنتعاش الإقتصادي من خلال إنتعاش سوق معين مقابل إنهيار سوق أخر. ولكن جميع السندات والأسهم والمشتقات والمواد الأولية والإستثمارات تكون مسعر بعملة بلد معين, فإذا أردت إنهيارا شاملا لجميع النواحي الإقتصادية لذالك البلد فما عليك إلا أن تقوم على تحطيم قيمة عملته. إن أهمية عملة بلد معين بالنسبة لتجارته وإقتصاده وحتى علاقاته الخارجية تعني كلمة واحد, الثقة. فإذا إنهارت الثقة بعملة بلد معين فإن الضرر الحاصل لن يكون محصورا بالمجالات الإقتصادية بل سوف يعني الإنهيار الشامل. إن موضوع الحروب الإقتصادية وخصوصا التي تستهدف عملة بلد معين هي منطقة يفضل الكثيرون عدم الإقتراب منها نظرا لحساسيتها حيث لم يبدأ الإهتمام بها إلا منذ فترة قصيرة وخصوصا في الولايات المتحدة التي كان تركيز دوائرها الأمنية والعسكرية على نظرية هجوم عسكري أو عمليات عسكرية قد تضر بمصالح الولايات المتحدة حيث لم يخطر ببال المخططين هجوم قد تشنه صنادي تحوط وصناديق ثروة سيادية ومؤسسات إستثمارية مستهدفة تحطيم الدولار الأمريكي أو بشكل أصح تحطيم الثقة به. إن الحروب الإقتصادية يمكن أن يتم دراستها حصريا من خلال محتوى المفاهيم الإقتصادية في عصرنا الحالي. إن الإقتصاد العالمي في وقتنا الحالي يتمحور حول مفاهيم مثل سيادة العولمة, رأسمالية الدولة. الإقتصاد العالمي قد بدأ يتكيف مع تلك المفاهيم. وقد كان مفهوم العولمة متواجدا بشكل أو بأخر منذ سنة 1960 ولكنه لم يبرز بشكل لافت للنظر حتى إنهيار الإتحاد السوفياتي وإنهيار سور برلين. كانت هناك شركات متعددة الجنسيات ولكنها لم تكن تعمل وفق مفهوم العولمة. كانت تحاول إبراز هويتها الوطنية وتعمل في الخارج بطريقة غير مباشرة من خلال مكاتب فرعية وعملاء تجاريين. الشركات العالمية في عصرنا الحالي تعمل وفق مفهوم العولمة بكل ماتحمله الكلمة من معنى فهي تحاول إبراز هوية جديدة متجردة من أي إشارة إلى كونها شركات وطنية تتبع بلدا ما. كما أنها تعمل بشكل مباشر في أكثر من بلد من خلال المقر الرئيسي ويتم إتخاذ القرارات المتعلقة بأماكن إقامة المصانع ومراكز التوزيع, إصدار الأسهم والسندات وبعملات مختلفة وذالك بناء على حسابات الربح والخسارة وبناء على إعتبارات لوجستية وليس عاطفية بخصوص الدولة الأم حيث يقع مقر الشركة الرئيسي. إن العولمة لم تبرز من خلال قوانين وتشريعات جديدة بقدر مابرزت من خلال إزالة العديد من التشريعات التي كانت تعيق حركة رأس المال بين الدول المختلفة وتفرض ضرائب مرتفعة على أرباح الشركات التي لها عمليات خارجية بالإضافة إلى مايدعى تعريفة الحماية على الواردات لحماية الصناعة المحلية كنسبة 10% التي تم فرضها سنة 1971 من قبل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. أسواق الأسهم كانت حصرية على المستثمرين المحليين والمكاتب المحلية كما أن الأجانب كانوا ممنوعين من تملك حصص في البنوك المحلية. السياسيون والنظام القضائي كان يميل لصالح المستثمر المحلي في أي نزاع مع شركة أجنبية. تطبيق حقوق الملكية الفكرية كان ضبابيا في أفضل الأحوال مما أدى إلى نزيف مالي للشركات الأجنبية حد من رغبتها في الإستثمار خارج بلد المنشأ. الإقتصاد العالمي في عصرنا الحالي بلا حدود ولا قيود كالتي كانت في الفترة السابقة لسنة 1990. لقد تبخر مفهوم السيادة الوطنية وأصبح شيئا من الماضي ولكن ذالك لايكون بدون عوارض جانبية. خطورة بلا حدود هي أحد أهم تلك العوارض حيث يتداخل الإقتصاد ويتشابك بما يشبه المتاهة حيث السير فيها للخروج بأمان يكون محفوفا بالمخاطر. الأزمات المالية والفقاعات الإقتصادية هي من أهم المخاطر التي يتميز بها عصر العولمة فمن كان يتخيل أن أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة سوف تجعل بنوكا فرنسية أو ألمانية تكاد أن تكون على حافة الإفلاس. ولكن ماهي الأسباب التي تدفع الكثيرين إلى الزعم بكون عصر العولمة هو عصر مخاطرة بلا حدود؟ قد يظن الكثيرين أن ماذكرته في السطور السابقة يمكن أن يلخص المشكلة ولكن ذالك لم يكن إلا قشور سطحية ويكمن لب المشكلة بتطور الأدوات المالية مع تطور مفهوم العولمة ولكن ذالك التطور قد ترك الكثير من الثغرات للتلاعب وجني الأرباح بطريقة إحتيالية والتسبب بإنهيارات إقتصادية تكاد كلمة كارثية كافية بالحد الأدنى للتعبير عن حجم الأزمة. في السابق كان يتم إصدار السندات وبمقدار تحدده قوانين وتشريعات واضحة المعالم وإستخدام عائداتها في المجال الذي أصدرت من أجله كتمويل مشاريع البنية التحتية أما المشتقات المالية كالعقود المستقبلية والأوراق المالية المستندة على قروض الرهن العقاري فهي قد تصدر بكميات غير محدودة بمجرد وجود ضمانات قد تكون وهمية أو في أفضل الأحوال مبالغ فيها كما أنها متحررة من القيود والقوانين التي تحكم الأدوات المالية التقليدية. إن بيع قروض رهن عقارية متدنية الجودة(Subprime Mortgage) تصدر في ولاية نيفادا لبنك في ألمانيا بعد إعادة تجزيئها وتعلبيها بضمانات وهمية من وكالات التقييم المالية(ٌRating agencies) يعد في عصرنا الحالي معجزة بكل المقاييس. العولمة مرت بمراحل قبل أن تتخذ شكلها الحالي. أول مرحلة من مراحل العولمة كان معاصرا لما يسمى عصر المعيار الذهبي الكلاسيكي بين سنتي 1880-1914 حيث كانت المملكة المتحدة تسيطر على منطقة عملة موحدة تساوي في حجمها الإتحاد الأوروبي وتدير فيها التجارة بحماية الأسطول البريطاني الذي كان ملك البحار بلا منازع. الصين في سنة 1900 فتحت أبوابها للتجارة الخارجية منا أن روسيا القيصرية قد بدأت في نفض الغبار عن تقاليد القرون الوسطى البالية وتحديث صناعتها وقواتها العسكرية بما يلائم روح العصر الذي تعيش فيه. إن تلك التطورات خصوصا توحيد ألمانيا وتحولها لقوة صناعية ضخمة بالإضافة إلى تطور وسائل الإتصالات واللاسلكي مما مكن من تلقي المعلومات في مكاتب المضاربات والتعامل بالأسهم في وقت يقترب من لحظة تحقق الحدث قد أدى إلى بروز أسواق الأسهم والسندات بشكل لافت للنظر. فقد أصبح بالإمكان كتابة إصدار سندات في الأرجنتين وبيعها في بورصة لندن لمكتب تجاري يقع في نيويورك. كما أصبح بالإمكان تكرير النفط في مصافي كاليفورنيا وشحنه لليابان بواسطة ضمانات ممنوحة من بنك في الصين. ورغم أن الأزمات المالية كان تحدث بوتيرة متكررة كالأزمة التي أصابت الأسواق المالية في أمريكا الجنوبية سنة 1890 وإنقاذ أحد البنوك اللندنية الرائدة, بارينغز برثرز(Baring Brothers Bank) من الإفلاس إلا أن تلك الفترة كانت تتميز بالإخترعات, الإكتشافات في شتى حقول المعرفة والإزدهار الإقتصادي. برأي الشخصي وقد يختلف معي الكثيرون بأن العصر الثاني للعولمة قد بدأ مع بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914 حيث سبق ذالك إنهيار مالي وبداية إضمحلال الدور البريطاني مقابل بروز الدور الأمريكي حيث أدى دخول الولايات المتحدة الحرب إلى ترشيح كفة الولايات المتحدة وحلفائها مقابل ألمانيا وحلفائها. ولنقل أن العولمة مرت بفترة خمول حتى صعود النازيين إلى السلطة في ألمانيا ونشوب الحرب العالمية الثانية والتي وضعت حدا للهيمنة البريطانية وبرزت الولايات المتحدة وروسيا حيث كانت معاهدة بريتون وودز سنة 1944 بداية الهيمنة المالية الأمريكية على النظام الإقتصادي العالمي وبروز الدولار كعملة إحتياط عالمية. وكنت قد ذكرت أن العولمة في الفترة التي سبقت سنة 1944-1945 مرت بفترة خمول وليس حالة وفاة حيث أن الكثير من الشركات الألمانية وبأوامر من هتلر وكبار مساعديه المسؤولين عن الملف الإقتصادي قد قامت بنقل إستثمارات هائلة لخارج ألمانيا تحسبا لخسارة ألمانيا الحرب وذالك عن طريق فتح مكاتب تجارية خارجية بواجهات قانونية وسليمة بينما هي تدار في الحقيقة بأوامر من ألمانيا وبواسطة عملاء ألمان يتقمصون دور رجال أعمال ويتحركون في طول أوروبا وعرضها بتلك الصفة. شركة أي جي تعد من أكبر وأضخم الشركات الألمانية والتي كانت لها إستثمارات خارجية في شركات ومصانع ومكاتب تجارية وكافة أنواع المصالح الإقتصادية وبطريقة يفوق وصفها كل خيال في تلك المرحلة الزمنية. المرحلة الثالثة من العولمة قد بدأت من سنة 1960-2000 حيث تميزت بالحرب الباردة وحائط برلين والخوف من حرب نووية وأزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا. المرحلة الرابعة للعولمة قد بدأت من سنة 2000-2011 حيث أصبحت العولمة أمرا واقعا وإن كان الكثيرون يختلفون حول إن كانت وجدت لتبقى أم أنها إلى زوال. مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة http://science-culture-knowledge.blogspot.com/2015/08/blog-post_27.html الرجاء التكرم بالضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة النهاية
التعليقات (0)