يتكلم الكثيرون عن إنحدار أمريكا حتى من بين الأمريكيين أنفسهم كما تكلموا عن ذالك في فترة الخمسينيات أثناء بداية مايسمى الحرب الباردة وكانوا متخوفين من أن الإتحاد السوفياتي سوف يبتلع الولايات المتحدة. كما أنه أثناء فترة الثمانينيات تخوف الكثيرون من أن اليابان سوف تتفوق على الولايات المتحدة إقتصاديا وتصبح القوة الإقتصادية الأول في العالم. وفي عصرنا الحالي يتخوف الكثيرون داخل أمريكا ويتحدث الكثيرون خارجها عن صعود الصين كقوة إقتصادية وسياسية وعسكرة وأنها سوف تتفوق على الولايات المتحدة. إنتهت الحرب الباردة بإنهيار الإتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو كما أن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر بالنسبة لليابان حيث أن موضوع اليابان تدخل فيه عوامل سياسية وعسكرية لم يدخلها المحللون الحالمون بتفوق اليابان وإنحدار امريكا في حساباتهم ولكن الأن ماذا عن الصين؟ إن الإجابة على هاذا السؤال تكون أن أمريكا لا تواجه الإنحدار بقدر ما تواجه صعود قوى أخرى تتنافس معها كالصين والهند مع بقاء الولايات المتحدة هي المهيمنة بشكل عام. إن العالم الذي نعيشه الآن هو عالم يستحيل فيه تحقيق التكامل عن المستوى العالمي من دون تعاون جميع القوى بما فيها الولايات المتحدة. إننا نعيش فترة تختلف عن تلك التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حيث كانت أوروبا مدمرة والإتحاد السوفياتي يعاني من بنية تحتية دمرتها ألة الحرب الألمانية والبلد الوحيد الذي لم يتأثر سلبيا بآثار الحرب كان الولايات المتحدة. سنة ١٩٩٠ كانت الصين تمثل ٢% من إجمالي الناتج المحلي (GDP) عالميا حيث تضاعف الآن ثمانية مرات ومازال في تصاعد. وبحسب بعض التقديرات فإن إقتصاد الصين سوف يصبح الأول عالميا بين سنتي ٢٠١٦ و ٢٠١٨. الإنفاق العسكري في الصين سوف يتفوق على مثيله في الولايات المتحدة سنة ٢٠٢٥. وبالنسبة للسياسة الخارجية كمثال يتزايد نشاط الصين في أفريقيا حيث تم تمويل بناء مقر جديد لمنظمة الوحدة الأفريقية في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا من قبل الصين بتكلفة ٢٠٠ مليون دولار ووصل لإفتتاحه عضو كبير في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وفي حوزته شيك بمبلغ ٩٤ مليون دولار. في السنوات الخمس الماضية حصل تغيير كبير بالنسبة للهند التي حصلت على تسهيلات إستثنائية من قبل أمريكا وأوروبا والمجتمع الدولي بشكل عام بخصوص قبول وضعها كقوة نووية بعد أن كان ذالك متعذرا عليها خلال السنين الثلاثين الماضية إن أمريكا سوف تبقى قوة مؤثرة ومهيمنة ولكن ليس كعهدها سابقا ومن الممكن أن نستعين بدراسة أزمة اليورو التي إندلعت في الإتحاد الأوروبي كمثال حيث أنها أول أزمة إقتصادية عالمية منذ سنة ١٩٢٠ لم تتدخل فيها الولايات المتحدة كدليل على تراجع الهيمنة الأمريكية ولكن ليس إنتهائها. وحتى نفهم التحولات التي طرأت وأدت إلى صعود دور الصين والهند والبرازيل مقابل تراجع الدور والهيمنة الأمريكية فإنه خلال الخمسمائة سنة الأخيرة يتوجب علينا ملاحظة وفهم ثلاثة تحولات رئيسية في توزيع السلطة ساهمت في إعادة تشكيل الخارطة العالمية سياسيا, إقتصاديا وثقافيا. أول تلك التحولات هو صعود القوى في الغرب حيث كانت بدايتها في القرن الخامس عشر وتسارعت بشكل دراماتيكي خلال القرن الثامن عشر. إن الحداثة كما نعايشها في عصرنا الحالي يعود الفضل في ذالك إلى تلك الفترة من التحولات: العلوم, التكنولوجيا, التجارة, الرأسمالية, الزراعة والثورة الصناعية. كما أنه من نتائج أو مخرجات تلك الفترة هو بروز هيمنة الدول الغربية على مسرح الأحداث عالميا. ثاني تلك التحولات أتخذ أوضح صوره في السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر وتمثل في صعود الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا بعد فترة الثورة الصناعية التي لها الفضل في تحويل الولايات المتحدة إلى أقوى قوة على وجه الأرض في تلك الفترة حيث تعادل قوتها جميع الدول مجتمعة. الولايات المتحدة تحولت إلى أقوى دولة منذ إنهيار الإمبراطورية الرومانية ومنذ إنهيار الإتحاد السوفياتي وخلال العشرين عاما التي تلت ذالك الإنهيار حيث كانت سيطرة الولايات المتحدة على شؤون العالم إقتصاديا وسياسيا وثقافيا بدون منازع أو منافس حيث إن عصرنا الحالي الذي نعيشه يمثل الفترة الثالثة من تلك التحولات الرئيسية. خلال العقود القليلة الماضية فإن الكثير من الدول حول العالم قد عاصرت معدلات نمو إقتصادي غير مسبوقة وكانت سابقا تعد ضربا من الخيال. كان هناك فترات صعود وهبوط خلال ٢٠٠٨ - ٢٠٠٩ ولكن النتيجة المجملة كانت تبعث على التفائل. الهند إختبرت إنخفاضا في معدل النمو إلى مستوى ٥.٧% سنة ٢٠٠٩ ولكن إرتفع مجددا لمستوى ٩.٧% سنة ٢٠١٠. أما بالنسبة للصين فلم ينخفض معدل نمو إجمالي الناتج المحلي إلى أقل من ٩% رغم كل الظروف التي أحاطت تلك الفترة من الكساد الإقتصادي. أنتوني فان إجتميل(Antoine Van Agtmael) صاحب صياغة مصطلح الأسواق الصاعدة(Emerging Markets) قد قام بتقديم أسماء لخمسة وعشرين شركة رشحها لتصبح أكبر الشركات المتعددة الجنسيات في العالم. قائمته شملت شركة واحدة من كل من المكسيك, كوريا الجنوبية, البرازيل, تايوان, الأرجنتين, تشيلي, أفريقيا الجنوبية, ماليزيا, ثلاثة شركات من الهند وشركتين من الصين. إذا نظرنا حولنا فسوف نجد أن أطول برج في العالم يقع في دبي. أغني رجل في العالم لفترة طويلة هو مكسيكي يتبادل الموقع الأول للثراء مع أمريكي هو بيل جيتس, أكبر شركة عامة متداولة من الصين, أكبر طائرة في تلك الفترة تم بنائها في روسيا وأوكرانيا, مصفاة النفط الرائدة في العالم تقع في الهند, أكبر المصانع في العالم تقع في الصين. إن هونك-كونج وبكل المعايير تقوفت على لندن ونيويورك كمركز إقتصادي عالمي. إن رموزا تعد جوهر الولايات المتحدة الأمريكية تم إستنباطها في أماكن أخرى حيث أن أكبر عجلة ركوب أو عجلة فيريس تقع في سينغافورا. الكازينو الأول على مستوى العالم يقع في ماكاو في الصين وليس في لاس فيجاس بل وتجاوزت عائدات مقاطعة مكاو الصينية سنويا من المقامرة عائدات مدينة لاس فيجاس. أكبر صناعة أفلام من حيث عائدات التذاكر وعدد الأفلام المنتجة سنويا هي بوليود في الهند وليس هوليود في الولايات المتحدة. حتى رياضة التسوق والتي تعد المفضلة في أمريكا لم تعد تحتل أمريكا فيها مراكز متقدمة حيث أنه من بين أكبر عشرة مراكز تسوق في العالم هناك واحد فقط يقع في الولايات المتحدة. أكبر تلك المراكز يقع في مقاطعة دونجوان الصينية ويليه ثاني أكبر مركز تسوق ويقع في الصين وثالث ورابع مرتبة لأكبر مراكز تسوق تشغلها الفلبين. هذه القائمة قد تكون لا متناهية ولكن المثير للدهشة أنه حتى عشرين سنة خلت فإن الولايات المتحدة كانت تحتل المرتبة الأولى في الكثير من فقرات تلك القائمة إن لم نبالغ ونقل في أغلبها. إن النمو الإقتصادي الذي حققته الصين قد أدي إلى خروج ٤٠٠ مليون شخص من دائرة الفقر بل وإن إنخفاض نسبة عدد السكان حول العالم الذين يعيشون على دولار واحد أو أقل في اليوم من ٤٠% سنة ١٩٨١ إلى ١٨% سنة ٢٠٠٤ يعود الفضل الأكبر في ذالك إلى الصين. إن صعود عدد من الدول ونمو دورها يعد من أساسيات العصر الحالي الذي نعيشه ولكنه لا يعني بالضرور أننا ندخل عصر التعارض والتنافس مع أمريكا بل يعني أننا نعيش عصر أو عالم تتقاسم فيه العديد من الدول والهيئات والمؤسسات التأثير والنفوذ على المستوى العالمي. وبينما تزداد الدول ثراء وقوة, فإننا سوف نشهد العديد من التحديات والمزيد من الإصرار من قبل تلك الدول. ففي سنة ٢٠٠٨ وفي شهر واحد فإن الهند والبرازيل تحديتا الولايات المتحدة الأمريكية أثناء المحادثات التجارية في العاصمة القطرية - الدوحة, روسيا قامت بمهاجمة وإحتلال أجزاء من الأراضي الجورجية, الصين قامت بإستضافة أحد أكثر الألعاب الأولمبية في العالم بذخا وإذهالا للحضور والمشاهدين عبر شاشات التلفاز. منذ عشرة سنين خلت لم تكن إحدى تلك الدول قادرة على ذالك. إن إحدى مميزات العصر الحالي أو الفترة الحالية التي نعيشها هو ظهور لاعبين لا يتبعون دولا بعينها. مجموعات وأشخاص تم في السابق منحهم موجبات السلطة ولكن التراتيبية, والمركزية والسيطرة تم إسائة تقديرها. الكثير من السلطات لإتخاذا قرارات مصيرية ومهمة تم نقلها من الحكومات إلى منظمات مثل منظمة التجارة العالمية والإتحاد الأوروبي. إن مجموعة أسئلة تطرح نفسها بعد كل ماسبق ذكره فمثلا ماذا تخبئ تلك التغيريات للولايات المتحدة ووضعها كدولة مهيمنة على مستوى العالم؟ ماذا يعني صعود البقية للولايات المتحدة الأمريكية من ناحية الحرب والسلام, الإقتصاد والأعمال, الأفكار والثقافة. بإختصار هل إنتهى إلى غير رجعة عصر القطب الواحد والهيمنة الأمريكية؟ النهاية رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة: http://science-culture-knowledge.blogspot.ca/2014/10/blog-post_11.html الرجاء التكرم بدعم المدونة بالزيارات
التعليقات (0)