يُحزنني حال الإنسان الكُردي، يُحزنني خاصةً ما وصل إليه حال بعض المثقفين الكُرد، إذ أن الكُل يشكو و يتذمر من إهمال الآخرين المتعمد له، و ذلك في معرض التذكير بنفسه و بضاعته التي يعتقد أنه يستحق التكريم بسببها أنّى توجه، لا بل صنع تماثيل ذهبية له في كل ساحة و على رأس كل شارع، و في نهايته أيضاً.
و يُعتبر الحقل الثقافي الكُردي، مثله مثل الحقل السياسي و حقول أخرى مُشابهة، من الأراضي الجدباء أو قليلة الإنتاج، و هو و إن حدثت فيه طفرةً ما يوماً فإنه لا يعود على صاحبه و العاملين فيها بأي مردود ذو قيمةٍ تذكر، فالعمل في هذه المجالات في الأصل من الأعمال الطوعية التي يدخلها الشخص لسببٍ غير مادي غالباً، كما أنه يستطيع أن يُغادره متى يشاء دون أن يترتب على دخوله أو مغادرته أية عواقب غير محمودة، حيث لا عقد أبرمه مع أحد و لا شروط جزائية في عقدٍ غير موجود كما ذكرت.
شخصياً، و لستُ أقصدُ، صدقاً، الإهانة فيما سيأتي، لم أقرأ واحداً من الكتب الخمسين التي يقول الكاتب إبراهيم محمود أنها من مؤلفاته، و ربما أيضاً الكثير من تلك التي تشبه ما تحتويه مكتبته، و التي يقول أنها تقدر بمبالغ طائلة، و قد يكون السبب هو أنني طارئٌ على المؤلَّف ـ بتشديد و فتح اللام ـ الكُردي، أو لم ألتفت إليه كما يجب خلال رحلة المعرفة، لكن ذلك لم يجعلني أُمياً في القومية الكُردية، كما لم يُضيّع القومية الكُردية من عقول و قلوب الكُرد في الفترة السابقة على ظهور تلك المؤلفات الخمسون، و أتصور أنها لن تكون بذلك التأثير الأسطوري، بحيث ستكون لوحدها دعائم لصرحٍ ثقافي كُردي مستقبلي طالما أنها (لم تنل موافقة جهلاء الكُرد و سعادينهم فكيف بعقلائهم العقلاء..) كما يقول الأستاذ محمود.
لكن في الفترة الأخيرة مرت عليّ عناوين مقالات كثيرة عن التاريخ و الجغرافيا و الحساب، عاملها المشترك أسم الكاتب إبراهيم محمود، و أقول مرةً أخرى أن دافعي ليس التقليل من شأن أحد إذا قلت أني لم أدخل في تفاصيل تلك العناوين، لكن فضول معرفة ما يجري كون هذه المقالات أخذت حيزاً مكانياً في مواقع النت دفعني للإطلاع على آخرها بشكلٍ خاص، فرأيت شكوىً من الأهمال و معاناة من بعض الصعوبات المادية و الصحية نتيجة عدم إلتفات الآخرين إلى جهود الكاتب و نتاجه التي أهمل بسببها أحواله، ما دفعه في نهاية المطاف إلى كتابة وصية تدعو إلى الإبقاء على هذا الجفاء حين تحين الساعة، بعد عُمرٍ طويل إنشاء الله.
ثمة مرض خطير لم يتطرق إليه الكاتب محمود صراحة في مقاله الأخير (منشور غير سياسي معمم) الذي يبدو بأنه يشكل خلاصة تجربته في الحياة، كما لم يتطرق إليه ربما فيما سبقه من مقالات، ألا و هو ظاهرة (إحتكار التنظير) التي يطالب بها شريحة كبيرة من مجتمعنا و خاصةً في أوساط النخبة لأنفسهم، و كأن هؤلاء الناس ليسوا من طينة البشر، و كأنهم يقومون بذلك بتكليف رباني، فدورهم في الحياة هو تأليف النظريات و على الآخرين خدمتها و خدمة أصحابها ليل نهار و وضعهم في مصاف الآلهة و النبيين، و قد يدفع هذا الإحتكار المرضي بأصحابه إلى الكسل و أهمال ألفباء الحياة، و أعتذر مرةً أُخرى للإشارة إلى ما ورد في مقال الكاتب إبراهيم محمود، لكن دون ربط ما سأورده لاحقاً بما ذكرته أعلاه، كوني غير مطلع على واقع الحال، فهو يقول بأنه (مقيم حالياً في قامشلي في بيت معرّض للهدم، و الحالة الصحية ليست على ما يرام شأن الحالة المادية).
و مع أني لم أفهم الصلة بين مقالٍ أدبي لباحثٍ كُردي و بين ما ورد فيه من أمور شخصية كثيرة تصلح لجلىسات سمر، لكن ذكرها بهذا الشكل يدفعني للقول بأنه كان يجدر بالكاتب إيلاء أوضاعه بعض الإهتمام، لأن عجلة التاريخ لم تكن لتتوقف خلال تلك السويعات المستقطعة من زمن الكتابة، كان عليه أن يقتطع من وقته الذي يخصصه جله للكتابة التي و حسبما يشكو لا تلقى التقدير الكافي، للإهتمام بصحته، و زيارة الطبيب، عسى أن يجد لديه الدواء الشافي، و إن تعذر عليه ذلك، ممارسة رياضة (اليوغا) التي نصح قادة الأحزاب الكُردية يوماً بممارستها، و أعتقد كذلك بأنه كان الأجدر به أن يخصص بعضاً من وقته الثمين ذاك لإصلاح داره المعرضة للهدم كما قال، خاصةً و أن الشتاء لن يتوقف عن المجئ مرةً، و لا ينبغي للمرء أن يطمئن لحرارة الصيف فهي لن تدوم للأبد، و أظن أنه في حال شمر عن ساعديه فسيجد الكثيرين و قد وقفوا إلى جانبه بدءاً من الجيران، لأن ما جلبه منشوره الإنترنيتي ذاك من ردود أفعال عاطفية، أصحاب بعضها يقيمون في مكانٍ قصي، لن تُصلح داراً و لن تُرجع صحةً. هذا و لم يتناهى إلى علمي بعد أن الكتابة ـ كُردياً ـ كانت الدجاجة التي تبيض ذهباً، و كم من كاتبٍ لا يملك حتى بيتاً معرضاً للهدم، أو مُضطرٌ للعمل في مهنة متواضعة لإعالة نفسه، هذا بالإضافة إلى ما يلقاه البعض من صنوف التهديد و الوعيد لثباتهم على رأي أو دفاعهم عن وجهة نظر أعتقدوا بصحتها.
لقد إنتهى زمن البطولة المطلقة، إنتهى الزمن الذي كان يعتبر فيه السياسي أو الكاتب أو أي شخصٍ آخر قطباً ينجذب إليه الآخرون، أو شمساً تدور حوله الكواكب، فلقد تعددت الأقطاب و كثرت الشموس و أصبح الشارع هو الميدان الذين يتوهج فيها الناس. إنها رفاهيةٌ حقاً أن يجلس أحدنا في بيته، و يستحضر كل ذخريته الأدبية ليخط بها وصيةً، يصوغها بشكلٍ تدر دموع الآخرين و عواطفهم، و أقول بأنها رفاهية، نظراً إلى هؤلاء الذين يندفعون إلى الشوارع اليوم، ليخطوا بدمائهم و ليس بأقلامهم أبجدية الحرية، التي تملأ فضاءات العالم، دون أن يتاح لهم الوقت الكافي لوداع أحبتهم، أو يفكروا للحظةٍ ما في وريقة يكتبون عليها وصيتهم، أو فيما إذا كان ثمة قبر سيلم أشلائهم المتناثرة، أو شاهدة تدل عليهم.
التعليقات (0)