يمكننا مقاربة الكثير من أزماتنا اليوم برؤية (مانديلية)، خصوصا تلك الأزمات الناتجة عن التمييز بمختلف أشكاله. ومن هنا يصبح لحديث مانديلا قيمة عند استحضاره باعتبار ما كان يعالجه في وقته من معاناة شعبه الذي كان تحت نظام أقام بنيانه على أساس جائر وهو الفصل العنصري. فدراسة التاريخ ليست بذات قيمة إن لم تعبر بنا إلى آفاق جديدة من الوعي والحكمة والبصيرة.
في حقل المفاهيم، وهو حقل مهم جدا لمن أراد التغيير، عمل نيلسون مانديلا على تصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة التي كان يستثمرها نظام الفصل العنصري لتبرير وتمرير سياساته الخاطئة. المفاهيم المغلوطة يتم بناؤها غالبا بشكل محكم، بحيث تبدو وكأنها حقائق لا تقبل النقاش. المثال الأجلى لذلك من التاريخ هو المفهوم المغلوط الذي تبناه الخوارج لمحاربة الإمام علي عليه السلام متمسكين بمقولة صحيحة (لا حكم إلا لله) ولكنها مفصلة وفق مقاسات معينة تناسب ما يبتغون منها. ولذا عبر عنها الإمام تعبيرا بليغا في غاية الدقة والتوصيف:" كلمة حق يراد بها باطل".
المساواة أمام القانون كلمة حق، ولكن الشياطين تكمن في التفاصيل كما يقولون. فالمساواة إذا لم تكن مشخصة بشكل دقيق، قد يصبح التمييز مساواة، مثال ذلك قوانين جيم كرو سيئة الذكر بحق السود في أمريكا تحت "منفصل لكن متساوٍ". والقانون أيضا إذا لم يتم تعريفه وتحديده، فقد يشير إلى قوانين استبدادية مجحفة، فأية مساواة وأي قانون يبقى بعد ذلك؟!
يقول مانديلا مصححا هذا المفهوم:" تعني المساواة أمام القانون في معناها الصحيح الحق في المشاركة في سن القوانين التي تحكم المرء، ودستوراً يضمن الحقوق الديمقراطية لجميع فئات السكان، والحق في اللجوء إلى المحكمة التماساً للحماية أو الانتصاف في حالة انتهاك الحقوق المكفولة في الدستور، والحق في المشاركة في إقامة العدل بصفة قاض أو محام أو مدعٍ عام أو مستشار قانوني أو غيره من المناصب.
وفي غياب هذه الضمانات فإن عبارة "المساواة أمام القانون"، بالصيغة التي يراد تطبيقها علينا، عبارة لا معنى لها بل إنها مضللة. فجميع الحقوق والامتيازات التي أشرت إليها هي حكر على البيض، ولا نتمتع بأي منها."
وفي حديث آخر يقول: "الأفارقة يشتكون... لا لأنهم فقراء والبيض أغنياء فحسب، بل لأن القوانين التي يسنها البيض ترمي إلى إدامة هذا الوضع."
أما في حقل الرؤية السياسية لحل مشكلة التمييز العنصري، والمخاوف التي تعيق إنتاج الحل الناجع المتمثل في دولة المواطنة، لا دولة الأعراق، يتحدث مانديلا محاولا تبديد تلك المخاوف من أذهان البيض، قائلا:
" وقبل كل شيء، نريد المساواة في الحقوق السياسية، لأنه بدونها ستكون إعاقتنا دائمة. وأعلم أن هذا يبدو ثورياً للبيض في هذه البلد، لأن أغلبية الناخبين ستكون من الأفارقة. وهذا ما يجعل الرجل الأبيض يخشى الديمقراطية.
ولكن هذه الخشية لا يمكن السماح لها بأن تقف في وجه الحل الوحيد الذي يضمن الانسجام العرقي والحرية للجميع. وليس صحيحاً أن منح حق التصويت للجميع سيؤدي إلى الهيمنة العرقية. فالتقسيم السياسي، على أساس اللون مفتعل تماماً، وعندما يختفي تختفي معه هيمنة فئة من لون معين على فئة أخرى. ولقد أمضى المؤتمر الوطني الأفريقي نصف قرن في مكافحة العنصرية. وعندما ينتصر لن يغير تلك السياسة."
وهذا ما حدث بالفعل عند فوز حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في أول انتخابات متعددة الأعراق مع منح حق التصويت الكامل في 27 أبريل 1994، ثم تنصيب مانديلا أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا في 10 مايو 1994.
لم يلحس مانديلا وعوده كما يفعل الكثير من السياسيين، بل عمل جاهدا على إرساء دعائم دولة حديثة أصبحت فيها المواطنة وحق الانتخاب والمساواة والحرية تمثل حقوقا للأفراد وليس لجماعات أو أقليات أو عرقيات. لقد اعترفت الدولة بالحقوق الثقافية واللغوية لمختلف مكونات المجتمع، وعملت على حمايتها من خلال إنشاء هيئة حكومية تختص بذلك.
ولم يتشبث مانديلا بالكرسي، أو يدعي أحقيته بالاستمرار في السلطة مقابل دوره التاريخي في النضال، بل غادره طوعا في العام 1999 مفسحا المجال أمام تداول السلطة بشكل سلمي وسلس. لقد دخلت جنوب أفريقيا التاريخ من أوسع أبوابه؛ باب الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وأصبحت دولة المؤسسات بحق.
3132012
التعليقات (0)