مواضيع اليوم

مالم نعرف ...

حالما أخذت مقعدي في الحافلة المتجهة إلى العقبة بجانب النافذة الزجاجية ، ضبطت فتحة المكيف ، وعدلت المقعد ، ورحت اسرح النظر عبر النافذة إلى المارة وهم يهرولون كل إلى غايته ، كنت احسب حساب من يشاركني المقعد في هذه الرحلة الطويلة . أكثر من خمس ساعات ، واحتياطا أخذت معي كتيبا صغيرا ، وصحيفة ، وبعض علب العصير والفاكهة والسندوتشات الخفيفة ..

أخذتني الأفكار بعيدا إلى الصاحب في السفر ، تخيلت للحظة أن يكون أو تكون شريكتي أو شريكي في المقعد سمين ضخم .. ما أن يتحرك الباص حتى يغط في سبات عميق ، ثم يرتخي رأسه ويسقط على كتفي ، ويتعالى الشخير ، والتنفس العميق المزعج . أو أن يكون ثرثارا جاهلا ، فلا يترك لي فرصة لمتابعة الطريق البائس .. والصحراء الجرداء على طول الطريق ، ثم قد يتبعني إلى الاستراحة الكئيبة العفنة وينغص علي تناول فنجان القهوة رديء الطعم والرائحة ..

كنت أتمنى أن يكون أو تكون مثقفة متحضرة أو مثقف متحضر ، نتجاذب أطراف الحديث بما يقصر المسافة ويقتل الوقت ، نجلس إلى الطاولة الملوثة في الاستراحة ، وننتقد القهوة ، والنادل ، ونتندر على البؤس .. ونحن نزعم أننا مثقفون متنورون ولنا ما يميزنا عن غيرنا .. ربما نناقش الوضع الحزبي .. والاقتصادي وحالة الديمقراطية .. وربما هامش الحرية الآخذ بالتآكل ..

فجأة مر رجل تتبعه فتاة شقراء .. فرحت وأنا أتوقع أنها ربما تكون رفيقتي.. فإذا خسرت النقاش الجاد لن اخسر رائحة العطر والجوار الحسن على طول الرحلة .. تلاشت أمنيتي حالما جلست في المقاعد الخلفية إلى جانب إحداهن وهي تغرق بالنقاب الأسود ، تبعهم شباب .

توقف بقربي ، شاب هزيل الجسم طويل القامة ، حليق الوجه ، متأنق ، قلت ربما يكون هذا رفيقي .. وتقبلت على مضض فكرة رفقته ، وأنا أقول على الأقل لن يحتل مقعده وجانب من مقعدي ، ولن يميل برأسه على كتفي وسيكفيه جزء يسير من مقعده المخصص له .. لكنه جلس في المقعد التالي فابتهجت قليلا ..

كانت في هذه الأثناء عجوز بلباسها التقليدي المطرز ، وهي تلف رأسها بعصبة سوداء زنرتها بإطار من القصب الذهبي ، وتتوكأ على عصا بيدها ذات رأس مزخرف ، وتضع بيدها الأخرى حقيبة نسائية تليق بمثلها من كبار السن .. خمنت للحظة أنها قد تجاوزت الخامسة والسبعين .. سألت الشاب الذي أمامها في المقعد :
- المقعد رقم عشرون ..
فأشار إليها حيث أجلس .. رفعت رأسها وتقدمت .. وما أن وقفت بجانب المقعد حتى بادرت :
- صباح الخير
كان صوتها ، حنونا دافئا ، فيه رقة تأسر القلب ، وقسمات وجهها وهي تتكلم ، كأنها تبتسم ، ورائحة عطر حجازية تتضوع من ردائها .. بفرح قلت وأنا انهض مرحبا :
- صباح الخير ..
لا ادري كيف تناسيت ما كنت أفكر فيه من رفيق السفر ، وأخذتني العجوز بعيدا .. فما كنت امتلك إلا أن افعل ما افعل رغما عني .
أخذت بيدها ، وأجلستها ، وهي تشكر بود وتلطف.
وما هي إلا لحظات حتى تحركت الحافلة ، أزاحت العجوز عويناتها الزجاجية ، وأودعتها عبوتها ثم في حقيبتها ، وعلقت الأخيرة على حافة المقعد ، وأرخت رأسها إلى المسند الخلفي .
رحت ادقق بدقة التطريز ، ورهافة الرسومات على الثوب الأسود الطويل ، ذكرتني الرسومات بدراسة أجريتها ذات عام عن الفلكلور الفلسطيني .. ومدى تعلق ذلك ببقاء الإنسان منتميا .. أصيلا .. أصالة لا تمنعه عن الأخذ بالمعاصرة .
سألت العجوز لفتح باب للحوار :
إلى العقبة يمه ؟
العقبة .. أي والله ..
ناولتها حبة تفاح حمراء هشة .. وأخذت واحدة .. فأخذتها شاكرة دون تردد .. وسألتها :
هذا الثوب .. ندرة هذه الأيام .. وقلة من يهتم به ..
نعم .. هذا موضة قديمة ... ولو أنهم اخذوا يطورونه بأشكال أخرى .يحضرني الآن أن اليهود .. اخذوا تطريز الثوب الفلسطيني وطوروه وقالوا للعالم أن هذا من تراثهم وتاريخهم ..
تشعب الحديث وامتد ..

تحدثنا في التراث والأزياء ، وتكلمت عن الأصالة والمعاصرة ، وأسهبت في الحديث عن الثورة والثوار ، وكيف تتحرر الأوطان ، وختمت الموضوع بحكمة غالبا ما تتردد على السن العامة ( ما اخذ بالقوة لا يرد الا بالقوة )
تحدثت عن المفاوضات مع الصهاينة ، وعقلية المؤامرة العربية ، التي تحب أن ترقص في عرس الجيران ، بكت حينما فتحت لها باب بيروت والخروج عام 1982 بكت وهي تذكر ابنها الشهيد أبو حديد في قلعة الشقيف الذي قالت عنه :
تروي الحكايات انه حارب كفرقة عسكرية ، وصمد كجدار ، ومات بطل .
حاولت أن أكون .. مستمعا أكثر من أكون متكلما ... العجوز تمتلك كنزا من الحكايات والمعلومات عن كل شيء .. كم تمنيت لو أني املك آلة تسجيل لأسجل ما تقول .. كانت تتكلم بمنطق العارف الفاهم الواع ، كانت تدرك الحد الذي تبوح فيه .. والحد الذي تتوقف عنده ..تتقن فن الرواية .. وطريقة السرد .. تدلل على الحديث بقصة واقعية مرة ، ورمزية مرة أخرى ..
لا اعرف كيف مضى الوقت ، وكم تمنيت لو أن الوقت يطول ،وأدركت أن المعرفة ليست حكرا على احد وان الثقافة ليست بالتعلم والتعليم ، وان المظاهر ليست دائما توحي بما خلفها ...
تعلمت منها .. وعلمتني .. وأمتعتني .. وكنت آسفا على مرور الوقت سريعا .
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !