مات الميّت وشيّع جنازته إلى المنتهى المُستعر بسؤالات الوطن والإنسان والانتماء، وترك فراغا في مكان ما على جغرافية الحياة، فراغ صامت يضجّ برائحة الكلام، وترك أيضا سؤالا يتسكّع بين جهات العالم الأربعة: هل في وسع أديب متميّز فكرا ولغة ومخيالا أن يختار كسر قلمه وأسر روحه الإبداعية في زنزانة الصمت المزمن؟.. لم يكن على الميّت أن يقول كثيرا ليفهموا ما يريده من معاني، فقط، التزم الصمت، فقال كل شيء.. ولم يقل شيئا. فلم يغامر "الأكاديميون" صوب ذلك الفراغ الذي تركه الميّت الذي شيّع جنازته، وظل الفراش المنبهر وحده يؤمّ الفراغ ويرسم بارتفاف أجنحته قراءات مثشتعلة ومُلغّزة لصمت قال كل شيء ولم يقل شيئا. وظل النّساك يطوفون حول صّنم مُتمدّد بين شرق وغرب.. عسى أن تسكنه روح الميّت الذي مات، وتجيب بلغة "الآلهة الخرساء" عن أسئلة لم تُطرح بعد، وليس هناك من يجرؤ على طرحها..
الميّت الذي مات هو "مالك حدّاد" أول أمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين، أهدته الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي روايتها "ذاكرة الجسد وجاء في إهدائها : "غداة استقلال الجزائر، وقف مالك حداد ليعلن في ندوة صحفية: إن اللغة الفرنسية منفاي، ولذا قررت أن أصمت.. إلى مالك حداد… ابن قسنطينة الذي مات متأثرا بسرطان صمته ليصبح شهيد اللغة العربية وأول كاتب يموت قهرا وعشقا لها…أهدي هذه الرواية وفاء متأخرا".. مالك حدّاد هو الشاعر والروائي والصحفي الجزائري الذي اختار بكل وقار وخجل أن يأوي إلى محراب الصمت "الإبداعي" بعد استقلال الجزائر، ليس كُفرا بالقلم ولا اعتزالا للكتابة ولا عداء للغة المُستعمر التي كان يكتب بها، ولكنه كان موقفا يستند إلى ميراث تاريخي وفلسفة إنسانية وأمور أخرى تهيّب الباحثون والدارسون من تعمّقها، حتى أن أحد كبار المشتغلين بالأدب الجزائريين لم يخف أن شعورا من التناقض يباغته كلما أراد أن يدرس مالك حدّاد، وربما أن "فهم" مالك وإدراك أسرار عوالمه وفلسفته يكون بالقراءات العاشقة والانطباعية ولا يكون بالدراسات الأكاديمية.. فاشتهر "مالك حدّاد" بـ"شهيد اللغة العربية" وبمقولته "اللغة الفرنسية منفاي، ولذا قررت أن أصمت".
قال مالك حدّاد: " أنا أكتب باللغة الفرنسية حتى أقول للفرنسيين: أنا جزائري"، وربما تمنى أن يكتب باللغة العربية ليقول للجزائريين: "أنا أكتب بلغتي لأقول لأبناء وطني كونوا جزائريين وافخروا بجزائريتكم وبثورتكم وبهويتكم وبلغتكم"، ولم يستطع الكتابة بالعربية فالتزم الصمت.. لكن مقولة مالك عن سبب كتابته بالفرنسية لا تفسّر "انقطاعه" عن الكتابة بهذه اللغة لأن الجزائر نالت استقلالها ولم يعد هناك من يشكّك في جزائريته من الفرنسيين، أو لنقل لم يعد هناك مُسوّغ ليخاطب الفرنسيين أنه جزائري.. والبحث عن أسباب الصمت تدفع بنا إلى المغامرة صوب المتاهة وقراءة مناخ السنوات التي عاشها مالك حداد بعد استقلال الجزائر.. مناخ مشحون بالصراع بين ذوي الثقافة الفرنسية وبين الجزائريين المنتصرين لأصالتهم وانتمائهم ولغتهم.. صراع في مجال الثقافة والتربية والتعليم والإعلام وفي مجالات أخرى مرتبطة بالتموقع السياسي ورسم توجّهات الجزائر.. صراع لم يُحسم ولمّا يزل قائما حتى اليوم، والبحث في أسئلته هو غلغلة للخناجر الصدئة في جروح هناك من يريد لها أن لا تندمل وتبقى مفتوحة لأزمنة أخرى..
عندما نتحدّث عن مالك حدّاد فإننا لا نتحدّث عن أديب "عادي" قد لا يعني صمته شيئا، بل نتحدّث عن مُبدع متفرّد بأدواته الأدبية وفلسفته اللغوية وقدرته المٌبهرة على تقديم "الجمال" فكرا ولغة وخيالا.. مُبدع كان في تواصل دائم مع كثير من عمالقة الفكر والأدب لعصره وبعضهم كان من الروّاد المؤسّسين لمدارس أدبية، ويحظى بينهم بالتقدير والاحترام، ولو قُدّر لمالك حدّاد أن يستمر في الكتابة باللغة الفرنسية لعدّل خارطة الأدب العالمي بفتوحاته الإبداعية.. ومؤسف أن مالك حدّاد الذي تعرفه لغات أخرى، لا يعرف عنه قارئ العربية إلا القليل وفي أحسن الأحوال يعرف عنه أنه شهيد اللغة العربية، عن تقصير من الجزائريين، وأيضا عن إصرار على التقصير اتجاه "أدب المغرب العربي " عموما، سواء المكتوب باللغة العربية أو بلغات أخرى..
مالك حدّاد هو قضية إنسانية كبرى تتعلق بهويّة الأدب وهل يرتبط بهوية لغته أم بهوية كاتبه؟ وهل اللغة الموروثة عن الاستعمار هي "لغة استعمارية" ونقمة على الشعب المُتحرّر من الاستعمار أم هي "نعمة" قابلة للاستثمار الحضاري؟، كما تتعلّق القضية بحق "مالك حدّاد" أن تُترجم أعماله كاملة إلى العربية وتنتشر بين قرّاء العربية تكريما لشهيد اللغة العربية؟. ومالك حدّاد هو قضية الشعر العربي فقد أحدث مالك زلزلة في شعر المقاومة وفي وجهتها، وانتبه إلى هذا بعض المنصفين من النقّاد العرب، فأوضحوا تأثير مالك في "الإيقاع الثوري" الفلسطيني على وجه التحديد.. ولكن "الخجل النقدي" أحيانا يمنع أن يسأل الأقلام من أيّ محبرة كانت تعبّ حروفها ومعانيها.. وهو الخجل ذاته الذي منع بعض النقّاد أن يكشفوا حضور مالك في حدّاد في الإنتاج الشعري لأسماء كبيرة في الشعر العربي..
يُؤرّخ مالك حدّاد لميلاده قائلا: " لقد ولدت في صباح 8 أيار/ماي 1945"، هذا اليوم الذي سيبقى "العار الفرنسي" وعار الضمير العالمي، ففي هذا اليوم أقدم الاستعمار الفرنسي على قتل أكثر من خمسة وأربعين ألف جزائري خرجوا متظاهرين يطالبون بالحرية عبر شوارع بعض المدن الجزائرية.. اختار مالك حدّاد أن يكون يوم "مجازر مايو" هو يوم ميلاده، ولكن مالك لم يختر أن يكون يوم وفاته هو الخامس يوليو/جويلية الذي يؤرّخ لاستقلال الجزائر وعيدها الوطني.. وبين مايو ويوليو، هناك صرخة الحقيقة وبيوغرافيا رجل أراد أن يكون إنسانا فقال:" من السهل جدا أن أكون رجلا مثل سائر الرجال ولكن أن أكون إنسانا، فهذا هو الأمر الصعب وهذا هو الأمر المهم".
وُلد الشاعر والروائي والصحفي الجزائري مالك حدّاد في الخامس من شهر جويلية سنة 1927 بمدينة الجسور المُعلّقة "قسنطينة" في الشرق الجزائري، وهناك عاش طفولته وتلقّى تعليمه. اشتغل مالك بالتعليم لفترة ليست بالطويلة، ثم سافر بعدها إلى فرنسا وأتمّ دراسته في الحقوق. وعاد بعد الاستقلال إلى قسنطينة وأشرف على القسم الثقافي بالجريدة اليومية التي كانت تصدر بها "جريدة النّصر"، ثم انتقل إلى الجزائر العاصمة وتولّى الإشراف على المجلة التي كانت ترعى المواهب الأدبية في الجزائر "مجلة آمال".. واضطلع بعديد من المسؤوليات في وزارة الثقافة والإعلام، وكان أوّل أمين عام لاتحاد الكتّاب الجزائريين.. ومن أهمّ مؤلّفاته:
ديوان شعر "الشقاء في خطر" : 1956
رواية "الانطباع غزالة": 1958
رواية "سأهديك غزالة": 1959
رواية " أنا المعلم والتلميذ": 1960
رواية "رصيف الورود لم يعد يجيب": 1961
ديوان شعر "أسمع وأناديك"، 1961
دراسة بعنوان "الاصفار التي تدور في الفراغ"
تُوفيّ مالك حدّاد في الثاني من شهر جوان/ يونيو سنة 1978 وترك النوافذ مُشرعة على جنازة الميّت الذي مات، وصوته يرين في أجوائها:" اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط... وأنا عاجز أن أعبّر بالعربية عما أشعر به بالعربية.. إن الفرنسية لمنفاي!". وأكاد أسمعه يُنشد بحروف نار الثورة الجزائرية، من ديوانه "الشقاء في خطر":
ولاح لي حطام قلبي، وحطام القباب
في قرانا ..
وآليتُ أن أجدد بناءها في أنشودة أمل
إني اكتب عن موتانا
لقد سمعتهم يقولون:
إن عويل المآتم هو أحيانا مهد الأغنيات
مهد الموسيقى ذاتها!
أما الآن .. فإن الشقاء
وخطى الموتى الثقيلة
ستكون وحدها نغم الصباح
الشقاء الجزائري.. يا لجلال الشقاء!
إنه يعيد أناشيد الغد المترع بالغناء
لقد لوى الإنسان ذراعيه
إنه ينتحب في أعماق فرحه
ما أشد غبطة الموتى بالضحكات المقبلة!
إنهم يزرعون أغانيهم فوق البيوت المحترقة
السواقي دمهم ..
والمحيط في عيونهم..
وقمح المجاعة قد أرسل لحنه الحزين..
التعليقات (0)