في القرن السابق كانت نقطة الانطلاقة للنهضة في العالم الاسلامي.
ونقطة الإنطلاق يمكن أن ينظر اليها من منظورين :
النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان من أجل النهضة
النتيجة الخائبة لتطور استمر خلال هذه الحقبة دون أن تشترك الآراء في تحديد أهدافه أو اتجاهاته
ان اية تشخيص لمشكلة لتخلف العالم الاسلامي عن التقدم الحضاري لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه .
وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام لا يعالجون المرض ، وإنما يعالجون الأعراض .
وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية ، فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض . لكن هناك من له مصلحة في استمرار هذه الحالة المرضية سواءً أكان ممن هم في الخارج أو ممن يمثلونهم في الداخل
وقد أمعن مالك بن نبي في البحث حول مشكلات التخلف المزمنة باحثا عن السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز إلى القدرة والفعالية، ومن مشكلة الاستعمار إلى مرض القابلية للاستعمار، ومن حالة تكديس الأشياء إلى حالة البناء، ومن المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أولا، والانتقال من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار التي بها نبدأ بحل مشكلة التخلف، ويجب أن نصل إلى قناعة حتمية بأن مفاتيح حل المشكلات هي في الذات ليست عند الآخر
إن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت ، فلكي نقيم بناء نهضة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها .
أولاً : مشكلة الإنسان
ثانياً : مشكلة التراب
ثالثاً : مشكلة الوقت
فعدم التوازن في العناصر الثلاثة يفضي بنا الى انهيار المجتمع، والمجتمع العربي الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من ضعف توازن العلاقة بين هذه الاتجاهات ، لأن نهضته لم يُخطط لها . ولم يُفكر بها بطريقة تأخذ بإعتبارها عوامل التبديد والتعويق سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وعلى الأغلب الاثنين معاً .
الإنسان :
إن المشروع الإصلاحي يجب ان يبدأ بتغيير الفرد ، ثم بتعليمه الإنخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء .
وتبدأ عملية التطور من الفرد لأنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة البناء ، وتحقيق قفزات نوعية ، تمهيداً لظهور الحضارة . أما المادة فمهما يكن من أمرها تكديساً وزيادة ، فإنها تبقى تجميع كمي لا يعطي معنى كيفياً نوعياً ، إلا بسلامة استخدام الإنسان لها.
فالفرد هو الهدف وهو نقطة البدء في التغيير والبناء ، ومهما جرت محاولات تحديثية بوساطة الإستعارة ، أو الشراء للمصنوعات ومنتجات التقنية ، فإن هذه المحاولات ستكون عقيمة ، طالما أنها لم تبدأ من حيث يجب ، فالحل الوحيد منوط بتكوين الفرد المفكر الحامل لرسالته في التاريخ ، والغني بأفكاره على حساب اشيائه.
اولا على مستوى الفرد فالإنسان حينما ينظم شبكة علاقاته الاجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها، فإنه يتحرك في مسيرته عبر الأشخاص والأشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة ويكون طابع نمو الفرد تبعاً للعلاقة بين العناصر الثلاثة المتحركة: الأشياء، الأشخاص ، الأفكار .
فهناك توازن لابد منه بين هذه العناصر الثلاثة يسكب مزيجها في قوالب الإنجاز الحضاري، فإذا ما استبد واحد من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الآخرين فثمة أزمة حقيقية في بناء الفرد اذا اريد له ان يشارك في مسيرة الحضارة والا ستبقى خارج الهدف المرسوم وستبقى هذه المسيرة فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص .
ويتحدد دور ومكانة الفرد في مجتمعه تبعاً لعلاقة المجتمع بالأشياء أم بالأشخاص أم بالأفكار ،
ثانيا على مستوى حالة التطور الاجتماعي يمكن الإشارة إلى أوجه التشابه بين بعض مظاهر النمو العقلي عند الفرد ، والتطور النفسي – الاجتماعي للمجتمع ، وهذا الأخير يمر هو أيضاً بالأعمار الثلاثة:
مرحلة الشيء .
مرحلة الشخص .
مرحلة الفكرة .
بيد أن الانتقال هنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند الفرد . فكل مجتمع مهما كان مستواه من التطور له عامله الثقافي المعقد ، ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلاثة : الأشياء والأشخاص ، والأفكار، ولكن يظل هنالك دائماً رجحان لأحد هذه العوالم الثلاثة ، وبهذا الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره يتميز كل مجتمع عن سواه من المجتمعات .
والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية ، بل تمثل فيه نمواً عضوياً وتطوراً تاريخياً مستمراً ، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال . وهنا نحتاج ان ندرس سنن الله في تغيير المجتمعات.
مرحلة الشي
وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادها الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها ، فثقافتنا لا تعرف مثلها العليا وفكرتنا لا تعرف التحقيق ، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها
ففي البلد المتخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته،و تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً .
أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه، فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعاً من الإشباع ، إنه يفرض شعوراً لا يحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله، فيولد ميلاً نحو الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلى تغيير إطار الحياة وفق صرعات الموضة في كل شيء حوله .
فالإنسان المتخلف وبسبب عقدة تخلفه يرد المسافة بين التقدم والتخلف إلى نطاق (عالم الأشياء)، أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص مالديه من مدافع وطائرات ومصارف...الخ .
وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى تكديس المشكلات، فلكي يصبح مركب النقص لديه فَعّالاً مؤثراً ينبغي أن يرد الإنسان تخلفه إلى مستوى الأفكار لا إلى مستوى الأشياء، فإن تطور العالم الجديد دائماً يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية .
مرحلة الشخص
ان طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الإطار السياسي والجتماعي تهدم بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه . وكثيراً ما تعمد مراصد الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا الاتجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتحطم الفكرة البناءة من وراء سقوط الأشخاص الذين يمثلونها في النهاية، وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة الاصلية من الشرق والغرب عبر بطل جديد
ولا خلاص لمجتمع من تخلفه إلا إذا كان عالم أشياءه وأشخاصه يدور حول عالم الأفكار، فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر .
أما حاله مع عالم الأشخاص ، فإنه يدور حول شخص الزعيم فيجعل منه وثناً يُعبد .
.بينما كلمة الواجب لا تجتذب غير النافعين الذين يسعون حقاً لنهضة مجتمعهم فالفرد في المجتمع المتخلف يطالب بحقوقه قبل أن يقوم بواجباته، بينما أداء الواجب هو الكفيل الوحيد بالحصول على الحقوق ، فإذا أردت أن تصلح أمر الدولة اصلح نفسك .
إننا لو وضعنا سلماً للقيم الثقافية جنباً إلى جنب مع السلم الاجتماعي لقررنا مبدئياً أن السلمين يتجهان في الاتجاه نفسه من الأسفل إلى الأعلى أي أن المراكز الاجتماعية تكون تلقائياً موزعة حسب الدرجات الثقافية .
وهذه حقيقة نمارسها في حياة كل مجتمع ولو كان يواجه بعض الأزمة الثقافية على شرط أنها لم تبلغ درجة اللارجوع، أما في المجتمع الذي بلغ هذه الدرجة ، فإن السلمين ينعكسان، الواحد بالنسبة للآخر إنعكاساً تصبح معه القاعدة الشعبية - على الأقل بمحافظتها على الأخلاق – أثرى ثقافياً من قيادتها، فمن يرقى درجات السلم ويأخذ مكانه ودوره الاجتماعي في العالم المتخلف ليس من أهل الدرجات العلمية الثقافية، بل من يرضى عليه أولو الأمر في السلطة
مرحلة الفكرة
إن الذي ينقص الفرد ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً
فلا يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً ، بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية التي نريد تحقيقها
ومشكلة الثقافة هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه، فهو بصفة عامة قوة في الأساس ، وتوافق في السير ، ووحدة في الهدف
فالقضية تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية ، الذي ليس في بداية ومرحلة تحضيرة ، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الأفكار ، وفي هذا المستوى ، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معاً العمل الفعال أو العمل التافه وأظن أننا لا نزال كأمة في المستوى الثاني .
إن أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين : فهي إما ان تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية، وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة، تجعل النمو الاجتماعي صعباً أو مستحيلاً
فالمشكلة مشكلة الأفكار في النهاية ، لأننا بها ننظم خطانا في ثبات الأديم ، وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة ، ونحشد وسائلنا في وثيق الإنجاز .
فالإبداع والعطاء لن يكونا إلا عندما نترك لعالم الأفكار أن يحاول حلَّ خفايا عالم الاشياء في هذه الحالة تتوالى الحلول تترى ، وبذلك تقوم النهضة العلمية في مجتمع ما ، أما إذا كان عالم الأفكار مستعاراً فسيكون عنده قصور في الكشف ، وتراوح الأمور العلمية مكانها .
إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها . وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به : نحو الاشياء، بينما الحضارة العربية الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة : نحو الأفكار
2-التراب : وهو العنصر الثاني الذي يشكل الحضارة مع الإنسان والوقت
. وحيث يتكلم عن التراب لا يبحث في خصائصه وطبيعته ، ولكن يتكلم عن التراب من حيث قيمته الاجتماعية، وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه ، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة، وحضارتها متقدمة، يكون التراب غالي القيمة، وحيث تكون الأمة متخلفة – كما هو الحال اليوم - يكون التراب على قدرها من الانحطاط، وذلك بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه، فها هي رمال الصحراء تغزو بشراسة الحقول الخضراء على امتداد الوطن العربي . فتترك أهلها يتامى بين يدي الصحراء المقفرة
3- الوقت : وهو العنصر الثالث في تكوين الحضارة
إن الزمن نهر قديم يعبر العالم ، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب؛ والحقل الذي يعمل به وهذه الساعات التي تصبح تاريخاً هنا و هناك ؛ قد تصير عدماً إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها، وإذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة فالقرون لا تساوي شيئاً.
ولكنه نهر صامت حتى إننا ننساه أحياناً، وتنسى الحضارات في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية، أي حينما يكون ضرورياً للمحافظة على البقاء، أو لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة، ويدركون قيمتها التي لا تعوض ، ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم، وإنما الساعات نفسها . فيتحدثون حينئذ عن (ساعات العمل)، فهي العملة الوحيدة المصقلة التي لا تبطل، ولا تسترد إذا ضاعت ، إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة، ولا أن تستعيدها إذا مضت
وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر، ولكن عندما يدق الناقوس منادياً الرجال والنساء والأطفال إلى مجالات العمل في البلاد المتحضرة ... فأين يذهب الشعب ؟ تلكم هي المسألة المؤلمة .. فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئاً يسمى (الوقت)! . ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم ، ولأننا لا ندرك معناه ولا تجزئته الفنية ؛ لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية ، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة (الزمن) الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ) وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج ، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا ، هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد ، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء .
فالتاريخ والحياة الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما ، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق ، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا . ويكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة، من الساعات الأربع والعشرين التي تمر على أرضنا يومياً.
إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ، لا يجب أن يضيع هباء، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي تماماً قيمة هذا الأمر . ولكن بأية وسيلة تربوية ؟
إنه من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب!
إن شعباً هذه حاله أحوج ما يكون إلى قدوة، وطنية ، قيادية ، حازمة في تطبيق القانون على الجميع ، ولا تسمح لأي انحراف عن مشروع النهضة التي تعلنه ريثما يعتاد الأفراد على هذا السلوك في حياتهم اليومية فتصبح ساعات العمل حقيقية ومن خلال إنسان يستطيع استغلال الوقت على أكمل وجه نستطيع أن نقول : أننا بدأنا نهضة عملية علمية حقيقية وفق خوارزميات التغيير الإجتماعي التي تناسبنا ، و النهضة لا تقوم إلا بأيدي الأتقياء و الأذكياء.
التعليقات (0)