قيل عنه " لم تنبثق شاعريته إلا بقصيدة واحدة على فراش الموت ولكنها كانت نفحة من عالم الخلود فخُلِّد بها . قصيدة وهبها للموت، إن تغنى له بها، فوهب له الموت بها الحياة
وقالوا أيضاً : هو صاحب مدرسة الرثاءالذاتي ، وأول وآخر من أبدع بقافية الياء وكل المتأخرين إنما ينسجون على منواله..
وقال آخر : ولو أن لي ألف بيت مما يستحسنه العرب لقايضتها بقوله :
خذانـي فجـرّاني بثـوبي إليـكـما
فقـد كنتُ قبل اليوم صَعْـباً قِـياديـا
هو مالك بن الريب من مازن تميم ، وكان فاتكاً لصاً ، نشأ في بادية بني تميم بالبصرة ، اشتهر في أوال العصر الأموي ، ويروى عنه أنه قطع الطريق مده وقيل هرب من الحجاج . ويقال : إن معاوية بن أبي سفيان استعمل سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان ، فمضى سعيد بجنده في طريق فارس ، فلقيه بها مالك بن الريب المازني ، وكان من أجمل الناس وجهاً ، وأحسنهم ثياباً ، فلما رآه سعيد أعجبه ، وقال له : ويحك تفسد نفسك بقطع الطريق ؟ وما يدعوك الى ما يبلغني عنك من العبث والفساد وفيك هذا الفضل ؟ قال : يدعوني إليه العجز عن المعالي ومساواة ذوي المروءات ومكافأة الإخوان ، قال : فإن أنا أغنيتك واستصحبتك ، أتكف عما كنت تفعل ؟ قال : إي والله أيها الأمير ، أكف كفاً لم يكف أحدٌ أحسن منه ، قال : فاستصحبه ، وأجرى له .
ذهب مالك مع سعيد فقاتل معه وأبلى بلاءً حسناً . وفي بداية عودته وقد نوى وادي الغضا في نجد لدغه ثعبان وقيل عقرب في مرو _ وهي اليوم مدينة في الاتحاد السوفياتي سابقاً واسمها ماري ، منها خرج أبو مسلم الخرساني _ فمرض ورأى نفسه مقبلةً على الموت وقال هذه القصيده الرائعة يرثى بها نفسه ويوصي بقبره . وقد توفي سنة 60 هـ وقيل 56 هـ. وزعم بعض العرب لجمال القصيدة أن الجن وضعت صحيفة كتبت فيها هذه القصيدة تحت رأسه بعد موته.
.
ألا ليتَ شِـعري هل أبيـتنَّ لـيـلـة
_ _ بجنب الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
.
فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَـه
_ _ وليت الغضى ماشى الرِّكاب ليالـيـا
.
لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى
_ _ مزارٌ ولكـنَّ الغضى ليـس دانـيـا
.
ألم ترَني بِـعتُ الضـلالةَ بالـهـدى
_ _ وأصبحتُ في جيش ابن عفّانَ غازيـا
.
وأصبحتُ في أرض الأعاديَّ بـعـد ما
_ _ أرانيَ عن أرض الآعـاديّ قاصـِيا
.
دعاني الهـوى من أهل أُودَ وصُحبـتي
_ _ بـذي ( الطِّبَّسَيْنِ ) فالتـفـتُّ ورائيا
.
أجبـتُ الهـوى لمّا دعـاني بـزفـرةٍ
_ _ تـقـنَّـعـتُ منـها أن أُلامَ ردائـيا
.
أقول وقد حالتْ قُـرى الكُـردِ بيـنـنا
_ _ جـزى اللهُ عمراً خيرَ ما كان جازيا
.
إنِ اللهُ يُرجـعـني من الغـزو لا أُرى
_ _ وإن قـلَّ مالي طـالِبـاً ما ورائـيا
.
تقول ابنتيْ لمّا رأت طـولَ رحـلـتي
_ _ سِـفـارُكَ هـذا تـاركي لا أبـا لـيا
.
لعمريْ لئن غالتْ خـراسـانُ هامـتي
_ _ لقد كـنتُ عن بـابَي خراسـان نائـيا
.
فإن أنجُ من بـابَي خراسـان لا أعـدْ
_ _ إلـيـهـا وإن منَّيتُـموني الأمـانـيا
.
فللهِ دّرِّي يـوم أتـركُ طـائـعــاً
_ _ بـَـنيّ بأعـلى الرَّقمـتَـينِ ومالـيا
.
ودرُّ الظـبَّاء السـانحـات عـشـيـةً
_ _ يُخَبـّرنَ أنّي هـالـك مَـنْ ورائـيا
.
ودرُّ كـبـيـريَّ اللـذين كـلاهـمـا
_ _ عَلـيَّ شفـيـقٌ ناصـح لو نَـهانـيا
.
ودرّ الرجـال الشــاهـدين تَفـتُّـُكي
_ _ بأمـريَ ألاّ يَقْصُـروا من وَثـاقِـيا
.
ودرّ الهوى من حيـث يدعو صحابـتي
_ _ ودّرُّ لجـاجـاتـي ودرّ انتِـهـائـيا
.
تذكّرتُ مَنْ يـبـكي عـليَّ فـلم أجـدْ
_ _ سوى السيفِ والرمـح الرُّدينيِّ باكـيا
.
وأشقرَ محبـوكـاً يـجـرُّ عِـنـانـه
_ _ إلى الماء لم يترك له الـموتُ ساقـيا
.
ولكـنْ بأطـراف ( السُّمَيْنَةِ ) نـسـوةٌ
_ _ عزيـزٌ علـيهـنَّ العشـيـةَ ما بـيا
.
صريعٌ على أيـدي الرجـال بقـفـزة
_ _ يُسـّوُّون لحدي حيث حُـمَّ قضائـيـا
.
ولمّا تـراءتْ عـند مَـروٍ مـنـيـتي
_ _ وخلَّ بها جسمـي، وحانـتْ وفاتـيـا
.
أقول لأصـحـابي ارفـعـوني فإنّـه
_ _ يَقَرُّ بعـيـنيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَـدا لِـيـا
.
فيا صاحبَـيْ رحلي دنا الموتُ فانـزِلا
_ _ برابـيـةٍ إنّي مـقـيـمٌ لـيـالـيـا
.
أقيما عليَّ اليـوم أو بـعضَ لـيـلـةٍ
_ _ ولا تُعـجـلاني قد تَـبيَّـن شـانِيـا
.
وقوما إذا ما اسـتـلَّ روحـي فهـيِّئا
_ _ لِيَ السِّـدْرَ والأكـفانَ عنـد فَنـائـيا
.
وخُطَّا بأطـراف الأسـنّة مضجَعـي
_ _ ورُدّا عـلى عـينيَّ فَـضـْلَ رِدائـيا
.
ولا تحـسـداني بـاركَ اللهُ فيـكـما
_ _ من الأرض ذات العرض أن تُوسِعا ليا
.
خذانـي فجـرّاني بثـوبي إليـكـما
_ _ فقـد كنتُ قبل اليوم صَعْـباً قِـياديـا
.
وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخـيل أدبَـرتْ
_ _ سريعاً لدى الهيجـا إلى مَنْ دعانـيـا
.
وقد كنتُ صبّاراً على القِرْنِ في الوغى
_ _ وعن شَتْميَ ابنَ العَمِّ وَالجـارِ وانـيـا
.
فَطَوْراً تَراني في ظِـلالٍ ونَعْـمـَةٍ
_ _ وطـوْراً تراني والعِـتاقُ رِكابـيـا
.
ويوما تراني فـي رحاً مُستـديـرةٍ
_ _ تُـخـرِّقُ أطرافُ الـرِّماح ثيابـيـا
.
وقوماً على بئـر السُّمَينة أسـمِـعا
_ _ بها الغُرَّ والبيـضَ الحِسان الرَّوانـيا
.
بـأنّكما خـلفـتُـماني بـقـَفْـرةٍ
_ _ تَهِيـلُ عليّ الريـحُ فيها السّـوافـيا
.
ولا تَنْسَيا عـهدي خليـليَّ بـعد ما
_ _ تَقَطَّعُ أوصـالي وتَبـلى عِظامـيـا
.
ولن يَـعدَمَ الوالُونَ بَثّـَا يُصيبـهم
_ _ ولن يَعـدم الميراثُ مِنـّي الموالـيـا
.
يقـولون: لا تَبْعَدْ وهـم يَدْفِنونـني
_ _ وأينَ مكانُ البُـعـدِ إلا مَـكـانـيـا
.
غـداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غـدٍ
_ _ إذا أدْلجُوا عنّي وأصـبحـتُ ثاويـا
.
وأصـبح مالي من طَـريفٍ وتالـدٍ
_ _ لغيري، وكان المالُ بالأمس مالـيـا
.
فيا ليتَ شِعري هل تغيَّرتِ الـرَّحا
_ _ رحا الثَّـفْلِ أو أمستْ بَفَـلجٍ كما هيـا
.
إذا الحيُّ حَلوها جميعاً وأنـزلـوا
_ _ بها بَقراً حُـمّ العيـون سـواجـيـا
.
رَعَينَ وقد كادَ الظلام يُـجـِنُّهـا
_ _ يَسـُفْنَ الخُزامى مَـرةً والأقـاحيـا
.
وهل أترُكُ العِيسَ العَواليَ بالضُّحى
_ _ بِـرُكبانِـها تعلو المِـتان الفيافـيـا
.
إذا عُصَبُ الرُكبانِ بيـنَ ( عُنَيْزَةٍ )
_ _ و(بَوَلانَ) عـاجوا المُبقياتِ النَّواجِـيا
.
فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالـكٍ
_ _ كـما كنتُ لـو عالَوا نَعـِيَّكِ باكـِيـا
.
إذا مُتُّ فاعتادي القبورَ وسـلِّمـي
_ _ عـلى الـرمسِ أُسقيتِ السحابَ الغَواديا
.
على جَدَثٍ قد جرّتِ الريحُ فوقـه
_ _ تُــراباً كسَحْـق المَرْنَبانيَّ هابـيـا
.
رَهينة أحجارٍ وتُرْبٍ تَضَمَّـنـتْ
_ _ قـرارتُها مـنّي العِظـامَ البَوالـيـا
.
فيا صاحبا إما عـرضتَ فبلِـغـاً
_ _ بنـي مـازن والرَّيب أن لا تلاقـيـا
.
وعـرِّ قَلوصي في الرِّكاب فإنـها
_ _ سَـتَفـلِقُ أكبـاداً وتُبـكي بواكـيـا
.
وأبصرتُ نارَ (المازنياتِ) مَوْهِناً
_ _ بـعَلياءَ يُثنى دونَها الطَّـرف رانـيا
.
بِعودٍ أَلنْجـوجٍ أضـاءَ وَقُودُهـا
_ _ مَهاً في ظِلالِ السِّدر حُـوراً جَـوازيا
.
غريبٌ بعيدُ الـدار ثاوٍ بقـفـزةٍ
_ _ يَـدَ الـدهـر معروفاً بأنْ لا تـدانـيا
.
اقلبُ طرفي حول رحلي فلا أرى
_ _ بـه مـن عيون المُؤنساتِ مُراعـيـا
.
وبالرمل منّا نسوة لو شَـهِدْنَنـي
_ _ بَكينَ وفَـدَّين الطـبـيبَ المُـداويـا
.
وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ
_ _ ذمـيماً ولا ودّعـتُ بالـرمل قالِـيا
.
فمنهـنّ أمي وابنـتايَ وخالـتي
_ _ وبـاكيةٌ أخـرى تَهيجُ البـواكـيـا
التعليقات (0)