دقت أكثر من جهة ناقوس الخطر حول الفساد الذي يسري في دواليب ومساطر الاقتصاد الوطني، خاصة في مجال الصفقات العمومية.
وتبلغ قيمة الصفقات العمومية عموما أكثر من مائة مليار درهم وتشكلالوسيلة القانونية التي تختار بها الدولة و الجماعات المحلية و المؤسسات العمومية الشركاء الاقتصاديين المدعوين لتنفيذ البرامج و المشاريع العمومية المختلفة.
إن مجال الصفقات العمومية في المغرب عرف عقودا من التعتيم و الجمود اللذان طالا مختلف جوانبه القانونية و الإقتصادية و المالية و القضائية ، وظل عصيا على الحكامة حتى ثم إخضاعه لمبادىء متعارف عليها دوليا كحرية الولوج إلى الصفقات العمومية و المساواة بين المتنافسين و الشفافية عند اختيار الشريك الاقتصادي (الفائز بالصفقة) و كذا الانفتاح على المنافسة الخارجية. و قد حرصت على تعميم و تطبيق هذه المبادئ مختلف المنظمات الدولية المتخصصة (منظمة التجارة العالمية، منظمة التعاون الاقتصادي، منظمة الأمم المتحدة...).
و لم يشفع الانتقال الديمقراطي و حده، الذي أطلق في أواخر تسعينات القرن الماضي إلى اليوم، في التسريع من وثيرة إخراج مجال حيوي كالصفقات العمومية من النفق المظلم الذي ظل يعيش فيه على الرغم من الإصلاحات الإيجابية التي سجلها إن على المستوى القانوني أو المؤسساتي.
فهل مازالت الصفقات العمومية بالمغرب "دجاجة بكامونها" كما يقال بالنسبة للبعض، ودجاجة تبيض ذهبا بالنسبة للبعض الآخر، وكعكة تسيل لعاب الفاسدين؟
العنصر يدعو العمال إلى مراقبة الصفقات العمومية للتصدي للفساد
لقد سبق لوزير الداخلية امحند العنصر أن راسل، في بداية السنة، العمال والولاة بشأن إبرام صفقات الجماعات المحلية ومجموعاتها، ودعاهم إلى التطبيق الصارم لقانون الصفقات العمومية في ما يخص الجماعات المحلية والجهات والعمالات والأقاليم،وذلك عبر دورية في الموضوع.
واعتبرت مصادر حكومية أن دورية وزير الداخلية تأتي ضمن سياق الاختلالات المالية والتدبيرية التي تعرفها العديد من الجماعات المحلية والتي كشفت عنها تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة الداخلية، إذ وضعت اليد على عدد من الملفات التي يتابع فيها رؤساء جماعات ورجال أعمال، بسبب عدم التقيد بمقتضيات قانون الصفقات العمومية، سواء في ما يخص مساطر طلب العروض أو تركيبة لجان فتح الأظرفة، فضلا عن سريان الصفقات الجماعية على أشخاص، معنويين وذاتيين، بعينهم منذ سنوات، ما يشكل إخلالا بمبدأ تكافؤ الفرص بين المتنافسين. من جهة أخرى، حددت المصادر ذاتها أهم مظاهر التلاعب في الصفقات العمومية في الخروقات التي تهم المدة الفاصلة بين تاريخ الإعلان عن الصفقة وتاريخ فتح الأظرفة وكذا إمكانية الحصول على ملف الصفقة، إذ يعمد مجموعة من الساهرين على الشأن العام – نظرا للمراقبة التي يمكن ان تفرض على مراحل ما بعد فتح الاظرفة- إلى تحديد مآل الصفقة منذ البداية، ويتم رفض تسليم ملف الصفقة إلى المتنافسين تحت مبررات واهية، من قبيل أن الملف غير جاهز، أو تم إلغاء الصفقة. كما تتحول الآجال المحددة في 21 يوما إلى يومين أو ثلاثة أيام، ما يخل بمبدأ من مبادئ التنافسية. كما تهم الخروقات لجنة فتح الأظرفة، إذ يشتكي مجموعة من المتنافسين غياب وثيقة في ملفهم تكون سببا في إقصائهم.
كلفة الفساد في مجال الصفقات العمومية
إذا كانت قيمة الصفقات العمومية بالمغرب تُقدر في المعدل بـ 120 مليار درهم سنويا أي ما يناهز 18 في المائة حسب مجلس المنافسة و24 في المائة حسب المجلس الاقتصادي والاجتماعي، من الناتج الداخلي الخام، فإن الكلفة السنوية للفساد فيها ( أي الصفقات العمومية ) تتجاوز 2700 مليار سنتيم سنة 2010.
إن مختلف تقارير كل من المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية كشفت عن اختلالات وتجاوزات يعرفها مجال الصفقات العمومية في العديد من المؤسسات العامة والجماعات المحلية. كما أقرّت أن تطبيق النص المتعلق بالصفقات العمومية أبان عن حقيقة مرة وهي أنه لا يحمي المنافسة الاقتصادية الشريفة، ولا يضمن المساواة بين المقاولات المتبارية، ذلك أن هذا النص حافظ على الطرق التقليدية لتدبير وتفويت الصفقات مثل طلب العروض والمباراة والمسطرة التفاوضية وسندات الطلب، وكل طريقة تعرف مساطر معقدة وتعتريها اختلالات تمس في النهاية بمبدأ شفافية تدبير الصفقات العمومية.
وقد طالبت أكثر من جهة بإحالة ملفات الفساد التي يعرفه مجال الصفقات العمومية على القضاء من أجل محاسبة المتورطين فيه ووضع حد له. وذلك نظرا لأهمية الصفقات العمومية في تحريك دينامية الاقتصاد الوطني حيث فاق حجم الاستثمارات العمومية ما بين سنتي 2008 و2011 مبلغ 400 مليار درهم.
علما أنّ الكثير من القطاعات الاقتصادية مرتبطة بشكل كبير بالصفقات العمومية، و بدونها ستكون في حالة كساد كبير. وتكفي الإشارة إلى قطاع البناء و الأشغال العمومية الذي يحقق أكثر من 70 في المائة من رقم معاملاته بفضل الصفقات العمومية. كما أن قطاع التعليم يحتكر ما يناهز 47 في المائة من مجموع الصفقات العمومية بمعدل 5436 صفقة سنويا.
وفي هذا السياق يقرّ الدكتور عبد اللطيف بروحو، المتخصص في العلوم الإدارية والمالية العامة أنه إذا اعتبرنا أن معدل الفساد المالي المرتبط بالصفقات العمومية لا يقل عن 10 في المائة، وهو حد أدنى يتجاوزه المغرب بدون شك، فإن مبلغ الفساد المالي المرتبط فقط بالصفقات العمومية سيتجاوز 18 مليار درهم.
فرغم الخطوات المحققة في مجال التقنين، لازالت الصفقات العمومية تشكو من عقلية "نصيبي في الكعكة" بفعل مركزة المعلومة والزبونية وغياب إجراءات زجرية وضعف آليات النتابعة.
نموذج للاختلالات
علاوة على الفساد هناك عدة اختلالات في تدبير الصفقات العمومية، سيما تلك التي تديرها الجماعات المحلية وهذا مثل يخص مدينة القنيطرة.
لقد سجل قضاة المجلس الأعلى للحسابات، خلال تقييمهم عينة من الصفقات العمومية التي أشرفت عليها المصالح الإقليمية في القنيطرة، وجود اختلالات وخروقات قانونية بالجملة وكشف القضاة، في تقريرهم لسنة 2012 ، أن مصالح الإقليم أقصت العديد من المتنافسين بمبررات لا سند لها وسقطت في مفارقات وتناقضات حرمت شركات عدة من حقها في المشاركة في الصفقات المذكورة دون وجه حق وفي مخالفة صريحة لمقتضيات القانون. ولاحظ التقرير اعتماد الجهات المعنية معايير غير منصوص عليها في نظام الاستشارة لإقصاء بعض المتنافسين ووجود تباين كبير في تقييم وتنقيط مؤهلات نفس الشركات من صفقة إلى أخرى، إضافة إلى عدم حفظ الوثائق المُبرِّرة لقرارات الإقصاء. كما اكتشف قضاة الميداوي عدم وجود تناسق بين محتوى المادتين الـ4 والـ14 من نظام الاستشارة المتعلق بجميع الصفقات، وغموضاً في مقتضيات دفاتر التحملات والإحالة على بعض النصوص المنسوخة، بعدما عمد مسؤولو الإقليم إلى إبرام مجموعة من الصفقات رغم أن أجل تنفيذها يفوق أربعة أشهر بأثمنة ثابتة أو تم النص على أنها قابلة للمراجعة دون تحديد قيمة معامل صيغة مراجعة الأثمان، مما يجعل هذه المراجعة غير قابلة للتنفيذ. وساق التقرير نماذج لسوء تدبير المصالح الإقليمية العديد من الصفقات، مثل الصفقة المتعلقة بأشغال الإنارة العمومية في شارع محمد الخامس، حيث تم إقصاء التجمع المكون من شركتين بحجة أن الضمان المؤقت غير مسلم باسم التجمع، وهو ما يخالف مقتضيات القانون. كما أقصيت ست شركات أخرى في مرحلة فحص الملف التقني والإداري للصفقة، بمبرر عدم حصولها على سقف 75 نقطة بدون أن تكون اللجنة التقنية المنبثقة عن لجنة طلب العروض قد فحصت ملفات هذه الشركات.
هذا مجرد مثال وما خفي أفدح.
مافيا الصفقات بالعيون...
يكتسي الفساد في المصفقات العمومية بالأقاليم الجنوبية "نكهة" مخالفة، فمن يملك المقاولات والشركات المستفيدة من الصفقات العمومية رسميا على الأوراق، ليس هو من يحصل على خيراتها، فهناك أسماء وازنة تتوارى وراء الأسماء الظاهرة، وتحرك الخيوط لفائدتها، وهذا ما يوضح استفادة شركات بعينها من"كعكة"الصفقات ويضمن لها الحصول على أكبر الصفقات ومنها صفقة تموين فرق التدخل السريع.
إن الطريقة التي تدار بها الصفقات بالعيون وتفوت لجهات معلومة، سبق وأن انفضح أمرها بشكل طرح أكثر من تساؤل، خاصة في ظل وجود عمليات من هذا القبيل تتم بشكل جد مكشوف، وتنعدم فيها أدنى الشروط المنصوص عليها في القانون، ودون أن تحرك الجهات الوصية ساكنا، في منطقة كل عيون العالم تراقبها بشكل أو بآخر.
وحسب مصدر جيد الاطلاع إن جرد الصفقات المبرمة، يكشف بشكل واضح عن لوبي يحتكر كافة "الكعكة". إن عملية تفويت الصفقات يمر في غياب الشفافية، ولا يخضع لمقتضيات قانون الصفقات، ويتداخل في هذه العملية مجموعة من الأطراف التي تتقاسم "الكعكة" مع المقاولة الفائزة بمشروع ما، وما يزكي ذلك هو تفويت كل المشاريع والصفقات لنفس الأشخاص بعينهم
تحركات الدولة لا تسمن ولا تغني من جوع
أطلقت الدولة عددا من الإصلاحات المسطرية، لكن دون تحقيق الأهداف المتوخاة في مجال الحكامة المسؤولية و الشفافية، ودون التوصل فعلا إلى تسهيل ولوج المقاولات الصغرى و المتوسطة إلى الصفقات العمومية.
مازال المقاولون المغاربة ينتظرون وضع قانون واضح و مبسط للصفقات العمومية يضمن الشفافية و التنافسية و التوازن في العلاقة بين الأطراف المعنية، ويحرص على المنافسة الشريفة عن طريق الولوج المتساوي إلى المعلومة، و ضمان إمكانية التصدي للمقتضيات التمييزية غير المبررة والضرب على الأيدي التي تشجعها.
وينتظر الخبراء الاقتصاديون - الحاملون لهمّ تقدم البلاد ونموها- من الدولة إحداث هيئة مركزية مكلفة ببلورة سياسة الصفقات العمومية، تضمن في نفس الوقت التكوين و الدعم للمشترين العموميين. كما يتطلعون إلى الإقرار بوجوب التنصيص على التعويض الصناعي في بعض المجالات و ذلك عن طريق شراء المنتوجات الوطنية و تشجيع الاستثمار الداخلي و تحويل التكنلوجيات، وتشجيع إنتاج القيمة المضافة المحلية و ذلك بسن شروط و قوانين تفرض استعمال الإنتاج الوطني، وتقنين الاستشارة في إطار المشتريات الإستراتيجية للمنتوجات المتطورة من أجل تسهيل تطوير التكنولوجيات الجديدة من طرف المقاولات المغربية، وخصوصا توفير الظروف الملائمة لتمكين المقاولات الصغرى و المتوسطة من الولوج إلى الصفقات العمومية وتشجيع مكونات الاقتصاد الاجتماعي و التضامني للولوج إلى سوق الصفقات العمومية.
وبالرغم أن جملة من الإصلاحات طالت قوانين متعلقة بمراقبة نفقات الدولة و المراقبة المالية للدولة على المقاولات العمومية و هيئات أخرى، وإصلاحات مؤسساتية من قبيل إدماج مديرية مراقبة الالتزام بالنفقات بالخزينة العامة للمملكة، و كذا إحداث الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة و مجلس المنافسة اللذان ما فتئا يعلنان عن افتقارهما للآلية القانونية الملائمة و للموارد الضرورية من أجل الاضطلاع بدور فعال ، بالرغم من كل هذا لا تزال سلسلة الإصلاحات ضرورية، كمراجعة قانون المفتشية العامة للمالية و مفتشيات الوزارات وغيرها.
ويبقى التطبيق على أرض الواقع هو المحك الحقيقي لتقييم مدى مصداقية كل تلك الإصلاحات، خصوصا مع تواتر تقارير رسمية عن الاختلال الذي يطال تفويت و تدبير الصفقات العمومية وما تكشفه الصحف المستقلة بهذا الخصوص.
فإلى جانب الإشادة بمشاريع إصلاح نظام الصفقات لسنتي 1998 و 2007، سجل الشركاء الدوليين ملاحظاتهم بخصوص عدم محاربة الرشوة و انعدام المساءلة والمحاسبة و العقاب. فلا يكفي أن تطور الدولة منظومتها القانونية لتستجيب للمعايير الدولية إذا لم يجد المواطن أثرا إيجابيا لتلك القوانين في حياته اليومية تكريسا لدولة الحق والقانون.
الصفقات العمومية ... تخدم التنمية أم تساهم في اغتيالها؟
إن مختلف الدراسات والأبحاث التي اهتمت بالصفقات العمومية أجمعت على استمرار وجود اختلالات عميقة في هذا المجال، وعلى الدور العكسي الذي تلعبه حاليا بخصوص التنمية.
إن الصفقات العمومية أضحت تفرز سلبيات على الاقتصاد الوطني كفيلة باغتيال التنمية، إذ أنها تساهم في تعميق العجز التجاري للبلاد وتنال بقوة من احتياطيها من العملة الصعبة. وذلك رغم أنها عرفت نموا مطردا يقدر بـ 30 في المائة بين 2007 و2011. وتطورت بما قدره 6 في المائة بين 2002 و 2006.
اعتبارا لحجمها وما تمثله من الناتج الداخلي الخام، كان من المفروض أن تكون الصفقات العمومية مكوّنا أساسيا من مكوّنات النشاط الاقتصادي المغربي، كما من شأنها أن تشكل محركا لخلق الثروات المضافة إن هي تخلصت من الفساد .
بفعل الفساد الذي ظل يطالها، أضحت مصدر ريع لبعض المقاولات ولبعض المسؤولين الفاسدين. فهذا الفساد هو الذي يكمن وراء التكاليف الباهضة للصفقات العمومية، هذا علاوة على العش الذي أصبح قاعدة بفعل تنامي الرشوة.
كما أن الصفقات العمومية مازالت مرتعا للزبونية والمحسوبية. فمن بين الاختلالات الكبرى التي تمس تدبيرها قيام اتفاقات وتفاهمات مشبوهة بين الإدارة وبعض المقاولات بعينها دون سواها. ومتى كانت الزبونية والمحسوبية والاعتماد على قنوات خاصة وشبكة علائقية هي الأجدى ، خلافا للقنوات العادية، لنيل الصفقات العمومية،تعشعش الفساد وصعُب التصدي له، إذ يصبح لا مندوحة عن "دهن السير" .
ففي استطلاع رأي همّ 400 مقاولة خلص المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى أن 10 في المائة من المقاولات المغربية تشارك بانتظام في الصفقات العمومية، في حين 54 في المائة منها مازالت تعتبر المساطر معقدة ومكلفة جدا، بينما 63 في المائة من المقاولات أكدت بوضوح أن الصفقات العمومية غير شفافة وأن الرشوة مازالت متفشية بقوة في المجال، إنها العملة الأكيدة لنيل الصفقة. فيما دهب 36 في المائة من المقاولات إلى التأكيد أنها كانت ضحية إقصاء بفعل المساطر و"أعراف غامضة" لا يعلمها إلا أصحاب القرار.
على سبيل الختم
إنّ أي إصلاح للمرفق العام، ومنه الصفقات العمومية ، يجب أن يرتكز على المبادئ التي تضمنها الدستور الجديد، من خلال آليات تُمكّن من تفعيل هذه المبادئ، بالشكل الذي يكفل الشفافية في تدبير المال العام ويحفظه من تلاعب المتلاعبين. فقد خصّصَ دستور 29 يوليو 2011 حيزا مهما للحكامة الجيدة، و نصّ على مجموعة من المبادئ منها: مبادئ المساواة و الإنصاف و الاستمرارية، و معايير الجودة و المحاسبة و المسؤولية في تقديم خدمات المرفق العام، وممارسة أعوان المرافق العمومية لوظائفهم وفق مبادئ احترام القانون و الحياد و الشفافية و النزاهة و المصلحة العامة، وضمان تلقّي ملاحظات المرتفقين و شكاياتهم و تتبّعها، و خضوع المرافق العمومية للمراقبة و التقييم في تدبير الأموال العمومية. فمتى سيتم تنزيل هذه المبادئ على أرض الواقع؟
التعليقات (0)