مواضيع اليوم

مارسيل خليفة .. نشيد وطني لا يسمع إلا وقوفا

يوسف رشيد

2010-11-22 13:41:26

0

 

 

 ـ هناك أشخاص تلتقي بهم كل يوم ، وتتبادل معهم التحية ، وتشرب قهوتك معهم ، أو بحضورهم ، لكن ، سرعان ما تتراجع صورُهم من ذاكرتك ، وتختفي ، فتنسى وجوهَهم وأسماءَهم ولون قمصانهم ، فور مغادرتك المكان الذي جمعكم ..

 

ـ وهناك أشخاص ، صُودِفَ أن التقيت بهم مرة أو مرتين متباعدتين ، لكنهم يتركون في أعماقك انطباعا محببا ، يدفعك للبحث عنهم ، أو لمحاولة اللقاء بهم من جديد ..

ـ وهناك أشخاص لم تلتق بهم وجها لوجه .. لكنكَ سمعتَ بهم ، أو شاهدتهم عبر وسائل الإعلام ..

فأنت تعرفهم ، وهم لا يعرفونك .. أنت تتمنى لقاءهم ، أو الاستماع إليهم ، أو الجلوس معهم .. وهم في عالمهم ، لا يستطيعون مجاراة رغباتك ، ولا رغبات غيرك .. لكن ذلك لا يغير من حقيقة هذه الرغبات التي تملكها ..

فنحن دائما ، معتادون على أن نفتش عن أعذار مخففـِّة لمن نحب ، كي نبقى على حبنا لهم ..  

وحتى هذه المجموعة التي تعرفها ، ولا تعرفك ، هناك منهم ، منْ لا تريد أن تراهم ، ولو فرضوا أنفسهم عليك ، في الشاشات ، أو غيرها ..

فيكون منهم من تنطبق عليه الحالتان الأوليان ..

أما مع مارسيل خليفة ، فالحال مختلف جدا ، باختلافه الكلي عن كثير من مشاهير جيله ، الذين نعرفهم ولا يعرفوننا .. فهو ـ وبكل تأكيد ـ ممن نتمنى لقاءهم ، والجلوس معهم ، والاستماع إلى فنهم وإبداعهم ..

صحيح ، هو لا يعرفنا ، لكنه يحس بنا تماما ، كما نحس نحن بألحانه .. وهو لم يرَنا ، لكننا رأينا أنفسَنا وهمومَنا وأمانينا وأحلامَنا في ألحانه وأناشيده ..

عرفنا من فنـِّه ، طعمًا آخر لحبِّ الأرض والأم والحبيبة ..

تعلمنا منه ، كيف يكون حبُّ الحق والخير والإنسان ..

وكيف تكون الكلمة واللحن أقوى من السيف والمدفع ..

عشقنا ثنائيته مع الشاعر المرحوم محمود درويش .. أحببناهما معا .. وأخذنا عنهما قوانين الصداقة والانسجام الفكري الذي تخلـَّق بيننا في هنيهة من الفرح المجبول بكل أزهار أرض محمود درويش المحتلة ، وأنغام مارسيل الشجية ..

بداية معرفتي بفن مارسيل ، كانت بُعيْدَ الغزو الصهيوني لجنوب لبنان ، واحتلال بيروت عام 1982 ..

سمعته أول مرة من شريط قدمته لي صديقة عزيزة ، مع شريط آخر لأحمد قعبور " أناديكم " ، فيما كانت تغالب دمعَها وهي تروي لي ما شاهدته على التلفاز ، مما كان يفعله الصهاينة في لبنان ..

 

وفي عام 1988 ، استضفتُ صديقي ، وأستاذه البلغاري المشرفَ على أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه ..

وخلال مراسم الضيافة ، كنا نستمع لمارسيل ، فتوقف الأستاذ الضيف عن الطعام ، وطلب من تلميذه أن يترجم له كلمات الأغنية التي نسمعها .. وفور أن انتهى صديقي من ترجمة المقطع الأول :

منتصب القامة أمشي     مرفوع الهامة أمشي

في كفي قصفة زيتون      وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي

 

نهض الأستاذ الضيف ، وطلب منا الوقوف وهو يقول :

هذه الأغنية كالنشيد الوطني .. يجب ألا تـُسمَعَ إلا وقوفا ..

وبقينا واقفين ، والدهشة تملأ وجوهنا وعيوننا ، حتى انتهت الأغنية ..

وقبل الوداع ، رجاني ، عبر ترجمة صديقي ، أن أؤمن له نسخة من هذا الشريط .. تعبيرا عن إعجابه الشديد به ، ورغبة منه باقتنائه ..

 

سأكتفي بهذا القدر من الحديث الخاص عن الفنان مارسيل خليفة .. لأن أي كلام آخر مني عن فنه ، أو عطائه وإبداعه في الموسيقا والتأليف الموسيقي ، لن يضيف جديدا لهذه القامة السامقة ، لاسيما أنني من ضعيفي الثقافة الموسيقية ـ كما يقول مارسيل في الحوار ، وهو صحيح ـ  وأنني مجرد مستمع لفنه ، معجب بأدائه وبحسن اختياره للأشعار التي يترنم بها ، فأعيشها معه حرفا حرفا .. تأسرني جمالياتها ، وشفافيتها ، ودلالاتها ..

وبالطبع ، تهزني أنغامها ، فأطرب لها حينا ، وأتألم لأوجاعها وأنـّاتِها أحيانا أخرى ..

لكنه يبقى مارسيل خليفة .. لحنا ، ومعنًى ، وأداء ، وثقافة ، وحضورا كبيرا ، في المشهدين : الفني ، والثقافي ..

 

وبقي أن أشكر الصديقة التي أرسلت لي حديث مارسيل هذا ، وجعلتني أستعيد معه ما كتبتُ آنفا ، فهي ممن يعرفون عشقي لفنه ، واهتمامي به .. ومع أن إيميلها يخلو من الإشارة إلى مصدر الحوار ، أو اسم الشخص الذي أجراه .. إلا أني عثرت على الحوار منشورا على الشبكة العنكبوتية ، لكنه ليس على هذه الصورة ، وثمة فرق كبير بينهما ، مما أكد لي ما ورد في مقدمة الحوار أدناه ..  

 

كما لابد من التنويه ، إلى أنني اضطررت للتدخل  ـ سلميا ـ في التنسيق الشكلي للحوار حتى اتخذ الشكل الذي هو عليه أدناه ، دون أي تصرف في المضمون ..

 

 

 

 

 منقوووووووووووووول

 

 

مارسيل خليفة

 

أريد قليلا من الأوكسجين ، لأكتشف غموض الآفاق ..

 

قريبا من الموسيقى كنا نجتاز الشوارع الضيقة لحارات دمشق القديمة من دهليز إلى دهليز , ومن حارة إلى حارة , رائق الخاطر ، وفي متاهة عذبة لأزقة لا متناهية سلكت مع الرجل طريقنا وكأننا جزء من صمت العلامة , وكأن الخطوة هي مفتاح الصول لأمكنة تحولت فجأة إلى أزمنة مموسقة .. وبينما كان مارسيل خليفة بخطاه الخفيفة الميلودية يبتعد عابرًا متاهة الأحياء الشامية العتيقة كموشح خالص من الحنين ، كنت أهمُّ بسؤاله عند التوقف أمام حانوت الفواكه المجففة , أو حتى أثناء تأديته السلام لأحباء كانوا يبزغون عند مطلع كل شارع جديد , كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساء , عند مفرق حي باب توما ، توقف خليفة عند بائع للأعواد , تأمَّل أحدها , وكأنه يتذكر عودَه الأول الذي ابتاعه له أبوه من سوق الحميدية .. لم يخالجني الشك أننا كنا نتحدث طوال الطريق المفضي إلى أسئلة لم تخطر على بالي أثناء بدء الحوار , إذ كانت الأسئلة تتفرع كما حارات دمشق , و تنداح كمياه ترتاح في سريرها النهري ..

وكان عمله الجديد ( الكونشيرتو العربي ) مع الفرقة القطرية الفلهارمونية فاتحة السؤال , في حوار طويل , للأسف فقد تعرَّضَ للحذف والتشويه , في منبر آخر , وهاهنا النسخة الكاملة منه , بناءً على رغبة هذا الموسيقي المحترف :

 

س :  استطعتَ لأول مرة أن تقدم مقترحا موسيقيا غاية في الجدة من حيث كتابة المقامات العربية ضمن القالب السيمفوني , هل يندرج ذلك ضمن مشروعك الجديد بالبحث عن صيغة حوار مع الآخر ؟

هل تحتمل الموسيقا برأيك مفهوم الأنا الآخر؟

 

   بالنسبة للكونشيرتو العربي ، ما كتبته من روحانية الشرق القديم ، من ميراث بيزنطة بدفقه الكنسي , من لمسات موسيقا فارس السحرية ، من حزن العراق القديم المودع في المقام , من إيقاع الصحراء العربية ، من طرب البشاف والسماعيات واللونغات التركية , من الغناء الجبلي والدور المصري والقدّ الحلبي ، ومن زخرف الأداء المغاربي , ومن نسمة الفردوس الأندلسي ..

في الكونشيرتو العربي عندما لعبناه في السكالا دي ميلانو بإيطاليا ومسرح الشان اليزيه في باريس وأوبرا الكندي سنتر في واشنطن والرويال البيرت هول في لندن بقيادة المايسترو العالمي لورين مازيل ، لم يحلَّ ضيفا غريبا على هذه القاعات , والتي ـ وللمرة الأولى ـ تستقبل عملا سيمفونيا بمرافقة الآلات الموسيقية العربية والمقامات العربية التي تعتمد على ربع الصوت مثل الراست والسيكاه والبياتي وراحة الأرواح وغيرها , وأيضا الإيقاعات العربية : كالمصمودي والوحدة والمخمس العربي والدور الهندي وغيرها من الأصول الستة عشر , أتى هذا العمل مشاركا في التعبير الإنساني من مادة محلية , من موروث نصونه من التلف والابتذال , ونستخرج الدفين من كنوزه التعبيرية , نص يزج بالشرق ومفاتنه في الموسيقا العالمية , زمن موسيقي متعدد وممتنع عن التنميط أو عن التعيين النهائي , إنه حوار لا ينقطع بين الأنا والأنا , وبين الأنا والآخر , مع المشترك والمختلف والبحث عن غنى التجربة الموسيقية الإنسانية و تنوعها , وفتح قابلية التأثر التي تحتاج إليها الموسيقا لتجديد أسلوبيتها عن طريق الإصغاء إلى تجارب الآخرين ..

وغني عن القول : إن لكل لغة موسيقية شرقية أم غربية نظامها وتركيبها الإيقاعي والنغمي والمقامي ..

 

وكل ذلك وضعني أمام مسؤولية كبيرة لتصوير ضوء المعنى , فمصدر الموسيقا واحد هو : هويتنا الإنسانية ..

 من هنا ، العالمية ، لم تكن منذ البداية إلا محلية وفي هذا السياق المتعدد اللغات الفنية والمناطق ودرجات التطور التاريخي تتوحد التجربة الإنسانية وتتحقق عالميتها الخاصة بها , وذلك بإسهام كل محلية موسيقية في صوغ ما نسميه الموسيقا العالمية .

 

س : يبدو أن هناك تطويرًا تجريه دومًا على أدواتك الفنية , مَن المستمع الذي تسعى إليه اليوم عبر مقطوعاتك الجديدة؟

 

أسعى إلى تطوير أدواتي الفنية رغم السهام الموجهة بعناية فائقة , وسأظل أكتب حياتي كما أعيشها وكما أراها ، وسأدون أحلامي بالحرية , وسأصر على أن أكون كما أريد لا كما يريدون , ولن أنتبه إلى الغبار الذي تثيره العربات الفارغة ، لأنني واثق من صواب قلب الحب ..

كتابة الموسيقا بلا مستمع لا تحقق معنى , المستمع هو الذي يمنح العمل الموسيقي حياته المتجددة .. وأدرك جيدا أن هناك صورًا نمطية يتوقع البعض أن تكون مخلصة , وفيّة في مرآته ، وخاصة لأي فنان ملتزم بقضاياه العربية , ولكن في أعمالي منذ البداية حملت ذاتا فردية , وبحثت عن إنسانية الإنسان المقهور والمسلوب والمحاصَر, عن الحياة الشخصية وهذا هو مجال المؤلف الموسيقي , أعرف بأن الموسيقي العربي مطالب بالتماهي مع هويته المحاصرة والمسلوبة في الوطن الكبير وفي العالم , لذا عانيت كثيرًا خلال تجوالي الدائم وتداخل الحرية مع سؤال الموسيقا في توتر عال ..

 

س : لكن ما هو هذا الشيء , الذي ينتفض دائما في مؤلفاتك , مَن هو هذا الطائر الصوتي الخارق الذي ينظم لك كل هذه الموسيقا ؟ وما الفارق الجوهري بينه وبين الفنون الأخرى ؟

 

الفارق في الموسيقا : هو عدم إمكانية تكرارها , الصوت سريع الزوال , يمرّ ولا تستطيع أن تستعيده عندما تشاء , ليس كاللوحة تراها ، والكتاب تفتحه , تختلف الموسيقا عن الكلمة المكتوبة ، لأن الموسيقا تولد فقط عندما يتم إصدار الصوت , الموسيقا موجودة في مخيلة المؤلف تابعة لقانون الفيزياء , يتخيلها المؤلف في عقله ، يستخدم التدوين الموسيقي بتلك النقاط السود على ورقة النوتة البيضاء المسطرة ..

والموسيقا تولد فقط عندما تعزف , إذ لا يمكن تكرار الأداء بأي شكل من الأشكال حتى لو تم تسجيله على شريط سيكون مختلفا , ولن يكون الشيء ذاته , فعندما نكرر المقطوعة في كل مرة يكون الأداء مختلفا , وعندما تنتهي المقطوعة يختفي الصوت ..

 

س : إذا ، أين تختفي الموسيقا ؟ وهل بإمكاننا استرداد الصوت كزمن انقضى ولم يعد موجودا ؟

 

من الناحية الفيزيائية ، الموسيقا تختفي , تنتهي , وسيمكننا أن نسترد الصوت بإعادة العزف , لكن لن تكون هي ذاتها , لن يكون الصوت ذاته , سيكون النهر ذاته بمياه مختلفة , وهذا ما يعطي الموسيقا ذلك الإحساس بالأزلية , إنه في الوهم , عامل خلق الوهم بالموسيقا والصوت , أعتقد أن الثقافة الموسيقية ضعيفة جدا ، بل مفقودة فعليا , ومن المهم إيقاظ وعي الناس ..

 كيف تمت كتابة المقطوعة وما الذي ألهَمَ المؤلفَ لكتابتها ؟؟ لماذا يحتوي الصوت على كل هذه العاطفة وكيف نستمع ؟؟

الموسيقا هي الأقل معرفة من قبل الناس ..

في الثقافة العامة يهتم الإنسان المثقف بالفلسفة والأدب ، ويعرف الكثير في السينما والرسم , والنحت والمسرح , لكنه قد لا يعرف شيئا عن الموسيقا .. هناك أنواع من الجهل المتعلق بالموسيقا , ولهذا نرى مستمعين محافظين للغاية لا يريدون موسيقا جديدة , يريدون فقط ما علق في ذهنهم من قوالب الماضي أكثر مما يريدون الجديد ..

 قليل من الناس الذين يعرفون الموسيقا وقد جعلوها جزءا من حياتهم , علينا أن نخلق سُبُلا للاستمتاع وجعل الموسيقا سهلة المنال ..

 

س : هل يندرج هذا الكلام ضمن تقليعة إيجاد مريدين جدد لموسيقا مارسيل خليفة ؟

 

بالنسبة لي لم أرغب في أن يكون لي أتباعٌ في العزف والغناء والتدريب والكتابة , فيما هناك أشخاص يطمحون جدا لتربية أتباع لهم , أحب أن يعلن الشخص عن استقلاليته وأن يسلك طريقه الخاص .. مثال على ذلك بشار ورامي ..

لا أحبُّ طريقة محددة حتى لو كنتُ مَن استنبطها , تمارين ومقطوعات كثيرة كتبتها وطبعتها للآلات الموسيقية العربية لطلاب المعاهد الموسيقية حاولت جاهدا أن أوقظ فضول الطلاب وأن أعطي الوسيلة التي تساعد على تطوير الفضول , لم أحب العزف الميكانيكي , ولا أحب الذي يعزف المُدَوَّنَ بشكل مثالي ودون أي نوع من الذاتية , أكتب متحررا من كل شيء , وعندما يصبح لديك ما تقوله حقيقة , سوف تثير ـ بالتأكيد ـ الإعجابَ لدى البعض والرفضَ لدى البعض الآخر.

 

س : أفهم من كلامك أن ثمة حدودًا بين ما تكتبه على الورق وما يقوم عازفو الأوركسترا بأدائه على المسرح؟

 

إذا نظرنا إلى أوركسترا تحتل خشبة المسرح لا نستطيع إعطاء اسم لأي نوع من وجوه العازفين على الرغم من أن الجميع يستحق التقدير والإعجاب بالدرجة نفسها كما كل العازفين البارعين الذين فضلوا المجد الفردي على الذوبان الرائع في الأوركسترا ..

العازفون يرسمون بآلاتهم الموسيقية الألوان المحددة من المؤلف , الأوركسترا لوحة تتضمن كل ما يؤلف اللوحة من خليط الألوان , ومن ريشة الفنان ومن ذلك الانفعال الذي يولد التفاصيل , هنالك نوع من الجمود وانعدام الحياة في ما يوجد على الورق , ولكن العازف يقرأ النص ، والنص يصبح مستقلا عن المؤلف , وكي يعزف النص يجب استيعاب العملية التي أدت إلى وجود هذه النوتات على الورق , فهي مرتبطة بسلسلة من الأحاسيس الغريزية وبسلسلة من التخمينات في الأسلوب, وفي إعادة إنتاج الصوت بحيث يجذب الانتباه بالجديد , وإعطاء دفع أو شكل جديد في كل مرة تعزف فيها المقطوعة ..

 

س : برأيك كيف يستطيع الناقد الموسيقي مجاراة هذه الموسيقا .. الزمن التي تكتبها بشكل مختلف في كل مرة توزع فيها أوراق النوتة على العازفين؟

 

أعتقد بأن النقد الصحيح هو جزء من الجمهور..

الناقد الموسيقي الذي يضع نفسه في مكان المستمع ، يستطيع تقنيا ، تحديد مصدر رأيه متسلحا بالتجربة المقارنة التي كوّنها على إثر عمليات سماع متتابعة .. هذا إذا اعتمد على علم الموسيقا وتحصّن أكاديميا , إضافة إلى ذلك : إن الناقد عليه في الوقت نفسه أن يحمل في شخصيته شخصية الفنان مؤلفا كان أو مؤديا , فهو سيضع رجلا في كل جهة , أما معطياته فتكون مرتبطة بين الأسباب والنتائج , فهي تحفظ الزائد في اتجاه وتوقفه في الاتجاه الآخر , حتى لو تلعثمت كلماته فإن الناقد يستطيع المحافظة على وزن وقيمةٍ إذا كانت الحجج التي يقدمها تملك هذا الوزن , عندما يقدم الصحافي تقريرا عن حفل ، يرتدي بزة الحاكم العام , يطرح اتهامات أحيانا , يخلي الحاكم العام المكان للمحامي , بالطبع إن أداء أو تأليف عمل لا يمكن أن يرضي كل الناس , إن الناقد الموسيقي لا يترك أي تفصيل يمكن أن يثير الانتباه , فهو عند وضع تقرير عن حفل موسيقي يلجأ إلى وصف الأوركسترا مفصلا .. كل عازف على حدة , مشيرًا إلى قيمة عازفين معينين موجها ملامة إلى البعض الآخر ..

 عند قراءة نقد فني جدي عن عازف ، نستنتج أن النص يضيء لعب المؤدي , فهو يحدد إحساس مخيلة المستمع ..

لأنك ربما استطعت إدراك كل ما أرادت مخيلة ذلك العازف أن تتعاطى مع الموضوع , هذا يؤكد جدية العلاقة , يدعم قناعاتك ويشرع انطباعك .. العازف يوصل إليك إحساسا ، والناقد الموسيقي يشرح لك صحة هذا الإحساس ..

 وهنا ينفذ الناقد مهمته ويظهر عن إفادته ..

 

س : كيف تقيِّم اليوم ما يكتب من قراءات نقدية موسيقية ؟

 

الكتابات النقدية هي حتما مقروءة بغثـِّها وسمينها , وإلا لكانت غابت عن الصحف .. إن الناقد الصحيح عليه معرفة تحديد مكامن الأشياء التي تعطي القيمة الحقيقية لحفل ما , لعمل موسيقي ما , أو الأشياء التي تقلل من تلك القيمة .. عندما يبدأ أحد النقاد بتوجيه ضربات إلى الموسيقيين ، فهم يعرفون تماما إذا كان مخطئا أم لا ..

لا أعتقد بأن العدوانية تشكل الطريقة الأحسن في إقناع الموسيقيين بأنهم قصروا في مهمتهم ..

 إن الاتهام يساهم في رص صفوف الموسيقيين الحقيقيين الذين يدفعون الناقد إلى قفصه وحيدا , بالقرب من النقاد وأحيانا ، مختلطين .. في صفوفهم يوجد المعلقون العالمون بالموسيقا والمحللون , المنغمسون سلاحًا وعدّة في الغابات المظلمة للمغامرة التحليلية .. للأسف إن أدوات لغتهم تنغلق عليهم , وبالتالي لا تستطيع اللحاق بهم إلا برادار الحدس ..

 

س : هذا يعني أن هناك تغيرات جديدة في الموسيقا العربية المعاصرة ، على النقد أن يضعها في سياقاتها النظرية ؟

 

صار للموسيقا العربية الآن أن تحتفي بالمنحى التعبيري الذي تجتازه .. لم تعد الصورة ولا الإيقاع ولا الجملة ذاتها .. الأمور تجري كما يحلو, ولم تعد لدينا رغبة في معرفة مستقبلنا بالوضوح الحديدي الذي تسلح به المحافظون , إنه وضوح يضاهي قيدا لا يرحم , وليكن من حق الآخرين ، المحافظين أن يسموا هذا خرابا ..

فربما حَلا لنا ذلك أيضا ..

وهكذا عندما أصدرتُ أسطوانتي الأولى قالوا بأني أخرب الموسيقا العربية ولم يكن أحد يملك حق منعي عن ذلك , لا يجوز أن نتوقف أمام الاعتراضات الهستيرية التي تنتاب بعضهم وهم ينظرون إلى المشهد الموسيقي يشطح خارجا عن صورته القديمة بما لا يقاس من التنوع ..

ولا أحد يملك سلطة المصادرة .. وليس عندنا الوقت أن نشتغل بمهمة إقناع أولئك بأن ما يحدث هو من طبيعة الأشياء ..

إنها تجربتنا الأخيرة بعد مصادرة كل شيء بلا استثناء ..

إذ ليست لدينا مخيلة وأحلام مكبوتة .. الأسلاف صاغوا حياتهم وطريقة عملهم كما يحبون ويستريحون , وكل ذلك حقهم ، وينبغي الآن من المبعوثين أن يكفوا عن محاولة إثارة الضجيج حول ما أنجزه الأسلاف .. ثم ، لماذا كل هذا الضجيج لتكريس الجذور والسكوت عن حرية الأجنحة ؟؟

ليس أمام التجارب الجديدة إلا أن تذهب إلى حدّها الأقصى بموهبة ومعرفة .. الإبداع توغل في غموض ما لا يعرف , فالمعروف هو ما تم اكتشافه وصار ناجزا و مستقرا , وشرط نجاح التجارب الجديدة أن تخرج عن الطوق والطريقة معا , وتصدر من الحياة الأكثر تأججا واتصالا بالمستقبل ..

 

س : بعد عودتك اليوم من باريس إلى عمشيت ، أية موسيقا تلك التي تبحث عنها في المكان الأول ؟

وما الذي تغير في داخلك ؟

ما الذي يفصلك اليوم عن ذلك الطفل الذي كان يعزف على كراسي الخيزران ؟؟

 

عندما كنت صغيرا ، لم أدرك أن الكبار كانوا صغارا مثلنا .. ذات يوم كنت أعتقد بأنهم خلقوا كبارا ، ولم تكن لهم طفولة ذات يوم .. كانوا يوهموننا بأنهم يعرفون كل شيء .. يسرقون منا طفولتنا المنذورة للرحيل المبكر ، لندخل في عالمهم المفضي إلى العدم , لماذا يدفعوننا لنخسر طفولتنا ونـُقحَمَ في عالم لا نفهمه ولا نفقه كنهه ولا سِرَّهُ ؟

كنا أطفالا منذورين للعب والضحك والمطر والشمس .. وكانت الأرض تهرب من تحت أقدامنا كالرياح العاتية تقصف في دربها كل شيء .. كنا كالسيل العارم نجرف بدربنا معالم الحقول والهضاب ونرميها في تلك الوديان السحيقة , وكان يأخذنا الدَّهَشُ من كل شيء .. نجلس على أكوام القش في الحقول .. نراقب العصافير تحوم على الحبوب المنثورة , فتختلط رائحتنا برائحة الزعتر والنعناع .. وفي الليل كانت أجسادنا تغتسل بضوء القمر الفضي على إيقاع البحر ونظامه ، حيث كنا نغافل أهلنا المشغولين ، ونسرح مع الصيادين في ليل أعمى لا نرى فيه شيئا , لكنه كان ينتعش بالسَّهِّيرة , وكانت الأمواج الصغيرة تحملنا وتلفنا بالزبد , ولم نكن نتوب عن ركوب الأمواج ..

 الزمن قاس يراقبنا يداهمنا , لكننا كنا نتحين الفرص لنسابقه ، لنستعجله ، وهو يتباطأ كي لا نراه ، إلى أن غافـَلـَنا ..

فبدأنا نستمهله وهو يجدُّ السير بنا ..

 أتذكر .. كان جدي يحفر ، يقلـِّم ، يسقي ، ينتزع أوراقا ، أو يقطف الورود .. والطفل الذي كنته تتحفر الأشياء في ذهنه ..

في شهر شباط ، كان يُطعِّم التفاح والأجاص .. وفي شهر نيسان ، تتفتح الورود والبنفسج بين يديه , ويزرع الأكي دنيا والعرايش .. وفي شهر أيار ، يكتسي الزيتون بالزهر ويسقط الخوخ والمشمش والخيار في يديه .. وفي الصيف ، يبدأ بالحصاد ودرس الحبوب .. وفي شهر آب ، ينضج العنب والبطيخ .. وفي شهر أيلول ، الجوز وثمار البلوط وقطاف العنب والرمان والسفرجل والزيتون .. وفي تشرين ، تسقط أوراق الشجر .. وفي كانون ، تعود الأمطار التي تغذي الأرض ، ويعود ويزرع البصل والثوم ..

 

رحل جدي يوسف ، ورحلت معه تلك العصافير التي كانت تزين حقول عمشيت ، ونبتت بنايات عشوائية أكلت الأخضر واليابس وصار مُلوَّنـًا ، بلدي الأخضر ..

 

س : تتحدث وكأنك تعيش حالة من الفقد غير المنتهي , ما الذي تغير اليوم ؟

وما هي التغييرات التي أعادتك إلى عمشيت بعد كل هذا الزمن ؟

أية نوستالجيا تلك التي تبرم الموسيقا مع الأمكنة الأولى؟

 

أستطيع قياس حجم التغييرات الداخلية والعاطفية والنفسية التي طرأت على حياتي ، يوم رحلت أمي الصغيرة .. حيث أدركتُ ما الذي يعنيه هذا الغياب !! وأدركت أنها لن تعود .. فارتميت في حضن جدتي وبكيت .. لقد كان موت أمي من أكثر المناطق إيلاما في ذاكرتي ..

باكرا يومها غنت العصافير الصغيرة وحيدة ، والتفت على صباحي بشدوها المتعرج بليلي العميق .. لقد قاومتُ ذلك الغيابَ الصاعقَ لأمي ، حيث كان ينبت من بين يديها الحَبَق والريحان على مصطبةٍ تمتد من خطاها كسهلةٍ صغيرةٍ في أحواض ممتلئة بالتراب والحياة .. صمتي اليوم مُرَصَّعٌ بالأمل .. أفتح مسارب الهواء من أجل أقدام الصباح المشغولة بالوصول إلى الهدف ، لتختفي وتتلاشى على الأزرق في موجة آتية من بعيد .. لتتكسر على الصخور .. ألاحقها ، وهي تتعب عند بلوغها الشاطئ ، لترتاح عند أقدام اليابسة .. وفي الطريق على بحر عمشيت ، قطط تنزلق هائجة مائجة على صراخ الشهوة .. أعود إلى حي العربة , إلى بيتنا العمشيتي ، وشمسٌ حارقة تدخل من النافذة , إنها الرابعة بعد الظهر, تزحف على قدميّ , على السجادة الحمراء , وتلعق الأوراق أمامي , كنت عندما أدخل غرفة الطريق في هذا البيت العتيق أتأمل روح أمي المتألقة الناهضة إلى الأعالي , لم يكن سهلا أن تفقد عناقاتِ واحتضاناتِ أمٍّ إلى الأبد .. أتت مثل البرق في حياتي وتركت أثرا شفيفا أحمله .. رحلت أمي وتركت أحلامها تغمر قلبي بنعاس لذيذ , تجلس إلى جانبي , تأخذ يدي , تقبل وجهي بدمع ابتسامتها .. كيف حَدَثَ ، يا بُنيَّ ، وَبَيَّضَ كلُّ هذا الشيبِ لِحْيتـَك ؟؟!!

كيف يمكن أن يشيخ المرء بهذه السهولة , وأنت طفل في حضن أمك ؟ الحب هو الذهول ، هو الجنون .. إنه مثل النهر .. المجرى هو الذي يبدأ وينتهي وليس الماء ..

 طرف الشال الأزرق الذي غطى وجهي ولامس عيني من النور المفرط والأبيض الحاد والجارح ، أبكاني من زهوه ..

 

س : ولكنكَ عبَّرتَ عن هذه العلاقة بطريقة أو بأخرى عبر قصائد درويش : إلى أمٍّ لا ينتهي الحنين إليها ؟؟

 

ربما لن يفهم أحدٌ علاقة أمٍّ بابنها ولن يبررها ..

 وأنا لا أتطلع إلى مثل هذا الفهم .. قلائل أولئك البشر الذين يفهمون ما لا يشعرون به ..

أجهل متى بدأت العلاقة وسأبقى أجهل ذلك , فليس الحب إلا تعرُّفُ الذات على ذاتها ، كي يخرجها من المصادفة إلى الوجود ..

 عندما كنت صغيرا ، لم أكن أدرك أن الكبار كانوا صغارا مثلنا ـ كما قلت لك ـ كنت أعتقد بأنهم خلقوا كبارا ، ولم يكن لهم طفولة ذات يوم ..

ونبتعد عن تلك الطفولة المنذورة للرحيل المبكر , وندخل في عالم الكبار المفضي إلى العدم , أحس اليوم وأنا أتذكر أمي أن كل شيء في هذه الدنيا يعيش لمرة واحدة .. البارحة كان نهارا واحدا وانتهى , لن نكرره , وسيأتي يوم آخر .. وكلما التقينا عرفت أننا سنلتقي لمرة واحدة قد لا تكون الأخيرة ، ولكن لن يكون مثلها .. زهور الحديقة تتفتح مرة واحدة , عندما تذبل لا تعود من جديد ، بل تأتي زهور أخرى ..

 

س : ألم ترتبْ لكَ الموسيقا ذلك الحنين ؟

ألم تأخذك إلى قراءة المكان الأول كنصٍّ موسيقي لا متناه في لغويته ومتخيله ؟

 

ماذا علي أن أقول , وعيناي تسرحان بين الكلمات على حفافي الجرح .. وصفحات قصب الوجع تنبت نايات ساكتة على بحة مقام .. الكلمات تقفز الواحدة تلو الواحدة لترتمي بأفياء الهدب , حيث رائحة حبق وعتب , وورد وتراب ..

 لم أنتظر قطعة سكر أو ثمرة أول موسم , أو خبزة صاج ساخنة تحرق ولا تخفف الجوع .. إنني أحاول أن أصفو من خلال صمتي أمام صفحة بيضاء مسطرة ، أدوزن عليها العلامات الموسيقية , لن يكون بوحي شجيًّا ، ولن يكون بارعًا , في صمت مفعم بالحب ، وفي انعدام الوساطة بين الإحساس والنوته .. أكتب حروفا بلا تشكيل ، بلا قواعد .. ربما كتابة على الحياة مباشرة ..

إن صمتي يئن من صمته ويتهدج تحت ثقل المخطوطة .. أحترف البكاء اللا مرئي وأدس حرقته في الدعابة .. كم من سؤال مرَّ بي ، فأجَّلته لخجلٍ في العيون ..

 لا معنى يشبهني إلا ما تبعثه الموسيقا ..

ولا مبنى يغويني إلا ما تشيده الموسيقا ..

أحاول جاهدًا أن أجدَ مَقعدًا للحنين ، على وقع الموسيقا في مساء لا يطيب لي إلا ما يملؤه شجن الروح ، لأعيدَ دهشتي الأولى من جديد , ولأرحلَ مع الطيور العاصية إلى أفق بعيد غامض ، أحبه دائما غامضا ، في الأقاصي الزاخرة لاستبدال فوضى العالم بالإيقاع , هل ما كتبته وما سأكتبه هو بمنزلة الشك ، في قمر الحب الذي يغمر ليلنا الدامس ، بالفضة الصريحة ..

أدافع عن صمتي ، ولا أملك دفاعا غير النوتات التي ولدت من صخرة الجبل متميزة برهافة عصفور ..

 

س : يعني أنك لا تريد الذهاب إلى المستقبل ؟

 

منذ طفولتي لم تكن لدي رغبة في معرفة المستقبل بالوضوح الحديدي .. إنه وضوح يضاهي قيدا لا يرحم .. ليست لدي معجزات .. لدي مخيلة وأحلام مكبوتة .. في كل يوم أستأنف الرحيل الشاق نحو البحث عن نقطة ضوء لبداية تتجدد .. لارتماء طفولي في حضن دافئ .. لاحتجاج على فساد أشياء العالم , ولتورطٍ صاخبٍ في الحب ..

تلك الوردة السرية الجميلة المختبئة في دواخلنا تمدنا دائما بالقوة , وتفسد على الحياة استسلامها ..

 رغبة مشتركة ومتأججة في إشعال شمعة ولعن الظلام في آن لاستعادة الثقة في الروح ، تلك الثقة التي أرهقتها الانهيارات الشاملة ..

سأظل أحاول أن لا أهدأ في مكان ، ولا في قالب ، ولا في حالة .. وأبحث عن شمس حارقة حتى لو ذابت في أفق بعيد .. وأن اقترب من ذلك السراب وأعاود البحث , وألا أطمئن ولا أستقر .. وأن أفتش دائما" عن نهار جديد وكأنه نهار أخير , وأن أعشق المغامرة والتحولات , وأن أغوص عميقا في التجارب , وأن أتعلم كل يوم كيف أحب وكيف أشتاق , وكيف أبكي وكيف أضحك وكيف أتخيل وكيف أكتب الموسيقا .. وألا أشعر بالزمن الفيزيائي الذي يتلاشى في الجسد , وأن أظل أسعى إلى إنسانية راقية , وأن أتحرر من اليقين سبيلا للانتقال من المجهول إلى المعلوم ..

 الجو خانق أريد قليلا من الأوكسجين لأكتشف غموض الآفاق .. لأجترح المستقبل ..

 انتصفت قنينة العرق , العود مثل امرأة عطشى على فخذي .. كالاستسلام الأول نط اللحن من الوتر .. أشعر برغبة في الصمت , أشعر برغبة في الغناء ..

 

س : رغم ذلك غادرتَ عمشيت إلى باريس تاركا الوطنَ بعد اندلاع الحرب الأهلية منتصف سبعينات القرن الفائت , وبمشهدٍ لن يغيبَ عن ناظريكَ يوم أطلق الرصاص بصراحة على راقصة كراكلا ( أميرة الماجد) أثناء عرض ( العجايب غرايب ) الذي وضعتَ موسيقاه .. ؟؟

 

أجل تعود بي الذاكرة إلى حزيران 1976 ، عندما وصلت باريس هاربا من عمشيت ، مع كوكبة من الأصدقاء ، حيث لم تحتمل المنطقة الشرقية آنذاك ميولنا اليسارية في حروب صغيرة وكبيرة امتدت وطالت الوطنَ الصغيرَ حتى يومنا هذا ..

 في باريس التقيت بالأصدقاء الجدد الذين غصت بهم مقاهي المدينة .. حلقات من الشباب الوافدين حديثا , أو المقيمين بداعي الدراسة أو بداعي السياسة ..

 مجموع هذه اللقاءات كوَّن مناخا اجتماعيا و سياسيا حارا تذكي طراوته الأحداثُ المتسارعة التي كانت تجري في لبنان , والتي كانت تأخذ طابعها الدراماتيكي المعروف .. تسجلت في جامعة فانسان لمتابعة التحصيل الفني وكنت منبهرا بالجو العام المنفتح , والمستفيد من ثورة الطلاب لعام 1968 .. رحت بخجل وبتردد أعرض بعضا من تجاربي الموسيقية الأولى على أساتذتي وأصدقائي ..

 شاب متحمس ، مثالي وأخرق , يريد أن يجعل الموسيقا سبيلا لتغيير العالم , وأن يخفف الألم والبؤس والفقر والحروب .. أن يشعل ثورة .. مدعوما بالوتر , ليستدل على الحلم ويصل إلى تحقيقه , كان الأساتذة والأصدقاء الجدد يسمعونني ويهزون برؤوسهم , ربما لم يدركوا يومها تماما ما هو مشروعي , أو على الأقل ، جدية ما أحاول الخوض فيه , وكان داخلي مشحونا بالتمرد  .. كان كل شي ذاهبا إلى فنائه .. حتى الجَمال المختبئ المحصَّن بعصيانه , سحقته حروبٌ صغيرة طاحنة ..

 كان الزمن يمشي بطيئا كسلحفاة وكنت أستعجله لأكبر , ليتني لم أفعل .. الزمن اليوم ، يمر بأقصى سرعة , أستمهله فقط لأكمل المعزوفة , ومثلما يفلت الزمن ، تفلت الأمكنة كما لو أنها لم تكن , وكما في الموسيقا حيث الجُمَلُ تمحو بعضها ، لا شيء يتكرر , فكان علي استخراج روح الشيء للوصول إلى خلاصته الجمالية , أن أرى الوردة تنبت بين الركام ..

وقتها كنت من المتخرجين الأوائل في المعهد الموسيقي الوطني عندما كان معهدا ، ويضم خيرة الأساتذة , وبعد التخرج ، انضممت إلى الهيئة التعليمية ..

ولقد تعلمت أيضا من الطيور .. فالطيور أعظم الموسيقيين الذين سكنوا كوكبنا , وقبل هجرتي الأولى إلى باريس كنت قد كتبت الموسيقا لأوبريت (مرق الصيف) ، وقدِّمَتْ ضمن مهرجانات جبيل ، والعرض الراقص الأول ( عجائب غرائب ) لفرقة كركلا , وأعمالا للآلات الموسيقية العربية صدرت لاحقا وكانت زادًا لكل طالب أراد أن يفتح آفاقا جديدة لعزفه .. وما زالت هذه المقطوعات تتجدد مع الأجيال الجديدة ومتواصلة مع الذائقة الجمالية ..

 

س : في باريس وضعتَ ( وعود من العاصفة ) أيضا ، وكأنك أحببت ذلك السفر؟..

 

أجل في باريس تحديدا ، في صباح باكر من صباحات شهر آب لسنة 1976 دخلت أحد الاستديوهات , وسجلت ( وعود من العاصفة ) أولى أعمالي لشعر محمود درويش .. وكنت كتبت الموسيقا لهذه القصائد وأنا في سجني القسري في منزلي العمشيتي في بداية الأحداث .. وبعد أخذٍ وردٍّ ولقاءاتٍ مع مسؤولي شركة الأسطوانات الفرنسية ، صدرت ( وعود من العاصفة ) في أسطوانة 33 دورة في احتفالات ( صحيفة الإنسانية ) ، وكانت أول تظاهرة لهذا العمل الجديد على خشبة الجناح اللبناني في الكورنوف ، ضاحية باريس الشمالية , بالقرب من بسطةٍ للحمص والفول والفلافل .. ومن يومها وأنا أقلب المدن صفحة صفحة حاملا موسيقاي , باحثا عن الذات في سفر دائم من أجل أن أعرف أعمق وأفضل وأكثر .. فعندما أسافر أرى الكون مليئا بالمعجزات والأساطير ..

بمعرفةٍ وحسٍّ , اكتسبتْ حياتي معناها من تحقق هذا السفر في هذه الأرض التي تتمدد كما لو أنها لا تنتهي .. لا نستطيع أن نصوغ معنى للموسيقا بالكلمات , إذ لا معنى للموسيقا إلا في ذاتها , السماع هو الوسيلة الوحيدة لإبراز القيمة الجمالية للعبارة الموسيقية من خلال الصفاء الذي نبحث عنه في دواخلنا .. هكذا في الموسيقى .. تقترب من الروح وتتسع للإنسانية كلها لتأتي بكامل سطوتها كلسان كوني وحيد , وتتحرك حولنا وتملأ الفضاءات , في حزمة ضوء , في خفقة جناحيْ فراشة تحط على سياج جسر خشبي بين عشبتين , في شمعة خافتة وراء نافذة صغيرة , قريبا من الينبوع , من خرير الساقية , من ارتطام جناحي الحمام بسطح الفضاء المفتوح , لا حيطان لا أسيجة لا أبواب ولا سواتر .

 

 س : (وعود من العاصفة ) عرّفتك إلى محمود درويش ، شقيق أغنياتك وموسيقاك ..

الآن كيف ترتب حياتك في غيابه ؟

الأماكن المشتركة بينك وبينه , لاسيما أنك تحضِّر اليوم لألبوم خاص من قصائده الأخيرة ؟

 

مازال صدى تلك الأيام العابرة مع صديقي محمود درويش ، يحلق بي على غيمة بيضاء ، في بيروت ، في القاهرة ، في باريس ، في دمشق ، في الجزائر ، في تونس ، في الرباط ، في عمان ، في نيويورك , وفي الطريق إلى القدس .. في الزهرة الطالعة من جرح الصخرة , في السهرة , في ليلة رأس السنة , في الفندق , في المطعم , في المقهى , في الساحة , في القطار , في الباخرة , في الطائرة , في الباص , في السيارة , في كل شيء , كل شيء , كل شيء ..

أتنهَّد من أعماقي ،والأرض تتسع وتدور ، وأدور معها كغريبٍ بدونكَ يا محمود ..

كم مرة قطعناها سوية كطير الحمام في يومين ؟؟

أنا ومحمود نتبادل الحنين الذي لا يفسَّرُ من خلال دمع الغيب , نشربه حتى الثمالة .. ما أجمله وهو يعلو بالشعر وبالحب ولا يستكين , وليس له إلا الريح يسكنها , يدمنها , يتنفسها .. اليوم يمكنني أن أتذكر طريق عودتنا ، أنا وهو ذات مساء من جنوبي الجنوب , وقتها تقاسمْنا الطريق ، وقطيعُ الماعز الذاهب إلى حظيرته يخفي ثغاءً مبحوحًا من فرط وطأة المساء .. وكانت الطريق مفتوحة على القرى الممتدة ..

 قال لي محمود يومها : ما أجمل هذه البلاد ، وهؤلاء الناس الطيبين يحلمون بصياغة الحياة ، ولا يتوبون عن أحلامهم .. يعشقون ولا يأبهون من خسارة غدهم , أعلن انتمائي إلى جهاتهم ..

 أتذكر أيضا ، حفلة باريس الأخيرة على مقعد الحنين , محمود يستمع إلى تقاسيم وتعاليم حورية .. كان كالقمر المتلألئ في سمائه , في قلقه المتوج بقوس قزح , وفي الغيمة التي أينعت في عشب روحه ..

(محمود .. دعني أنظر نحوكَ , فأنا أمشي باتجاهكَ .. أطير إليكَ , ألمُّكَ من وحدتكَ في مساء بعيد .. ونكمل ليلنا في ساحة التروكاديرو ) ..

ماذا أقول ؟؟ ..

اليوم أشتهي بريق حضوره لأستعيد الدهشة الأولى .. أحنُّ إلى صداقته تأخذ عذوبة الحب , أحس بالمطر يخترق أعماقي , هل تكون هذه الكلمات أصواتا له أستعيدها من زخات المطر التي بللتنا ذات مساء ؟؟

كيف تتحرك الأمكنة والناس والأشياء والزمن ؟؟

هل هذا هو ضوء الحياة ؟ أو ، هل هذه هي النار المشتعلة ؟؟ أو ، هل هذا هو الحب يا محمود ؟

هل هو الوهم الذي صار حياة ، أرضا ، كواكبَ ، نجوما ، أو هي رغبة ولادة ؟؟

عزلة تذكر .. نسيان رجل فينا .. أنا وهو .. وتجسدنا لنبحث عن حب كثير في فضاء واسع وسع الأبد ..

هل هذا التذكر والتخيل وهذه الكلمات تبني حياة نكون فيها لا قبالتها ؟؟

نسترد غبار الدروب الأولى الذي علق بأقدامنا ، وشكل الحياة التي امتزجت بنسيم خفيفٍ تحوَّلَ ريحًا تحوم كالطير على أرض مدورة يداعبها بغبار النجوم , يملأ نهاراتها بنور الكواكب من ملايين السنين الضوئية ، في فضاء هائل , ليصل إلينا , ليحيا فينا , ليأخذنا في تمرين يومي ، إلى الدخول في مكمن الحياة السري ..

 نداء يحتضن صرخة مبللة بالملح وأرض تترعرع في القمح , لا نتوحد مع الكون بل يتوحد الكون فينا , في ليل دمشق الحالي هذا ، يقودني حلمي إليه وأهرب من نعاسي لأدوس على عشب السماء ، كي أصل إلى محمود ..

أشهد بأن صداقته عششت في كياني , أذرف دمع الكلام وأناجيه كلما نهضتُ .. في منامي يخفق قلبي , أحس بطعم غيابه ويغمرني نوره , أناديه لحنا .. حبا .. فهل يسمعني ؟ كم ضاق هذا العالم برحيله ؟؟

كان محمود أنيقا كعصفور طليق .. وحيدا كغيمة شاردة .. غزيرا كنهر هادر لا ينضب .. صاخبا كموجة لا تتعب من حراكها الأبدي ..

 أتساءل من أين أتى محمود ؟؟

ولكن .. لا أحد في إمكانه أن يسأل الموجة : من أين أتت ..

 

أشعر بثقل كلامي عليه , فننعطف إلى حارة أخرى من دمشق الليلية العبقة بالمسرات الطفيفة , أحاول أن أغيّر الحديث .. أن أبتعد قليلا عن محمود الذي تركني مع مارسيل  يسألني : أين نحن الآن ؟؟

فأقول له في الطريق إلى باب شرقي ..

يهدأ قليلا ونحن نغذ الخطى إلى المطعم القديم , يبتسم ملوحا لامرأة تمر قبالته .. نرتاح قليلا في قهوة الرصيف ..

 

س : ماذا عن مشروعك المؤجل (جسد) ؟؟

 أين وصلت مع الرقابات العربية من أجل إطلاق سراحه ؟؟

 

أولا : أريد أن أقول لك : إن الثقافة لا تكون إلا متى كانت حرية .. الحرية للثقافة شرط وجود أو هي بهذه المنزلة .. وليس حرا دونه ودون الإبداع الثقافي مساحة الفراغ الذي لا يحد .. وحيث لا تكون حرية , يمكن للثقافة أن تكون شيئا آخر غير أن تكون ثقافة .. يمكنها أن تتحول إلى إيديولوجيا دعائية , إلى خطاب متلعثم يغمغم بمفردات غامضة وتبريرية , إلى فلكلور للزينة , إلى أي شيء تفتقر فيه إلى ما يجعلها ثقافة تعبر وتبوح , تكشف المخبوء وتهتك المستور , وتؤدي وظيفتها الإنسانية والاجتماعية والجمالية ..

 الحرية للمثقف كالفضاء الفسيح للطائر , كالماء للسمكة , كالتربة الخصبة للمزارع ..

 وليس صحيحا أن قليلا من الحرية خليق بأن يصنع مثقفا أو مبدعا ..

 فالحرية لا تقاس بالمقادير ولا تخضع للتكميم الحسابي .. ففي تقييدها بالحدود ، حَطٌّ وزراية لمعناها ..

وكما أن الطائر لا يملك أن يحلق في القفص , والسمكة لا تملك أن تسبح في زجاجة الزينة المنزلية , والمزارع لا يملك أن يزرع في الرمل , كذلك لا يكون في وسع المبدع المحجوز بأصفاد المنع ، والمتمتع بشبهة حريةٍ ، أن يبدع بالمعنى الحقيقي للإبداع ..

 المعنى الوحيد له ، كانطلاق حر نحو إعادة بناء كل الأشياء والرموز والمعاني والعلاقات ..

 للثقافة والإبداع تجربة مريرة مع السلطة , تختصر محنة الحرية في تاريخها ..

الإبداع في عُرف كل سلطة تطاولٌ على الموروث .. والمتعارف عليه والمشهور بين الناس , في العقائد والاعتقادات والتقاليد والقيم والأخلاق العامة , وهو في هذه الحال , أشبه ما يكون بالبدعة , وهي موطن الذم والقدح والاستنساخ عند حراس الموروث العقدي والأخلاقي .. البدعة خروج عن الأصالة ومروق .. والإبداع صنوها في ذلك المروق ، منظورًا إليه كتحرر من سلطان السائد والموروث ..

 هل هي الصدفة في اللسان العربي أن تتشابه البدعة والإبداع ، لفظا ، وأن تشتقا من الجذر اللغوي نفسه ؟؟

أم إن وراء التشابه بعض تماهٍ في المعنى والدلالة لدى حراس الموروث والسائد والمقدس ؟؟

 

س : برأيك ما هي أنواع السلطات التي يواجهها المثقفون ؟؟ ومن يقوم على رعاية هذه السلطات وتبرير سلوكها تجاه المبدع ؟؟

 

يواجه المثقفون والمبدعون ثلاثة أنواع من السلطات متضافرة الأهداف ، وإن اختلفت في التكوين والمجال :

السلطة السياسية , والسلطة الدينية , والسلطة الاجتماعية .. يقوم على كل سلطة سَدَنة وكهّان وإكليروس سياسي  وأخلاقي ، يتعهد مقدساته السياسية والدينية والاجتماعية بالصيانة والحماية من المتمردين عليها , المتطاولين بالإبداع والنقد على مقامها الحرام , الجامع بين سَدَنة المقدس .. هؤلاء هو التحريم , تحريم الجديد والمستجد , والرأي المخالف والنقد والسؤال , وكل ما يشتبه في أنه ينتهك محرمات السياسة والقانون والأخلاق والقيم والميثولوجيا التي تعيش منها , وتتعيش على امتيازاتها طبقاتٌ طفيلية ريعية من رجال الدولة والدين والنظام الاجتماعي التقليدي ..

 

س : تقصد أن ذهنية التحريم ذهنية سياسية ودينية ؟؟

 

لا .. ليس ذهنية التحريم ذهنية سياسية , وإن هي توسَّلت مفردات سياسية , وإنما هي ذهنية ما قبل السياسة , أو سابقة في الوجود للحظة السياسة بمعناها المدني والعصري ، كفعالية إنسانية واجتماعية يحكمها مبدأ النسبية والتنافس , وهي قطعا ، ليست ثقافة دينية ، لأن الأديان أتت لتمثلَ ثورة على السائد والموروث وتحرِّرَ الوعيَ الإنساني من الخوف من المجهول , وأتت تدعو إلى التسامح والاجتهاد وإعمال العقل , وإنما هي ثقافة قبل دينية ، تتمسح بالمقدس كي تنتهك أقدس حق في الوجود , الحرية ..

ثم إنها ليست ثقافة المجتمع ولا أخلاقه التي درج عليها .. وإنما هي تستثمر تمسك المجتمع بمنظومة قيمه ، فتوحي بأن الثقافة والإبداع ينتهكان ثوابت تلك المنظومة حين يسائلان السائد والموروث ..

نعم لا يمكن قياس نسبة ثقافة التحريم على القانون والدين والنظام القيمي الأخلاقي .. إنها ثقافة القراصنة والمحتالين والمستبدين والمفسدين في الأرض , وهي ثقافة معادية لكل ما دعت إليه شرائع السماء والأرض والثقافات والحضارات من مبادئ وقيم عظيمة ..

إن إكليروس التحريم لا يتمتع بأية قوة سوى تلك التي يصطنعها لنفسه من ادعائه النطق باسم الدولة والدين والمجتمع ، من سطوة هذا الإكليروس غير المقدس , والاحتلال .. إنه التجسيد الأعلى والأكثر قبحا وبشاعة للقمع والتحريم ..

حرام عليك وطنك المستباح بعساكر الغزاة , وحرام عليك أن تتحدث عنه , أن تكتبه , أن تغنيه ، أو تلعن المحتل ..

أنت في هذه الحال إرهابي .. أي مارق عن إدارة الاحتلال ، ومن يسوغون له الحق في ممارسة الاحتلال ..

 

س : إذا .. ماذا تسمي النضال ضد التحريم في هذه الحالة ؟

 

أن تناضل ضد التحريم , معناه أن ترفع صوت الاحتجاج عاليا ضد هؤلاء جميعا ، ضد المستبدين المتمسحين بالقانون , وضد المعادين للحضارة ، المستغلين للدين والقيم والأخلاق , وضد البرابرة الغزاة المحتلين ..

لذلك أقول بملء الصوت :

أيها القراصنة ارفعوا أيديكم عن حناجرنا ..

أيها القراصنة ارفعوا أياديكم عن قيس ويوسف , هذان اللذان بكل تاريخنا جسّدا الجمال والحب , قبل أن تتطاول عليهم خناجركم ..

لا أتحدث هنا في العموميات , أتحدث عن تجربة مريرة عشتها مرتين :

مرة في بلد الإشعاع والنور لبنان الحبيب ..

ومرة أخرى في البحرين .. الجزيرة  المطوقة بالدفء ..

لن أتحدث عن دعوى الحق العام على يوسف ، يوم اضطررت إلى الدخول إلى قصر العدل لأكثر من جلسة محاكمة وقد برَّأ القضاءُ اللبناني نفسه من تهمة قمع الحريات ..

لن أتكلم أكثر عن هذه القضية ، لأن الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب ، نقل كل تفاصيل هذه المحاكمة ..

بل سأروي أخبار (المجنون) ، وذلك عندما ذهبت للتراث العربي برفقة الشاعر البحريني قاسم حداد ، بحثا عما يضيء حاضرنا , ونستعيد به ما نسيناه وما افتقدناه في حياتنا الراهنة ..

أعني الحب .. جلبنا درة الحب الخالدة , شعلة الوجود التي لا تخبو جذورها ما دام هناك عاشق أو عاشقة يتنفسان هذا الحب .. جلبنا حكاية مَن ذاب وقيل مَن جُنَّ .. وقمنا بصقل الحكاية بما تيسر لنا من شعر وموسيقا وغناء ورقص ودراما , وما كان لدينا غير مطمح واحد : أن نحرض الناس على الفرح لا الغياب , على الحياة لا العدم ..

كانت غايتنا أن نعبر عن العاطفة الإنسانية في أبهى وأنقى تجلياتها , وأن نمجِّدَ الجديرَ بالتمجيد : الحب ..

أبدا لم تكن غايتنا أن ندغدغ الغرائز الأدنى عند جمهور جاء بكل براءته وثقته وفطنته , ليعرف ويستمع ويفتح قلبه على سعته , بلا موقف مُسِفٍّ , بلا ضغينة , ولا أحكام ..

جمهور بيننا وبينه ميثاق من الاحترام المتبادل , لا يمكن أن نحط من قدره بتقديم ما هو فج ومبتذل ..

ولكن أبدا لم يخطر ببالنا ، أن ما نقدمه من غرض نظيف وبريء , ومتجرد من النوايا السيئة والخبيثة سوف يتم تأويله غيابيا بخلاف ما هو مقصود , وسوف يرى فيه حماة الدين والأخلاق والطهارة عملا فاحشا ومعيبا , وسوف يرون فيه خروجا على الشريعة الإسلامية والأخلاق العامة , لذلك شكلوا لجنة تحقيق فيما يسمونه : خروجا على الشريعة ..

 

س : برأيك ما الذي سيجنونه من كل هذا ؟؟

إلى ماذا يريدون أن يصلوا؟

 

إنها محاولة مقصودة ومنظمة لإرهاب أشكال الفكر والثقافة كافة , وقمع كل مسعى إبداعي ..

فالثقافة الحرة الرافضة للامتثال ، هي المستهدفة ..

إنه دفاع باطل , عقيم , مشكوك فيه , عن دين لا يستمد قوته وعظمته واستمراريته من العنف اللفظي والبدني الذي يمارسه فقهاء الظلام ، وتجار الفتاوى , بل مما يدعو إليه من تعايش وتسامح ومحبة ، دين في جوهره قائم على الحوار والاجتهاد , دين لا يحتاج إلى دم شاعر أو أديب ، أو صمت أغنية كي يحافظ على بقائه , لا يحتاج إلى صراخ وانفعال وتشنج في الدفاع عنه ..

كانت دعوة صريحة ومباشرة للانغلاق , لمصادرة حق الآخر في التعبير لإنكار تعددية الأصوات ..

 

س : أين دور المثقف العربي إزاء تلك المصادرة ؟؟

 

المثقف العربي متهم دوما , أو عرضة للاتهام في أي وقت , ما دام يبدع ..

لذا فهو ليس مطالبا بأن يبدع فحسب , لكن أن يدافع عن إبداعه ضد قوى القمع المتربصة به عند كل منعطف ..

إن ثمة مستقبلا لا يمكن لأحد منعنا من الذهاب إليه أحرارا , وبمختلف اجتهاداتنا الفكرية والفنية , وبصدق أقول :

لقد ذرفت عسل النحل المخبأ ، وامتصه ذلك النغم المتعطش لهستيريا اللذة حتى آخر قطرة , وكان لتلك النحلة أن تصمد مع هيجان عناق وصراخ الشعر .. كان الليل أليل أمام المجنون , يقضمه قطعة قطعة ، كالحلو الناعم , كالشعاع .. قـُبَلا قـُبَلا ، تتهاوى على الجسد المغمس بلهفة الحب المفتوح على احتمالات الشهوة الدائمة , وكانت عيون ليلى بخضرتها الصافية ، تؤجج تلك الرغبة التي لا تنتهي , وعطش لا ينام .. وملح الجسد ورائحته الذكية تشتعل في صراخ عار من أية فضيحة , كل رجل في داخله قيس , وكل امرأة تداري ليلى في قلبها , فلنتعمدْ جميعا بمياه الحب اللذيذ , ولتكن تلك القربانة الأولى ، زادنا نحو السمو الإنساني , لنحرصْ أن نظل عشاقا ، نتمرغ في تراب الجسد , ولنقاوم السهام التي تحاول نزع ريش طيورنا المحلقة نحو ذلك النور البعيد ..

 

س : وسط كل هذا التعسف والاغتراب ، كيف تتواصل مع الآخر بارئا من وصاية تلك السلطات على مؤلفاتك ؟

 

أحاول كل يوم أن أجدّد قدراتي من خلال أعمال أنقلها دوما إلى الناس ، عبر الاسطوانات والحفلات في مسارح العالم ..

الموسيقا هويتي الوجودية والإنسانية  .. وحمَّلتني في الوقت نفسه مسؤولياتٍ كبيرة ، أعيشها برحابة صدر وبمعان إنسانية ، وبجماليات نادرة ..

أحب عزلتي بعيدا عن الجو المأزوم في التلفزيونات والإذاعات والفضائيات والمجلات والمقاهي والساحات .. عزلة أصونها من مشاغبات خارجية وأقلب المدن صفحة صفحة , وأصغي إلى نفسي وإلى العالم بطريقة أكثر صفاء ، وأنتبه إلى عملي وأقيم في صمتي لأكتب ..

الموسيقا بحاجة إلى كثير من الوقت .. أحلم , أعالج شقاء الحياة بالكتابة .. الحياة ساحرة مدهشة .. في الموسيقا يتحول الأسى إلى عصفور ، والغضب إلى بسمة ، والقبح إلى وردة ، في ارتقاءٍ بهيج بجوهر الحياة ..

 

ها نحن نصل إلى نهاية الطريق , ندخل المطعم القديم ونتكئ على إحدى طاولات المكان , بالقرب من نوافير البحرة الصغيرة , يصبّون لنا الماء ..

أنظر إليه فأرى عيونه من خلال عرائش العنب المدلاة , تجولان بهدوء في كراسي الناس الجالسة هنا وهناك , الأماكن تتبدل باستمرار , ففي دمشق يتكوّن المكان على مهله , لا يستعجل في كتابة أناشيده , لكن بين عمشيت وباريس مرت مدن كثيرة عبر طائرة السفر ..

 

س : أين تقيم اليوم كقارئ موسيقي للأمكنة ؟

 

لقد سكنتُ مع عائلتي الصغيرة في بيوت كثيرة ..

من شقتنا في الطابق الثالث ببناية عزيزة بسوق الخضرا ببيروت ، إلى شقتنا في بناية الريم ، وإلى منزلنا في نانتير ، والعودة إلى بيتنا في عمشيت .. وتلك الجنة الساحرة في سقي رشميا ببلاد جبيل , لم تكن الأماكن التي مررنا بها أماكن عابرة  .. ولقد شكلت بيوتا حقيقية ..

ورغم السفر الدائم , إلا أن هذه البيوت تعني لي الاستقرار والأمان والسلام ..

البيت ليس الجدران والأبواب والشبابيك .. ولكنه آخر قلاع الإنسان الحصينة في هذا الزمان الذي تهدّمت فيه جميع قلاع الكائن الإنساني ..

لقد تعبت من السفر , مقعد في الطائرة , غرفة في فندق , صالة ترانزيت .. كانوا بالنسبة لي بيتا عابرا ..

مسافر عبر الحدود ، اجتاز القارات مغتربا ، حتى في وطني لبنان , ألتقي بالعديد من البشر في احتفالات ومهرجانات وجولات , الهواتف الأرضية والمحمولة لا تكف عن الرنين , الرسائل الإلكترونية والمواقع الإلكترونية المتزايدة يوما بعد يوم تحاصرني بالحب وبالغضب ..

أحاول أن أدخل في صمتي لأتلمس الضوء الذي ينبعث من الداخل .. أتوصل إلى رؤيته عندما أكتب الموسيقا ..

أثناء سكني في نانتير ضاحية باريس ، شعرت بالحنين الجريح إلى كل شيء .. وفي تلك الوحدة الشرسة كنت بحاجة إلى حضور الطون في هذا البيت , أداعب ليل الجميلة التي تغفو مثل الأطفال الميتين نعاسا , أسقي تلك النباتات , أسقي أرضها العطشى .. وفي كل صباح أستيقظ مثل الحديقة أداعب زهرة تفتحت , نتذكر الحرب الضروس : يولا وأنا , نحمل رامي وبشار ونهرع إلى مرفأ بيروت ..

رفعت المرساة وأقلعت الباخرة اليونانية مودعين الأزرق .. سفينة كبيرة تنطلق في عرض البحر وتغيب عنا بيروت وتختفي ..

 

وصلنا قبرص فجرًا، ثم تابعنا في الطائرة إلى باريس , كان هذا بعد اتفاق الطائف الذي طاف بنا إلى كل هذه الأقاصي .....

 

  




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !