بعد أن أصدرت المحكمة العليا قرارها في 21 ديسمبر 1956 م بعدم دستورية الفصل العنصري في الحافلات العمومية إثر تقديم طلب من 4 سيدات سود إلى المحكمة لإلغاء التمييز في الحافلات في مونتغمري، وبعد خروجه من السجن، واصل مارتن لوثر كينج كفاحه ضد التمييز بتبني قضية أخرى هي حق الأمريكان من أصول أفريقية في التصويت مطلقا صيحته الشهيرة: أعطونا حق الانتخاب. ونجحت مساعيه في تسجيل 5 ملايين أمريكي أسود في سجلات الناخبين في الجنوب.
في عام 1957 تم انتخابه رئيسا لمؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية، وهي منظمة تدعم حركة الحقوق المدنية، وهي منظمة أخذت مثلها العليا من المبادئ المسيحية، وحصل مارتن في نفس العام وهو في السابعة والعشرين من عمره على ميدالية "سينجارن" والتي تمنح سنوياً للشخص الذي يقدم مساهمات فعالة في مواجهة العلاقات العنصرية، وبحصوله عليها أصبح أصغر الأشخاص وأول قس يحصل على هذه الميدالية.
وفي هذا درس للشباب كي يثقوا بأنفسهم وقدرتهم على إحداث التغييرات العظيمة إذا ما استنفروا طاقاتهم الخلاقة ووظفوها لخدمة التغيير.
خلال 11 عاما امتدت من 1957-1968 لم يهدأ مارتن أبدا عن المطالبة بإلغاء التمييز في جميع مناحي الحياة العامة. سافر أكثر من 6 ملايين كيلو متر؛ ألقى أكثر من 2500 خطبة في العديد من الأماكن، كان حاضرا في ساحات الاحتجاج والمقاطعة والاعتصامات، ألف خمسة كتب، كتب العديد من المقالات، اعتقل أكثر من 20 مرة، وتعرض للاعتداء 4 مرات على الأقل، ولكنه كان صاحب رؤية ومشروع تغييري ومنهج عملي لا يحيد عنه.
كان يدرك أن النجاح يولد النجاح، فبعد إلغاء الفصل العنصري في المدارس ثم الحافلات وقع الاختيار هذه المرة على مجتمع رجال الأعمال في برمنغهام حيث المطاعم والمتاجر التي تمارس سياسة عنصرية. كان يعرف أن السكان السود هناك يمتلكون قدرة شرائية كافية تجعل من مقاطعتهم أمرا ذا بال يصنع الفرق بين الربح والخسارة لشركات تجارية عديدة.
بدأ السود في برمنغهام يقاطعون الشركات التجارية العنصرية، وكان التأثير مدهشا جعل عددا من المتاجر تزيل بسرعة الإشارات التي تقول: للبيض فقط.
كما تم اتباع تكنيكات سلمية أخرى حيث قام بعض السود بالجلوس على طاولات الطعام المخصصة للبيض، كما دخل ثمانية من السود المكتبة العامة المنفصلة عنصريا في تعبير سلمي عن رفضهم للفصل واحتجاجهم على الممارسات التمييزية. لم تمضِ الأمور على ما يرام، فقد تحرك مدير شرطة برمنغهام، وهو مناصر منمق للتمييزالعنصري، كما يصفه كاتب سيرة حياة كينج، تحرك وحصل على أمر من المحكمة بمنع كينج و135 قياديا آخر من المشاركة في المقاطعات والاعتصامات والمرابطة أمام أبواب المؤسسات، وغير ذلك من أشكال النشاطات الاحتجاجية.
هنا كان مارتن لوثر كينج بين خيارين: إما أن ينتهك قرار المحكمة فيُعد ذلك تحقيرا لها ويتعرض للسجن، أو أن يرضخ للقرار وينهي حركته. لم يتردد كينج كثيرا، فأصدر بيانا مختصرا يبرر فيه انتهاكه للقانون احتراما للقانون. قال:
"لا نستطيع بضمير مرتاح أن نذعن لمثل هذا الأمر الذي نعتبره إساءة استعمال غير منصفة وغير ديمقراطية وغير دستورية للعملية القضائية. نفعل ذلك ليس لعدم احترامنا للقانون بل بسبب احترامنا الكبير للقانون. ليست هذه محاولة لتجنب أو لتحدي القانون أو للمشاركة في إحلال فوضى عارمة. تماما كما أننا بضمير مرتاح لا نقبل الإذعان إلى قوانين غير عادلة، لا يمكننا أيضا أن نحترم الاستخدام غير العادل للمحاكم".
هكذا وقف بقوة أمام القرار التعسفي الجائر الذي أصدرته المحكمة التي يفترض فيها أن تكون مؤسسة العدل الأولى.
في يوم الجمعة العظيمة 12 أبريل 1963 قاد كينج مسيرة احتجاج ضخمة وسط برمنغهام لفتت أنظار العالم فيما أطلق عليه تحالف الضمير. ألقي القبض عليه مع ستين آخرين تقريبا، وأودع السجن حيث كتب هناك رسالة من سجن برمنغهام اعتبرت من أكثر الوثائق الاستثنائية في تاريخ الفكر الأمريكي. لم يكن لديه ورق للكتابة عليه، فاستخدم هوامش صفحات صحيفة يومية للكتابة، فكانت هذه الهوامش أعظم من متون كل الصحف، حيث تضمنت تنديدا شديد اللهجة بعدم التحرك في وجه الظلم، وأظهرت إيمانا مدهشا بحتمية انتصار قضية الحرية والعدالة في أمريكا.
نترك التفاصيل للمقال القادم.
التعليقات (0)