يعني انتخاب مجموعة من المتألهين/ المشرعين الذين سيضعون الأسس و المبادئ العامة التي تكون منطلقا لانبثاق منظومة قانونية تنظم علاقات التونسيين بعضهم ببعض و بمختلف السلط السياسية و القضائية و الاقتصادية ...؟
فالأسس التي سيحددها المجلس التأسيسي ستكون بمثابة النواة التي تنبجس منها فيما بعد مختلف القوانين و القرارات المنظمة لحياة المجتمع التونسي ..
فإن صلحت هذه النواة صلح المجتمع و إن فسدت فسد المجتمع ، و في تونس الثورة لا نزال نعتمد إلى اليوم على الأسس/ الدستور التي وضعها الزعيم الحبيب بورقيبة و عصبته من العلمانيين خريجي المدرسة العلمانية الفرنسية ، و التي انبثقت بدورها عن فلسفة الأنوار التي كانت قد مهدت لثورة 1789م التي كانت قد بلورتها نخبة من الفلاسفة المتنورين بالعلم و المعرفة ، اكتشفت الشعوذة التي كانت تتبناها الكنيسة المسيحية ، حالت دون تقدم المجتمع الغربي و تحرره من ظلم الأباطرة و النبلاء و استغلالهم الفاحش للناس ، مما ولد نقمة كانت حافزا فطريا لمقاومته و التخلص من العبودية الظالمة التي صار يحس بها الإنسان الغربي ، و توقه غريزيا للحرية و الأخوة و المساواة وهو ما تراه العين المجردة و ترنو إليه النفوس العطشى إذا ما تحررت من أغلال الجهل و النفاق .
لقد أثبتت الدساتير الوضعية قصورها الدائم عن تلبية أشواق الإنسان و توقه للأمن النفسي و الأخوة الإنسانية ورغبته الجامحة في تحقيق العدل و المساواة ، إذ تكتشف الشعوب كل حين من الدهر أن دساتيرها الوضعية قد تحيزت لتحقيق مآرب واضعيها من المتألهين الذين يتقنون زخرف القول ، حتى إذا ما تم انتخابهم تنكروا لكل ما وعدوا به غرورا و تكبرا ، لتوهمهم أنهم ما انتخبوا إلا لتفوقهم الطبيعي ذكاء و فطنة ... على من انتخبهم من البشر ... ؟
يعيش التونسيون اليوم حيرة وارتباكا تجاه المجلس التأسيسي المزمع انتخابه يوم 23أكتوبر القادم ، بعد تجربة مريرة مع دستور 1959 الذي ترأس مجلسه التأسيسي الزعيم الحبيب بورقيبة ، خاصة و أنهم اكتشفوا أن كل ما ارتكب من استبداد و قهر و تصفية الخصوم السياسيين ... على مدار 50عاما كان مبررا و مشرعنا بنصوص من الدستور الوضعي، و قد سُودت صفحاته تناغما مع مصالح الساسة و الطبقة الحاكمة و لم يكن يوما في خدمة الشعب أو تلبية لمصالحه و طموحاته المشروعة .
إن هذه الحيرة التي يعيشها التونسي اليوم مبررة بعدما صار يرى بأم عينه أن الذين قتلوا أبناءه و نهبوا ثروته و شردوه و عبثوا بكل مصالحه... يحاكمون و يخرجون سالمين من أي إدانة حقيقية تستوجبها الجرائم التي ارتكبت في حقه مدة تزيد عن خمسين سنة... حتى صاروا ينادون جميعا بـ(القصاص للشهداء و المنكوبين من المجرمين و الفاسدين )، استجابة للفطرة التي فطرهم الله عليها ، وهو ما يعكس كفرا بالدساتير الوضعية التي صارت مركبا لكل المستبدين و المفسدين في الأرض ؟
و هكذا بدأ يكتشف الشعب التونسي في الدستور الوضعي الذي كان يتوهم تمثيليته لمصالحه ، صار يرى فيه طلاسم و حجبا تمنع المتنفذين أن يروا ما يراه أبسط مواطن تونسي التي لم تحجب بصيرته قوانين ما أنزل الله بها من سلطان ...؟
و هكذا يكون دستور 1959 قد مهد لتحرر التونسيين اليوم من غفلة نخبهم المغتربة التي لا تزال تتوهم إمكانية أن تسوس مجتمعا مسلما موحدا و مؤمنا بقوانين القرآن الفطرية ، بقوانين وضعية نابعة عن بصيرة عمياء جاهلة ، صارت تزكم الأنوف برواحها الكريهة الصادرة عن جثث عفنة ، نجسة ، أصحابها : ( أموات غير أحياء و ما يشعرون ).
التعليقات (0)