ماذا يجني العرب من إنكار المحرقة؟
يحيي الشعب اليهودي في السابع عشر من نيسان العبري كل عام ذكرى ضحايا المحرقة النازية (الهولوكوست)، التي حصدت أرواح ستة ملايين يهودي، إضافة الى إبادة ملايين من الغجر واستباحة دماء شعوب أخرى اعتبرها الألمان سلالات بشرية متدنية. والسؤال هو: ماذا يضير العرب والمسلمين لو أنهم اعترفوا بحدوث المحرقة مثل بقية الشعوب، طالما ان الجاني الألماني نفسه اعترف بجريمته، ويشاركه في هذا الأعتراف شرائح واسعة من الشعوب والدول التي شاركت او لم تشارك بالحرب، وهناك ملايين الوثائق والصور المحفوظة في مركز "ياد فاشيم" الاسرائيلي وفي أرشيف الدول التي شاركت في الحرب العالمية الثانية ؟!
لا يتنازع أحد مع قول العرب او غيرهم إن الألمان أبادوا كل من وقع في طريقهم، ولم يدعي اليهود يوما ان دماءهم دماء ودماء غيرهم من الشعوب التي قتلها النازيون ماء .. كل ما في الأمر ان اليهود يقومون بتوثيق ما يتعلق بتاريخهم، وهم ليسوا مضطرين على أية حال ان يوثقوا جرائم النازية ضد الغجر او غيرهم من الشعوب، فهل يُعيّر اليهود على هذا؟ هل من النزاهة ان يُعاب اليهود لأنهم طالبوا ويطالبون العالم، وألمانيا بالتحديد، بتعويضهم والعمل لمنع تكرار مثل هذه الجريمة؟ ماذا يضر العرب او الغجر تعويض اليهود من قبل ألمانيا وسن القوانين التي تجرّم إنكار حدوث الهولوكوست، في ألمانيا او غيرها، للحيلولة دون تكرار هذه الأعمال الوحشية؟ ما شأن العرب والمسلمين أصلا بالهولوكوست اذا كانوا يقولون إنهم لا ناقة لهم ولا جمل بالمحرقة؟ لماذا يدندنون ويطنطنون إذاً ليل نهار قائلين إن المحرقة لم تحصل وان اليهود يبتزون الغرب وان تحريم إنكار الهولوكوست في الغرب غير مبرر وان اليهود يقدسون ضحاياهم دون غيرهم وما الى ذلك ؟؟
من الذي يمنع الشعوب التي تعرضت للقتل على يد النازية او غير النازية ان تطالب بتعويضات بدلا من نفث سمومها باتجاه اليهود؟ هل يقف اليهود عائقا أمام مطالبة هذه الشعوب بحقوقها؟ اذا كانت هذه الشعوب من الوهن والعجز والجهل والتسليم بالقدر الى حد يحول دون إيصال قضيتها وصرختها الى العالم فما ذنب اليهود بهذا؟ وهل عدم مطالبة اليهود بحقوق الغجر يعتبر تقديسا لضحايا اليهود دون غيرهم؟
لم أسمع ولم أقرأ قط ان اليهود أنكروا إبادة اكثر من مليون جزائري على يد الفرنسيين .. ولم يحدث ان يهوديا أنكر إبادة العرب والمسلمين على يد المغول التتار؟! لماذا يُقحم العرب والمسلمون عمليات الإبادة التي تعرّض لها العرب واليهود على مر التاريخ بالقضية العربية الاسرائيلية؟ هل ثمة حق أخلاقي لليهود ان ينكروا المجازر التي تعرض لها الشعب الجزائري أيام الاستعمار الفرنسي؟ وبالمقابل هل ثمة حق للعرب ان ينكروا المجازر التي تعرض لها الشعب اليهودي على الأراضي الاوروبية خلال الحرب العالمية الثانية؟
بل من أسخف ما سمعت وقرأت قول العرب والمسلمين بوجود علاقة بين المحرقة اليهودية وبين قيام دولة اسرائيل؟!! الحق اليهودي في ارض اسرائيل لا يحتاج الى محارق لأثباته؟! والوجود اليهودي في ارض اسرائيل لم ينقطع يوما لا في الفترات التي سبقت الهولوكوست ولا ما بعد الهولوكوست؟! فعلى سبيل المثال تشير احدى الدراسات التي أجريت في الجامعة العبرية في اسرائيل الى ان عدد اليهود في ارض اسرائيل خلال العصور التي سبقت ميلاد السيد المسيح بلغ عدة ملايين! اما في العصور الحديثة فقد حصلت الموجة الاولى من العودة اليهودية المنظمة الى ارض اسرائيل في فترة الحكم العثماني سنة 1882 .. وقد أوفدت الجمعية العلمية البريطانية لجنة لتقصي الأوضاع في فلسطين قبل ذلك بسنوات حيث انهت هذه اللجنة أعمالها عام 1878 ، ومن أبرز ما وصلت اليه هذه اللجنة ان عدد سكان فلسطين (ارض اسرائيل) العرب بلغ في ذلك العام نحو 100 ألف ، علما ان هذا العدد تضاعف خلال الـ 70 سنة القادمة، اي حتى عام 1948، حوالي 12 ضعفا !! الأمر الذي يثير تساؤلا كبيرا: كيف وصل العرب الى هذا العدد ولماذا تضاعف عدد العرب بهذا الشكل الملفت في هذه الفترة بالذات..!؟
والجواب الذي يخجل العرب من الحديث عنه صراحة ان موجات كبيرة من المهاجرين العرب من الدول العربية تدفقت الى ارض اسرائيل (فلسطين) خلال الفترات التي أعقبت موجات العودة اليهودية الى البلاد، ومرد ذلك الى التطور المتسارع الذي أحدثه اليهود في جميع مجالات الحياة في ارض اسرائيل ما دعا الكثيرين من العرب يفدون الى ارض اسرائيل طلبا للرزق وبحثا عن حياة أفضل.
والحقيقة الأخرى التي يغفلها البعض ان العرب الذين عاشوا في ارض اسرائيل عشية إرسال لجنة تقصي الحقائق البريطانية لم يكونوا ليصلوا الى هذا العدد أصلا (مائة ألف) لولا موجات الهجرة المصرية الكبيرة التي رافقت وأعقبت الحملة المصرية على بلاد الشام خلال السنوات 1831-1840 في زمن محمد علي الكبير ..
اما الخرائط التي أعدها أفراد اللجنة البريطانية المذكورة فتبين بشكل لا يقبل الشك ان ارض اسرائيل (فلسطين) كانت "خالية" .. بمعنى ان القرى الفلسطينية الصغيرة تناثرت هنا وهناك بدون اي نظام وبدون اي رابط مشترك بين هذه القرى، فيما تبين الخرائط مساحات شاسعة من الأراضي الخالية والمستنقعات التي استصلحها اليهود للزراعة ولإقامة القرى وذلك دون ان يتعرضوا لشخص واحد من العرب الذين كانوا يقطنون البلاد في ذلك الزمان .. وما مقولة (أرض بلا شعب لشعب بلا ارض) الا تجسيدا لهذا الواقع الذي شاهده العائدون اليهود الأوائل بأم أعينهم، ولا تتضمن هذه المقولة اي شكل من أشكال العنصرية، وليس المراد منها الإنتقاص من حق العرب الذين كانوا يسكنون البلاد، بل هي الحقيقة بعينها. نعم كانت ارض اسرائيل (فلسطين) شبه خالية في ذلك الزمان، لم يتجاوز عدد سكانها الـ 100 الف كانوا ينتشرون على مساحات متباعدة ولم يكن يربطهم اي نوع من انواع العلاقة القومية .. وما اسم فلسطين الا استحداث بريطاني وإحياء للأسم اليوناني الروماني القديم، وكان يظهر هذا الاسم في الوثائق البريطانية بصيغة (بلستينا ارض اسرائيل)، وكان يراد به الوجود اليهودي أصلا، واما العرب فقد تلقفوا اسم فلسطين وصاروا يطلقون فيما بعد على فلسطين البريطانية اسم "فلسطين التاريحية" ..؟!!
ولو عدنا الى موضوع البحث اعلاه – المحرقة النازية _ التي يحيي اليهود ذكرى ضحاياها في هذه الأيام ، لوجدنا ان النشاط اليهودي الصهيوني الذي كان يهدف الى العودة باليهود الى ارض اسرائيل، قد سبق المحرقة بحوالي 50 عاما ! فأين هي العلاقة بين الهولوكوست وبين قيام دولة اسرائيل ، علما ان المحرقة أعادت الشعب اليهودي عدة قرون الى الوراء، مسببة ضررا لا يمكن تعويضه. ومن الأمثلة على ذلك ان عدد اليهود في العالم عشية المحرقة بلغ حوالي 16 مليون يهودي ، وقد تراجع هذا العدد اليوم الى نحو 13 مليون يهودي في العالم أجمع ، ولولا حدوث المحرقة لوصل عدد يهود العالم اليوم بحسب التقديرات الى حوالي 30 مليون يهودي !! فكيف تكون المحرقة سببا في قيام دولة اسرائيل !!؟ بل على العكس تماما: لو ان دولة اسرائيل قامت قبل المحرقة لما حصلت المحرقة أصلا ! او ان نتائجها على الأقل ما كانت لتصل الى هذا الحد .. بمعنى لولا تأخر اليهود في إقامة دولتهم لكان بالأمكان تفادي هذه المجازر الفظيعة التي كان هدفها إقصاء اليهود عن الأراضي الاوروبية ، فقد ظل اليهود يعتبرون غرباء في اوروبا ويرجع هذا الى أصولهم السامية العبرانية التي حالت دون قبولهم في اوروبا ..
وأخيرا لا بد ان نذكر ان الحركة الصهيونية هي حركة قومية أحدثت ثورة علمانية ديمقراطية في صفوف الشعب اليهودي، وليس من النزاهة بشيء تعيير اليهود بعد هذا التحوّل؛ بنصوص كهذه او تلك مما ورد في مراجعهم الدينية او التاريخية ، فالأصل هو ما يمارسه اليهود اليوم من أعمال ، وليس أقوال او نصوص قالها هذا العالم أو ذاك في عصر من العصور. فلا يجوز ان يعيّر العرب اليهود بما قال العلاّمة اليهودي رمبام (موسى ابن ميمون) مثلا، او بما ورد في التوراة او غيرها، في الوقت الذي نعلم جميعا ان دستور دولة اسرائيل والشعب اليهودي اليوم هو دستور علماني لا يخضع للتعاليم التوراتية ولا يقدس المذاهب والأشخاص ..
التعليقات (0)