أعلن رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته محمود عباس عن عدم رغبته فى الترشح فى انتخابات الرئاسة المقبلة والتى لا يعلم أحد متى ستكون ؟ وكيف ستكون ؟ , وبعد إعلانه ذلك وجدنا مناشدات مشبوهة من حركة فتح للرجل بالعدول عن قراره .
بداية لم أكن أتصور أن يكون محمود عباس ولا من يسيرون فى طريقه وهو طريق التعاون والتحالف مع العدو ضد الشعب الفلسطينى يؤمنون بأن ما يسمى بمفاوضات السلام وعملية التسوية هى شئ حقيقى , بل إن قناعتى أن هؤلاء كانوا ولا يزالون يعرفون جيدا أنه لن تكون هناك مفاوضات جادة ولن تكون هناك دولة على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967م , وقناعتى أيضا أن القوم إنما يبحثون عن مصالحهم الشخصية وهذا يتفق معى فيه كل المنصفين الذين يهتمون بالقضية الفلسطينية .
إذا لماذا يخرج عباس اليوم معلنا عدم رغبته فى الترشح لانتخابات الرئاسة طالما أن الرجل كان يدرك فشل مشروع التسوية ؟! وبمعنى آخر ما الجديد الذى دفع الرجل لهذا الموقف ؟!
فى الحقيقة هناك سيناريوهان , الأول هو كون هذا الموقف مجرد مناورة سياسية – مع أن الرجل ادعى أن هذا الأمر ليس مناورة سياسية ولا مساومة إلا أنه قد يكون كذلك فعلا - لإيصال رسالة للإدارة الأمريكية والحكومة الصهيونية أنه سوف يرحل وسوف تحل حماس محله وخصوصا وأنه لا يوجد الآن فى فتح من هو قادر على أن يحل محل عباس , لا لأنه رجل عبقرى فذ , ولكن لأن معظم المرشحين لخلافته هم قادة الأجهزة الأمنية الذين تسبقهم سمعتهم السيئة حتى لدى الدول العربية الداعمة لمحمود عباس فى وجه حركة حماس , والرجل الوحيد القادر والمناسب لهذا المنصب هو مروان البرغوثى وهو اليوم قابع فى سجون الكيان الصهيونى , واسرائيل تخشى الإفراج عن الرجل فيقوم بالتوافق مع حماس وقوى المقاومة فى غزة على الرغم من موقفه السلبى من كل ما حدث على الساحة الفلسطينية خلال الأربعة أعوام الماضية .
أما السيناريو الثانى فهو أن يكون الرجل حقا ينوى عدم الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة وليس الأمر مجرد مناورة سياسية كما قال فى خطابه , وهذا إن كان صحيحا فهناك الكثير من الأسباب لذلك , فالرجل مع أنه كان موقنا بفشل مشروع التسوية من وجهة نظرى إلا أنه كان يراهن على بعض التسهيلات المعيشية اليومية التى يسمح بها الكيان الصهيونى للشعب الفلسطينى , وكان يراهن أيضا على مشروع حكم ذاتى يضم جزء كبير من الضفة الغربية وقطاع غزة وقد كان هذا ممكنا فى القترة السابقة فى ظل وجود حكومة أولمرت ولكن تغيرت مجموعة من الظروف وبرزت أمور جديدة منها :-
1. الكيان الصهيونى لا يعمل على الإطلاق على تحسين صورة محمود عباس , فلا يوافق على الإفراج عن عدد قليل من الأسرى الفلسطينيين حتى ولو كانوا من حركة فتح , ولا هو يقوم بتجميد الإستيطان كله أو جزء منه بل يتم الكشف كل أسبوع تقريبا أو أقل من ذلك عن القيام ببناء بعض المستوطنات الجديدة ولا هو يقوم برفع بعض الحواجز الأمنية التى تعيق وتشل حركة المواطنين الفلسطينيين فى الضفة الغربية حتى أنها صارت سجنا للشعب الفلسطينى , وفى ظل حكومة النتن ياهو لا يظن عباس أنه سيكون هناك أى تقدم طفيف فى أية مفاوضات .
2. إن الرجل كان يراهن على الإدارة الأمريكية فى أنها ستضغط على الكيان الصهيونى للمضى قدما فى ما يسمى المفاوضات السلمية وتقديم بعض التنازلات تتعلق بتسهيل الحياة اليومية للشعب الفلسطينى مما يرفع من صورة الرجل أمام شعبه , ويجعله فى موقف قوى أمام منافسه الشرس فى الجانب الآخر من الوطن وهو حركة المقاومة الإسلامية حماس فى قطاع غزة , إلا أنه اتضح أن أى ادارة أمريكية سابقة أو حالية أو لاحقة لن تضغط على الكيان الصهيونى لتقديم تنازلات , سواء كانت هذه الإدارة جمهورية كبوش أو ديمقراطية كأوباما , ولعل مما أكد ذلك الأمر لمحمود عباس هو التراجع الواضح فى موقف الإدارة الأمريكية من الإستيطان , فبينما كانت فيما سبق ترفض وبشدة استكمال الإستيطان وتطالب بتجميده قبل بدء المفاوضات إلا أنها اليوم تطالب باستئناف المفاوضات دون التقيد بوقف الإستطيان .
3. فى مقابل هذا فإن فضيحة سحب تقرير جولدستون قد أظلت بظلالها على شرعية محمود عباس داخل حركة وأكدت لكثير من كوادر الحركة أن الرجل يتاجر بدمائهم , هذا علاوة على كم النقد الكبير الذى لقيه محمود عباس حتى من أبرز مساعديه وهو نبيل الذى انتقد فيه بشدة موقف عباس , وكان الأنكى من هذا أنه فى ذات اليوم الذى سحب فيه تقرير جولدستون كان الكيان الصهيونى يفرج عن عشرين أسيرة فلسطينية خمس منهن من حركة فتح مقابل شريط فيديو مدته دقيقتان يظهر فيه الجندى الصهيونى جلعاد شاليط , فهنا ظهرت الصورة جلية للشعب الفلسطينى ولحركة فتح التى أفرج عن خمس من أسيراتها فى تلك الصفقة , وهنا ظهرت حماس فى موقف المدافع عن الشعب الفلسطينى والمتبنية همومه وهى حقا كذلك وظهر عباس على النقيض من ذلك وهو فعلا كذلك .
4. الحكومة الصهيونية وكذلك الصحف الصهيونية لا تترك فرصة للتشهير بمحمود عباس ليس لأنه عدو لها , لا بل هى تعلن وتكشف الكثير من الحقائق التى لا يعلمها الكثير من الناس , فهى التى أعلنت عن السبب الرئيسى لسحب تقرير جولدستون , وهى التى أعلنت وكشفت النقاب عن تحريض محمود عباس للكيان الصهيونى بشن حرب لا هوادة فيها على قطاع غزة , وهى التى أعلنت من قبل عن تورط محمود عباس فى اغتيال الرئيس الفلسطينى السابق ياسر عرفات وهناك الكثير من الفضائح التى كشفتها الصحف الصهيونية مما أفقد عباس ثقة جزء كبير من حركة فتح , ذلك الجزء الذى قال أن من سحب وشارك فى سحب تقرير جولدستون خائن يجب محاسبته ومعاقبته داخل دوائر الحركة وإلا فستقوم هى بمحاسبته .
5. إن أحداث الأقصى الأخيرة جعلت الكثير ممن لم يكن يتدخل فى الشقاق الفلسطينى من قبل , يتحدث اليوم وبكل جرأة عن قيام أجهزة أمن محمود عباس باعتقال الكثير من الشباب الذين حاولوا نصرة الأقصى والدفاع عنه وهو ما قاله الشيخ كمال الخطيب نائب رئيس الحركة الإسلامية فى الداخل الصهيونى حفظه الله تعالى على قناة الجزيرة مباشر الفضائية , كما أن حاتم عبدالقادر الذى كان مسؤولا عن ملف القدس فى السلطة قدم استقالته مبررا ذلك بأن السلطة تجحم دوره فى نصرة المسجد الأقصى .
6. محمود عباس الذى شارك فى قتل ياسر عرفات باعتراف مجموعة من مساعدى ياسر عرفات وعلى رأسهم فاروق القدومى يخشى على نفسه ان يقوم بعض مساعديه باغتياله كما فعل هو مع عرفات , خصوصا وأن هناك العشرات من قادة حركة فتح يريدون الجلوس على ذلك الكرسى الذى يجلس عليه محمود عباس , وهؤلاء لا يؤتمنون على الإطلاق لأن من يجلد شعبه ويسجن خيرة شبابه بل ويقوم بتصفية عدد منهم لا يمكن الثقة فيه أبدا كل هذه الصفات تتوافر فيمن حول عباس .
كل هذه الأمور وغيرها كثير تجعل محمود عباس يتخلى عن رئاسة السلطة الفلسطينية على مرارة ولا يترشح فى الإنتخابات المقبلة , لكن حتى الآن لا أحد يستطيع أن يجزم أى السيناريوهين هو الصحيح , وإنما تتكشف الأمور مع قرب الإنتخابات الرئاسية التى لا يعلم أحد متى ستكون وإن كان عباس قد حددها فى يناير المقبل .
المقال منشور فى مركز اعلام القدس
التعليقات (0)