إنّ المتفحّص جيدا في رغبات المفاوض الفلسطيني يجدها لا تتجاوز في سقفها الأعلى قيام دولة لا يُمكن ،عمليا،أن تكون سيادتها تامة بحكم الأمر الواقع على الأرض ،مقابل تحويل الكيان الصهيوني من عدوّ إلى صديق ودود يُؤتمن جانبه ويُعوَّل عليه في حماية الفلسطينيين والعرب من أعداء محتملين أو من بعضهم البعض...
لماذا إذن يتلكّأ الإسرائيليون ويراوغون للقبول بسلام يغنمون منه الكثير دون ثمن يذكر؟..تُرى هكذا،بكلّ هذا الاستخفاف،وبدعوى الإصرار على الاستمرار في بناء المستوطنات، يُفرّطون في فرصة ذهبية تأتيهم هديّة سخية على طبق عربي فاخر برعاية أمريكية ومباركة منها ؟..
لا أظنّ أنّ الادّعاء بأنّ إسرائيل تتصرّف من موقع المنتصر هو وحده الذي جعلها تتعاطي بكلّ هذا الاستعلاء مع اليد الفلسطينية المدودة لصنع السلام بدفع عربي وعالمي.فهي،إن كانت تتنكّر للكثير من الحقائق التي لوّنها الزمن وحجبت وضوحها الهزائم العربية،فإنها لا تستطيع أن تُنكر صلابة الشعب الفلسطيني وصموده على امتداد أكثر من ستين سنة،لقد أثبت رغم التشريد والقمع والسجون والدماء والدموع والحصار أنه شعب مقاوم عصيّ على الاستسلام.
كما لا أعتقد أنّ أزمة ثقة مزمنة بين إسرائيل من جهة والفلسطينيين والعرب من جهة أخرى يُمكن أن تبرّر هذا الإعراض الإسرائيلي عن عرض سلام هو صفقة رابحة لصالحها،إنّ أزمة الثقة هذه يمكن معالجتها بترتيبات وضمانات دولية،وهو ما تمّ ،فعلا،في معاهدة السلام بين مصر والأردن من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى،دون انتكاسة تذكر.
إنّ الفلسطينيين والعرب تخلّوا اليوم عن «لاءاتهم» الشهيرة لصالح «نعم» من أجل سلام لا يُنصفهم ومع ذلك يتوسّلونه ويستجدونه،في حين أنّ إسرائيل كانت لوقت غير بعيد،ولنفس الغرض، تعتمد «نعم» تكتيكا لإستراتيجية خفية ومعقدة وماكرة. اليوم أصبحت «نعم» فلسطينية عربية إلى حدّ القول «نعم» لرفض بناء المستوطنات استجابة لإرادة دولية (عوض القول «لا» لبناء المستوطنات). لكن «لا» أضحت إسرائيلية متعالية حتى إن أحرجت القيادة الأمريكية واضطرّتها إلى القبول بشهواتها...
أما التفاوض من أجل التفاوض فهو لعبة تستهوي القيادة الصهيونية ممارستها بمقابل باهظ تبتزّه،أي بشروط حسناء ذات غنج ودلال تتفنّن في عرض مفاتنها بمواهب خارقة وحرفية عالية دون لمسها أو خدش جسدها.وهي،مع كلّ حركة إثارة تأتيها،تنال الإعجاب وتُغدَق عليها العطايا بلا حساب.
أما النتيجة فهي لا تعدو أن تكون متعة استعراضية لمفاوضات هي غاية في حدّ ذاتها.
إنّ الرفض الإسرائيلي يبدو غير مبرّر ومحيّر وغير مفهوم لا تسنده شرعيّة دولية ولا يحتمله انحياز مهما غالى في إرضاء الكيان الصهيوني وأوفاه نصيبه من الدلال.
أزعم-آملا أن أكون على خطإ-أنّ أغلبية يهودية تبدو أقلّ إيمانا بشرعية الدولة الإسرائيلية التي اجتُرحت من آلام الشعب الفلسطيني مقارنة بإيمان أغلبية هذا الأخير ومن ورائه العرب «المعتدلون»،ربما لأنها دولة قائمة بحدود مؤقتة يلفّها جدار عنصري عازل ويُعمّر سجونها آلاف الفلسطينيين فضلا عن سجن غزة الكبير الذي تحرسه «حماس» دون تفويض رسمي وذاك الآخر المتطوّر في الضفة الغربية الذي تحرسه السلطة الفلسطينية بتفويض إسرائيلي رسمي.
يبدو لي أنّ عقدة نفسية تعاني منها الصهيونية ملخصها ما يُخيّل إليها-والتخيّل ليس بالضرورة نقيض للواقع-أنّ «أرض الميعاد» التي غنمت بها هي أرض رخوة لا تحتضن الغريب عنها بيسر،وهي مسكونة بأبالسة ووحوش وسحرة ولعنات بالزلازل والبراكين والأعاصير والطوفان.
وتأسيسا على ذات الاعتقاد أقام الإسرائيليون دولة أشبه ما تكون بشركة، مقرّها الاجتماعي في أميركا،حيث صنع القرار العالمي الذي تؤثّر فيه وتطوّعه لمصالحها،ولها فروع في بقاع عديدة من العالم،في حين أنّ ورشة نشاطها أو ضيعتها منتصبة فيما يسمّى «بأرض الميعاد»...ثم إنها بعقلية ذلك الرأس مالي الذي لا يتعلّق بالوطن بمجرّد الانتساب إليه بل بشرط أن يكون وطنا معطاء وإلا لا فائدة منه،وعليه فهو مستثمر انتهازي لا يهمّه إلا الربح الوفير دون مخاطرة أو بمخاطرة مدروسة،وهو ما يفسّر تأمين «رأس المال» الإسرائيلي في بلد المقرّ الاجتماعي حيث أيّ خسارة طارئة تجد لها تعويضا مجزيا وسخيا.
إسرائيل القائمة تجارتها المزدهرة على المضاربة تتضرر من إستراتيجية تقوم على الأمن والسلم والاستقرار، لذلك جعلت شعبها، دائما، في حالة تعبئة واستنفار قصوى تحسبا من خطر محتمل،وبالمقابل يُؤمّن له وللنازحين إليها من اليهود كلّ وسائل الإغراء والحياة المرفّهة وأسباب العظمة العسكرية والعلمية والتقنية لغاية التكاثر.
المضاربة في السياسة نظرية مستحدثة لا تعرف أسرارها غير الصهيونية العالمية وقد اعتمدتها فاطمأنت لها بعد أن قطفت ثمارها.لا يمكن اعتماد المضاربة السياسية إلا في غير حالة «لا حرب ولا سلم».وعليه لا شيء يزعج ويُفسد الحسابات غير سلام حقيقي حتى إن كان أقرب ما يكون إلى استسلام الخصم لإسرائيل وإمضائه على صكوك الغفران.
كأنّي بلسان حال «نتنياهو» يقول:»أعلم أيها الفلسطينيون المراهنون على صنع السلام أنكم صادقون ،لا أشك في صدق نواياكم تجاهي وأنتم تتوسلون وتستجدون،لكني على يقين أنّ سلامكم أو حتى استسلامكم لا يفيدني بشيء،إنّ إستراتيجيتنا تقوم على حالة «أللا سلم وأللا حرب»،وإذا كان لا بدّ من خيار بين السلم والحرب،فخياري يكون للثانية...ألا تذكرون أنّه لم يكن بوسعنا أن نبلغ ما بلغناه من عظمة وتعاطف رأي عالمي معنا إلا بفضل تألبكم فلسطينيين وعربا أجمعين علينا وخوضكم لحروب ضدنا جنينا منها تفوّقنا وهوانكم بفضل حذقنا لسياسة المضاربة ولعب دور الضحيّة؟..
أما الحاضر فهو غير الأمس،فالعرب المعتدلون اليوم لا يوحون-حتى مجرّد إيحاء-بأنهم يُشكّلون رقما في معادلة التأثير في سوق الشرق الأوسط الملتهبة ،إنّ انشغال إسرائيل بات مركّزا على قوى أخرى متنطّعة مثل إيران وحلفائها،ومثل تركيا التي تطمح إلى لعب دور مستقلّ...على العرب إن رغبوا في كسب ودّ إسرائيل أن يخوضوا حربا ضدّ إيران وأن ينهوا وجود حزب الله وحماس...تلك هي الصفقة الرابحة التي يتوجب الانخراط فيها،وهي ذات الصفقة المغرية التي تشتغل عليها الصهيونية بكلّ دهائها ومكرها وثقلها المادي والإعلامي من أجل ازدهار سوق المضاربة من جديد..»
قد يكون من غير الإنصاف التعميم بما يُغيّب صوت حمائم السلام الإسرائيلية، إلا أنه، أيضا، من غير الإنصاف عدم التذكير برمزهم الراحل «رابين» الذي اغتالته يد التطرف الصهيوني،تماما كما فعلت لاحقا مع شريكه الراحل «عرفات» أو هكذا أعتقد راجيا أن أكون على خطإ.
التعليقات (0)