شكل ظهور حركة 20 فبراير على المسرح السياسي ، من دون أدنى شك، الحدث الابرز في العام المنقضي، حيث سطع نجومها في سماء السياسة، التي كدرت صفوها ، ولعقود طوال، عتمة أطال المخزن في عمرها، و فتحت آفاقا واسعة لممارسة سياسية ذات جدوى بل و أسهمت، بشكل كبير، في إعادة تشكل خريطة سياسية تمهد لتحقيق الشروط الموضوعية للتغيير الممكن.
وإذا كان هذا الحدث قد جعل المغرب يدخل دائرة القاعدة، التي سرت على غالبية الأنظمة العربية، التي ودع الكثير من رؤوسها كراسي الحكم، ومنهم من ينتظر، إلا أن الانصاف يتطلب الاقرار بالاستثناء المغربي، بحيث أن النظام القائم ، هنا ، استفاد من غيره و نأى بنفسه عن استهلاك قوة الردع الجهنمية لإخماد جدوة الانتفاضة، وهذا ما جنب المغرب المآسي والمعاناة كتلك التي ذاقت مرارتها الشعوب الثائرة ضد حُكام القمع والاضطهاد في تونس ومصر وليبيا ...
فالإصلاحات وعلى قلة أهميتها، وبالرغم من كونها لم تمس جوهر الدستور، إلا أنها عكست اعتراف أعلى سلطة بالحاجة الى انخراط عاجل في مسلسل الاصلاح، وفوق ذلك، فجواب النظام على رسالة الشعب يعتبر، بحد ذاته، إقرارا بقوة الشارع و مدى تأثيره اللامحدود في تهديد استقرار أي نظام مهما على شأنه و استبد رأسه.
وهكذا، وعلى ضوء هذه الاصلاحات، التي اعلنها الملك في خطاب 9 مارس، ستتبدد مخاوف الكثيرين من سقوط المغرب في آتون صراع كان يصعب التكهن بتداعياته وعواقبه، بينما، وفي الجانب الاخر، رأت اطراف اخرى في المقترحات المعلنة خطوة جديدة للمخزن، أراد من خلالها الالتفاف على مطالب الحركة الاحتجاجية وتكريس منطق الاستبداد بالحكم في إطار دستور ممنوح.
سيكون من اللازم، أولا، التذكير بان الاحزاب السياسية لم تكن تستعمل مسألة الاصلاحات الدستورية إلا كورقة للمزايدات السياسية بغية الرفع من أسهمها في "بورصة الرأي العام" بحيث أن احزاب الكتلة، مثلا، والتي طالما كانت متفقة حول ضرورة التعجيل بتحقيق إصلاحات دستورية، لم ترى ضرورة لتوجيه مطلبها الى الملك طيلة وجودها داخل الحكومة، حتى تفاجأت مكوناتها بخروج الاتحاد الاشتراكي عن صمته الطويل، وبعد ذلك عن الرغبة المشتركة للكتلة الديمقراطية، ليتحدث احد قيادييه، عبد الهادي خيرات، عن توجيه مذكرة الاصلاحات إلى الملك عام 2009، بعد تلقيه الضوء الاخضر من القصر، أياما قبل الانتخابات الجماعية؟.
فالإصلاحات، التي رأت النور، يعود الفضل فيها، بعد الله، إلى تكاثف جهود كل مكونات المجتمع المغربي على اختلاف مشاربها، وانخراطها جميعا داخل حركة 20 فبراير التي شقت مسارها موَحدة نحو تحقيق اجماع حول عدالة مطالب الشعب الذي رفض، ولايزال، الفساد والاستبداد.
ولعل هذا ما لم يرد أن يستوعبه، الاستاذ محمد الساسي، ومن يجري في فلكه الضيق، الى حد الآن، حين بدأ في اطلاق النار على جماعة العدل والاحسان التي اعتبرها، خلال مداخلته في المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي الموحد، أحد مشاكله الاساسية .
فلو كان للرجل موقف واضح ومبدئي من جماعة ياسين، فما كان عليه إلا أن يرفض، و منذ البداية، الاصطفاف الى جانبها و يتجنب رفقتها في أي خطوة على مسار الحركة، أما والحال أنه قطع كل هذا المشوار ولم يلتفت اليها إلا متأخرا، فان في الامر ما يدعو، في الحقيقة، الى التساؤل والاستفهام.
إن الزخم الذي تحقق لحركة 20 فبراير طيلة الاشهر العشرة الماضية، ليس نتاج عمل الاشتراكي الموحد ولا لجماعة العدل والاحسان، وانما كان وراءه مختلف الهيئات السياسية والحقوقية والجمعوية التي دعت الشعب الى التظاهر من اجل انتزاع حقوقه. ولعل هذا ما دفع بيساريين أكثر حصافة من محمد الساسي الى دعوة الجميع الى احترام قناعات الاخرين و تجاوز الخلافات الأيدولوجية مع التيارات الاسلامية، في اشارة واضحة الى العدليين الذين قرروا الانسحاب على إثر التصريحات النارية التي اطلقتها قيادات الحزب الاشتراكي الموحد.
وأمام هذا الجو المشحون الذي خلفه الصراع الداخلي حول من يُسير من ، بدت غيوم الشك تُلبد سماء حركة 20 فيراير، بحيث اصبح من الصعب التكهن بالتوقعات المستقبلية لمسارها.
ولذلك فمن الطبيعي أن تبدأ التساؤلات في التقاطر، و دون توقف، في محاولة للبحث عن دوافع محمد الساسي ومبررات العدل والاحسان، إلا انه وكيفما كانت التحليلات فحتما ستلتقي حول اعتبار الوضع الحالي منذرا ببداية النهاية لحركة 20 فبراير .
فبصرف النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع مبررات استمرار احتجاج الحركة ، فان حدث خروج جماعة العدل والاحسان منها أرخى بظلاله على المسار الذي امتد لما يقارب العام، وانتهى إلى انسداد افق الحركة السياسي، بعد عجز أبرز قيادييها عن تحقيق التعايش اللازم لضمان استمراريتها.
لقد اخطأ محمد الساسي كثيرا حين راهن على توظيف الخطاب الاقصائي والاستئصالي في معركته من أجل الديمقراطية ، التي تحتاج الى الجميع، فاليسار الاشتراكي الموحد، كما هو معروف، لا يتمتع بشعبية كبيرة تسند موقفه وتعزز موقعه من داخل حركة 20 فبراير، التي تعبر عن مختلف الحساسيات السياسية، وهذا ما سيجعله يواجه اكراها كبيرا على مستوى التعبئة والتنظيم مما سيعجل، لا محالة، بشل جسم الحركة، الذي لن يستطيع استكمال مسيرته، بعد التوقف المفاجئ لأهم اعضائه عن النشاط بداخلها.
في المقابل، لم تفوت جماعة العدل والاحسان الفرصة السانحة، التي منحتها اياها تصريحات الساسي، حيث رأت فيها مبررا مقنعا لدعوة شبابها الى مغادرة حركة 20 فبراير، بعد ان ايقنت أن حراك الشارع إنما يسير في اتجاه التنفيس عن الغضب الشعبي، الذي تغذيه المشاكل والمعضلات الاجتماعية، و الذي اصبح يُبعد الحركة شيئا فـشيئا عن طريق الضغط من أجل ما تطمح إليه الجماعة وهو فرض ملكية برلمانية هنا والآن.
ولعل هذا ما دفعها الى الانسحاب ــ والذي عكس قراءة سياسية ذكية لواقع الشارع والحركةــ ، التي أرادت ، من خلاله، توجيه رسالة الى من يهمهم الامر داخل حركة 20 فبراير كي يزنوا ، خلال المحطات المقبلة، الحجم الحقيقي الذي تتمتع به الجماعة في الشارع و يكتشفوا الشرود السياسي لمحمد الساسي، الذي اختار الهجوم على دائرتها .
و قد تكون جماعة العدل والاحسان، بموقفها هذا، سهلت مهمة رئيس الحكومة الحالي، الا ان البعض لا يستبعد رغبتها في احراج حزب العدالة والتنمية، الذي ، وحسب اعتقادها، سيفشل في تجربته، وبالتالي، فهي لا تريد أن تجعل من استمرارها في الشارع شماعة مجانية قد لا يتردد إخوان بنكيران في تعليق فشلهم المحتمل عليها
التعليقات (0)