تموت الروح عندما يستلب العقل والارادة .... هي عملية تحويل الانسان الى مطيع ومنفذ خاضع لتحكم فكري ، من خلال الية تعمي العقل عن التفكير وتبقيه تحت السيطرة الفكرية ، ليصبح متصوفا اصوليا مسلوب الارادة. والاصولية الفكرية مفهوم يطلق على عملية ونتائج تبديل ناتج النشاط الإنساني والاجتماعي في ظروف تاريخية معينة، ولتحقيق مصالح مرحلية يسعى السالب للوصول اليها, وذلك من خلال تحويل خصائص وقدرات الإنسان التابع او المسلوب إلى شيء مستقل عنها ومتسلط عليه، بزرع مبادئ مشوهة تقلب الظواهر والعلاقات إلى شيء يختلف عمّا هو عليه في حد ذاته، وتشويه الواقع الفعلي في أذهان الاتباع الذين استلبت ارادتهم. وتم تحويلهم الى ادوات لا تمتلك الارادة ولا الروح التي ترى وضوح الواقع والعلاقات الفعلية, وهذا ما يجعل الانسان دوغمائيا اي اصوليا يستند اساسا الى المثالية في تقييمه للامور ,ويقسمها الى ابيض واسود, مما يجعله اسير ذهنية "التحريم" , فالامر حلال أو حرام "بالمطلق", المؤمن والكافر , الثورة والثورة المضادة , الثوري والمرتد , الوطني و الخائن , المواطن و العميل , وهذا المنطق الثنائي يؤدي الى خنق العقل الانساني واسره ومنع انطلاقه في فضاء الواقع ومقارنة المعتقدات والقيم بوضوح. وقد انعكس هذا الجانب للمشكلة في الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ففي أعمال فيخته نجد أن استلاب الذات وتحويلها الى اصولية هو خلق العالم عن طريق المجردة. وقد طور هيغل بشكل أكثر اكتمالا التفسير المثالي للاستلاب. فالعالم الموضوعي يبدو كـ "روح مستلبة". وغرض التطور في رأي هيغل، هو التغلب على هذا الاستلاب في عملية الإدراك. وفي الوقت نفسه فإن فهم هيغل للاستلاب كان يتضمن فروضا عقلية عن بعض الملامح المميزة للعمل في مجتمع متطاحن. وقد اعتبر فيورباخ الدين استلاب الماهية الإنسانية، كما اعتبر المثالية استلاب العقل. وفيورباخ برده الاستلاب إلى مجرد الوعي، لم يجد – على أية حال – طريقا حقيقية لإلغاء الاستلاب، حيث لم يرد هذا الإلغاء إلا في النقد النظري فحسب. وقد خصص ماركس كثيرا من انتباهه لتحليل الاستلاب. ففي أعماله الأولى وخاصة في "المخطوطات الاقتصادية والفلسفية" انطلق من المبدأ القائل إن الاستلاب يميز التناقضات في مرحلة معينة في تطور المجتمع.يشتمل الاستلاب على جميع أوجه النشاط الإنسانية لان كل نوع يصبح احتكار مجموعة معزولة من الناس نشاطها غريب عن جميع الأعضاء الآخرين في المجتمع. واستلاب الذات او التبعية الاصولية تسيطر على الفكر المجتمعي والسياسي في الشرق الاوسط , ولا يقتصر استلاب الذات على الاتجاهات السياسية الدينية بل ينسحب على الايديولوجيات والسياسات والافكار الحزبية والطبقية بما فيها "الاشتراكية " و" الثورية " , فيخنقها ويفرغها من جوهرها وبحولها الى صوفية , ويدفعها مع الزمن الى مواقع تتنافى مع الهدف المرسوم , فتفقد مبررات وجودها , وتتحول الى بلاء على نفسها واصحابها وجماهيرها ,بدرجة تصل الى عرقلة ولادة البدائل. ولكي تحمي كينونتها تستخدم العنف القائم على التعصب الاعمى للحق الذي تعتقده انه حق , بمواجهة الباطل الذي تؤمن انه باطل لانه لا ينسجم مع اطروحاتها , فترفض كل ما هو على خلاف وتتهمه فكرا وممارسة وعقيدة وسلوكا , لانها تريد لنفسها حقوقا لا تعترف بها للاخرين , لانها وحدها الحق والحقيقة , وانه " لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق , ولا حقوق للكفر على الايمان " ,وبهذا ترفض وتنسف اسس المنطق الديمقراطي القائم على التعددية والمشاركة والتوافق والحوار . و مفهوم الديمقراطية ارتقى الى مستويات تجاوزت معها اعتبار الديمقراطية مجرد اسلوب للادارة , نحو كونها ايديولوجية عامة قابلة للتطور والتكيف مع العصر , تغرد بعيدا عن الثنائيات الطبقية والقومية والدينية والمذهبية والفكرية الحادة والمتصارعة والمتناحرة , وتؤمن بضرورة التعدد والحوار الذي هو اساس تطوير المجتمعات والارتقاء بها. بينما الاصولية تمنع التغيير والتجديد سنة الكون الاساسية, فتتوجه للوقوف خارج الحقيقة الموضوعية والواقع , ولا تكف عن اتهام الواقع نفسه بالخطا , تخدع نفسها على انها تلتزم باصالتها , فتنسى حاجة الاصالة نفسها الى التجديد ان ارادت الاستمرار , والمشكلة الشرق اوسطية الراهنة تتمثل في أنه حتى من ادعى العلمانية والفلسفة والمنطق الحديث والمعاصر في شرقنا , لم ينج من الاصولية, نظرا لخلفيته الثقافية والاجتماعية والتاريخية المثقل بها والمتجذرة به والتي لم تتغير عبر ثورة تنويرية جادة واصيلة . وهذه معاناة جدية تظهر في كل مكونات الفكر والحياة باشكال مختلفة يصعب حصرها , لكن فهمها يحتاج منا ان نعيد الظاهرة الى منابعها الاساسية , وحينها سندرك كم نعاني من هذه الظاهرة . فهي التي خلقت وتخلق الحركات الاصولية السلفية ,الدينية منها والسياسية , ولانها تنفي الاخر و تجد ان واجبها المقدس يفرض عليها القضاء على الاخر , المختلف معها. والمعالجة تبدا من المنظومة الفكرية العقلية للافراد والمجتمعات ,عبر تحريرها بثورة تنويرية حقيقية تحقق الانطلاق الحر للانسان فكرا وممارسة بشكل يليق بالانسان المعاصر في عالمنا الراهن . dostocan@gmail.com
التعليقات (0)