مات والعود بجواره وراتبه التقاعدي 23 ألف
فيصل علوي وصف الثقافة بالسخافة ومات بفندق مجاور لمكتبها بعدن وهو يتمنى زيارة مسؤوليها
: ماجد الداعري
رحل الفنان اليمني الكبير فيصل علوي صبيحة الأحد الماضي ، رحيلا صامتا ومحيرا، بعد أن أثر كعادته ان يموت صامت الآلآم وساكن الأوجاع، ليودع ذلك الصباح الحزين، أكثر من ستنين عاما، قضى أكثر من أربعة عقود منها في خدمة الفن اليمني وتخليد التراث والإرتقاء بالأغنية اللحجية خصوصا واليمنية عموما، والتنفيس من خلالها عن غلابا الحوطة التي غالبا ماسحقت مواطنيها مواجع الحياة ودموية الإحتجاجات المتواصلة وجحيم الإضطرابات المستمرة التي تعيشها المدينة من قبل أتباع الحراك الجنوبي وصراع القوى السياسية ورجال الدولة فيها.
رحل أبو باسل عند التاسعة من صباح الأحد في جناحه 101 بفندق ميتروبون بخور مكسر عدن، وقبل أن يكمل تنظيف أسنانه في الفندق المجاور لبوابة مكتب الثقافة بالمحافظ، وبعد مرور أكثر من أسبوع قضاها وأسرته في ذلك الجناح الذي منحه إياه رئيس مجلس إدارة الفندق الشيخ جمال التركي، صديقه المقرب وخير من قال أنه استشعر قدر صداقته ومعاناته المرضية منذ عودته مؤخرا من رحلة علاجية في الاردن، تجاوز خلالها الجلطة الثالثة، لتجبره وأفراد أسرته وعددا من محبيه وأصدقائه جلطة رابعة داهمته على غير موعدها- منذ أن تفاجأ بتكريم الثقافة له حين عودته سالما بإحالته إلى التقاعد براتب 23 ألف ريال يمني ، وبعد مرور أكثر من عام على تنحيته من منصب المستشار الثقافي لمحافظ لحج، وإستبداله بفنانة شابة قال انه لا يعرف ولم يسمع حتى بإسمها.. لتجبره تلك المكافأة– كمايبد على معايشته لهمومه وأوجاع إهماله الرسمي التي قال أنها الألم الأوجع والأقسى عليه من كل الصعوبات الصحية والمحن التي مر بها طوال حياته.
وأضاف علوي في آخر حديث صحفي أدلى به للزميلة أمل حزام -الصحفية في يومية 14 أكتوبر الرسمية:" أنا لا أريد منهم دعما ماليا كما لو قد يتصورون، الحمد لدي فلوس وكل ما أحتاجه للعلاج، فقط أريد منهم زيارة وسؤال عن الحال وأن يستشعروا واجبهم الوطني تجاه من خدم هذا الوطن، أريد منهم أن يستشعروا واجبهم ومسؤوليتهم تجاه فنانين يموتون من الجوع في لحج",،، وكرر أقول لك وأمانة في عنقك أن تخرجيها للصحافة يا أمل :"هناك فنانيين يموتون من الجوع وليس لديهم ما يأكلون ويشربون بعد أن أهملتهم السلطة ومسؤوليها وتنكرو لهم ولدورهم في خدمة الفن والتراث اليمني".
وحسب الزميلة حزام التي عايشته أوجاع اللحظات الأخيرة من حياته بجناحه بذلك الفندق المتواضع والمجاور لمكتب ثقافة عدن، بعد أن ظلت تتردد عليه أكثر من مرة وبطلب وإلحاح منه، ولإخراج غصة مريرة قالت أنه كان يشعر بها ويفضل أن لايموت إلا وقد باح للصحافة بشيء منها ، وقبل أن يرحل صباح ذلك اليوم المشؤوم وبصورة مفاجأة وقاتلة لزوجته وأفراد أسرته وكل من كان يتابع حالته الصحية بصمت وبصورة سرية، بعد أن حاول كتم أي معلومات عن متناول الصحفيين ووسائل الإعلام منذ نزوله ضيفا على إدارة الفندق، إحتراما للرئيس الذي قال أنه لم يبخل عليه بالمال وبتكاليف الرحلات العلاجية" .
أكثر من أسبوع قضاه بن علاو كما يحلو للحوج تدليعه ، بعيدا عن منزله في شقعة تبن الحوطة، مفضلا أن يقضي آخر أيام حياته برفقة من قال انه أوفى كل أصدقائه "الشيخ التركي"، ومفضلا أن يبقى نبأ إقامته بفندقه سرا وبعيدا عن أعين الصحفيين وعلمهم ، حتى لايتسبب نبأ واقعه الصحي المرير إزعاجا للرئيس بسببهم لا أكثر.
ما أن إقتربت عقارب ساعة صبيحة الأحد من التاسعة ، حتى استيقظ علوي ممسكا ببرش تنظيف أسنانه إستعدادا لبدء يوم جديد من حياته، غير أن قسوة الجلطة القاتلة كانت أقوى من أمله بيوم جديد، فقد أوقعته أرضاً لتعلن موتا مباغتا لعملاق الأغنية اليمنية ورحيل مفزعا لأكبر فرسان الفن اليمني وأكثرهم حضورا وجمهورا وبساطة وتألقا على مستوى الساحة اليمنية، ليرحل بعدها أبو ملهم صامتاً وبكل هدوء وبرود وعلى عكس حياته المليئة بزغاريط الحياة وأهازيج الفرح ودندنات السرور المتواصل الذي ظل سفره وسفيره الدائم في أكثر من محفل يمني وعربي ونجما لمئات السهرات الفنية ومناسبات الفرح والسرور.
فيصل علوي مات..! أين انتم؟!.
فيصل علوي مات .. قالها أحد عمال مطعم الثقافة المجاور للفندق الذي كان يقيم فيه علوي.. وكرر ساخرا من عدم علمي بالخبر .. مات فيصل فـ"أي صحفي أنت"، وأضاف :" قلت لك فيصل علوي مات التاسعة صباحا في هذا الفندق, وأشار بيده صوب لوحة الفندق المتواضع.. قائلا:"فأين أنتم من معاناته طوال الأسبوع الماضي، فهنا كان يقيم وأسرته منذ مطلع الأسبوع..وتابع العامل "عبدالله طاهر" وفي لحظة كنت فيها بين التصديق والإنشغال بأمور كنت أضنها الأهم في برنامج زيارتي المختصرة لعدن مؤخراً .." لكنه طلب مني أن لا أخبر عن وجوده في الفندق أحدا منكم أنتم الصحفيين، لأنكم وجع رأس للحكومة والرئيس كماقال لي"- حسب العامل..وهنا توقفت مستغربا من نبأ حديثة المؤلم لأسأله بعدها وما أدراك أنت بوجوده هناك؟..
-"لقد كنت أحمل له الأكل وأسرته كل يوم من المطعم لأنه ماعاد كان يشتي يخرج ولا يشوف أحد من المسؤوليين والحكومة كماقال لي".
وبين حزن العامل وقسوة النبأ عليه كمابدا .. توقفت برهة مع نفسي وأنا أهم وزميلي مرزوق ياسين بدخول الفندق بحثا عن نبأ، عن أثر لبن علاو، عن خبر، عن طيف معلومة تقطع الشك باليقين حول مكان موت فيصل بن علوي الذي سارع مكتب وزارة الثقافة بعدن بعدها ولعدة ساعات، ليؤكد لوكالة سبأ في بيان نعي متأخر، أنه مات في مستشفى الجمهورية التعليمي العام بعدن، تجنباً لحرج الحقيقة المؤلمة حول حقيقة مكان وفاته ومالقيه من إهمال وتجاهل من قبل المسؤولين علي مكتب الثقافة خصوصا في عدن ولحج ، وبعد أن كرر وصفه لوزارة الثقافة بأنها "وزرة سخافة وليس ثقافة كمايسمونها "- وفقاً لمانقلته عنه الصحفية أمل حزام".
بعدها تأكدت أن موت فنان طالما كانت أغانيه دليل فرحا وعنوان سفرا لايمكن لحفلة عرس أن تستغني عنها أو تتجاهل حضورها، كان نبأ حزيناً وصادما فعلاً.. وأن ألم العامل وحسرته كان أقوى وأعمق من مسؤولي الثقافة والإعلام في لحج وعدن واليمن عموما.. وأدركت بعد مرارة المعرفة أن قسوة النبأ تكمن في قيمته الإنسانية المتمثلة في أن فنان الشعب ودليل الفرح وصنوان الحوطة وعنوان القمندان، ومبكي ومضحك العود ومن كان يتغنى آملاً أن يدفن وعود فنه إلى جواره، بعد أن رافقه طوال أكثر من أربعين عاما من عمره. ومن مات بالفعل والعود جواره في زاوية الغرفة التي كان يقيم فيها، هو فعلا من يعنيه نباً الوفاة والرحيل الفاجئ على غير موعد ولاتبيه حتى من الصحافة كما هو الحال مثلا مع قطب الفن اليمني الآخر أيوب طارش، ومايعانيه من نكبات صحية ليست أقل مما كان يعيشه علوي.. رحمه الله.
مات ورفيقه العود إلى جواره كما كانت أمنيته الفنية!
الخلاصة مات فعلا فيصل علوي بعد معاناة مريرة مع المرض كماقال بيان نعي الثقافة بعدن. مات وفي القرب منع عود فنه ورفيق مشواره الفني الطويل وكما كان يأمل ويتمنى ذلك فنياً، وباعتبار أن العود بالنسبة له وخاصة ذلك الذي كتب عليه "سالمين" رفيقه الحميم وأغلى من كل مالديه من عيدان الغناء التي كان دائما مايلوذ اليه للإنتصار بقرع أوتاره على أوجاع مرضه الذي ظل يلاحقه طوال السنوات العشر الأخيرة.. مات أبو باسل والعود منتظرا متى يأتي ساعة قرعه أوتاره من قبل أنامل طالما عشقها وتعود علي مطاوعتها حبا وفنا وإخلاصا وعشقا وإمتثالا لها،، لكنه لم يكن ليدرك أن مصيره سيكون مستودع الذكرى، بعد أن فضل علوي أن يهديه للشيخ التركي كأغلى هدية فنية قال أن بإمكانه أن يهديها لمضيفه وصديقه العزيز وآخر من وقف إلى جواره معينا وأنيسا ومؤنساً، وحتى الرمق الواحد والستين من نبض قلبه التي ظل ينبض فيها حتى سكوته فجأة عند ذلك الصباح المؤلم.
ولفيصل علوي عددا من أعواد الغناء كان لسالمين حضورا في أشهرها، ورغم أن حقيقة السر اليقينية، التي كانت تحمله مدلولات الكلمة ماتت هي الأخرى بجوفه لأسباب تهربه من الصحافة وكرهه للظهور الإعلامي، إلا أن مقربين منه أشاروا إلى أن تسمية سالمين كانت تعبيرا عن غلاوة الهدية الفنية المتمثلة في ذلك العود الذي قدمه له الرئيس السابق في دولة جنوب اليمن سابقاً "سالم ربيع علي المعروف شعبياً بـ(سالمين)" بينما إعتبرها أصدقاء وجلاس للفنان علوي تعبيرا منه عن حبه وتقديره لسالمين وماقدمه له من دعم وعون في مشواره الفني الممتد إلى أكثر من أربعين عاماً، ونتيجة عمق الصداقة التي جمعتهما طوال فترة بقاء سالمين في سدة الحكم، وبعد أن حاول أكثر من مرة أن يدعوه لمرافقته في مشاركاته بإحتفالات وطنية لعدد من الدول العربية التي كان سالمين يشارك في إحتفالاتها الوطنية كمصر التي قدم له سالمين دعوة شخصية من الرئيس جمال عبدالناصر للمشاركة في إحياء إحتفالات مصر الوطنية، في سبعينيات القرن المنصرم، غير أنه إعتذر له وقال كلمته المشهورة لسالمين" إنني كالسمكة ياسيادة الرئيس، ما أن تخرج من البحر إلا وتموت، وأنا لن استطيع أن أغادر بلدي والغناء بعيدا عن وطني ومن غير تراث القمندان" . وقبل أن يكرر قولها والتعليق عليها لجلاسه في جلسة قات جمعته بهم قبل يومين من رحيله المفاجأ :" نعم لقد خسرت كثيرا من الشهرة والراحة المادية والصحية بسبب حبي وعشقي لبلدي الذي لم يبادلني ولاغيري من الفنانين أي تقدير أو إهتمام كماينبعي وكغيرنا من فناني العالم، باعتبارنا سفراء التراث والغناء ووجه البلد الحضاري". ويضيف – حسب عمال الفندق" ..ولكن لاعليك يافيصل فقد قمت بكل ماعليك القيام به خدمة للتراث والفن والأجيال القادمة، ولا داع أن تعاتب من لايستحقون حتى عتابك، فأنت أكبر منهم جميعا". هكذا كان يمني فيصل نفسه في آخر لحظات حياته- كماقال موظفي إستقبال الفندق الذي نزل فيه آخر أيام حياته".
مخاوف من إستغلال الحراك مناسبة تشييعه بالحوطة
ويجدر القول أن علوي أبو علوي. فنان رحل في لحظة كان يدرك وحده بساعة رحيله المباغت ، وفي ذلك اليوم الذي حاولت فيه أجهزة السلطة إخفاء النبأ بقدر المستطاع خشية إستغلال الحراك لتنظيم تظاهرة في يوم تشييعه صبيحة الأثنين بحوطة لحج الملتهبة بالتظاهرات والحرائق والدماء، وخشية أن يأتي نبأ وفاته متزامنا مع إتهامات للسلطة بالوقوف وراء رحيله المفاجئ، وعقب نشر الحراك لشائعات مفادها انه كان قد أبدى إستعداده مؤخرا لغناء وتلحين قصائد لشعراء من الحراك الجنوبي كمساهمة منه في دعم وتأييد مشروعهم الذي تصفه السلطة بالتشطيري والإنفصالي". وسيما وقد قام العشرات من الشباب والمشاركين في مراسيم دفنه بعد الصلاة عليه بمسجد الدولة بالحوطة ، برفع أعلام سوداء تعبيرا عن حزن المناسبة، وحمل صور لعلي سالم البيض، وقتيل اليوم الأول في المدينة "علي العسيري"، إضافة إلى ترديد شعارات الحراك المطالبة بالإنفصال ومايسمونها بالثورة الجنوبية الداعية للإستقلال والتحرر". غير أن جهل الغالبية العظمى بنبأ رحيل علوي بعد غياب صحيفة "الأيام" وماتركته من فراغا إعلامي كبير لديهم، خدم السلطة كثيرا في إخفاء النباً عن الغالبية العظمى من جمهور فنه المنخرط في الحراك خصوصا، وتسهيل إقامة موكب جنائزي متواضع آثر فيه المئات من المشيعين تقدمهم بالطبع وزير الثقافة أبو بكر المفلحي ومحافظ لحج وعددا من الشخصيات الرسمية والمسؤولين المحلين والشخصيات الإجتماعية والسياسية بعدن ولحج- حسب مانقلته وسائل الإعلام الرسمية عشية تشييعه المتواضع في حوطة لحج.
ويبقى القول..مات فيصل الفنان والإنسان والأب مخلفا ورائه ثروة فنية يزيد قوامها على الخمسين ألبوما غنائيا من التراث اليمني وقصائد القمندان وشعراء، والتي هي أقل مايمكن لمحبيه وعشاقه الفخر بها، وتأكيد ضمان استمرار حياته سنوات وسنوات قادمة، من الرعيل الأول للحركة الفنية في لحج والبارزين اللذين أثروا المكتبة الفنية اليمنية بالعديد من الأغاني العاطفية والوطنية التي ألهبت المشاعر والأحاسيس على مدى أربعة عقود من الزمن على مستوى اليمن والخليج العربي.
"أسألك بالحب يافاتن جميل" منطلق مشواره الفني
يعد الفنان فيصل علوي أحد أبرز الفنانين في اليمن، وأكثرهم حضورا وجمهورا وإرثا وتنوعا، بعد أن وصلت أغانيه إلى معظم الدول العربية والخليج العربي، خصوصا بعد أن ظل متنقلا بين اليمن وأكثر من بلد عربي وخليجي – سيما بعد أن أقام عدة سنوات في جده بالمملكة العربية السعودية، محييا أكثر من حفله وسهرة فنية أمام جمهوره الفني الكبير هناك.
وكانت أول أغانيه " أسألك بالحب يا فاتن جميل "، سجلها في إذاعة عدن عام 1958م وهي من كلمات الشاعر أحمد عباد الحسيني والحان الفنان صلاح ناصر كرد.
وحصل الفنان علوي على شهادة التعليم الأساسي، بعد أن وقفت الظروف المعيشية ضد مواصلته لتعليمه الجامعي الذي قال لمجموعة من زميلات الدراسة الجامعية، كن قد شرعنا في تسجيل أول فيلم تلفزيوني توثيقي عن حياته كمشروع تخرج في تخصص الإذاعة والتلفزيون من قسم الصحافة والإعلام بآداب جامعة عدن، غير أن ظروفه المرضية، وسفره إلى الإردن حينها لم تساعدهن على إكمال المشروع..قال:" أنه كان يحلم دوما بمواصلة تعليمه لولا تلك الظروف التي وقفت عائقا أمام حلمه".
وينحدر الفنان فيصل علوي المولود في عام 1949م بقرية الشقعة التابعة لمديرية تبن محافظة لحج، إلى أسرة فنية عريقة عرف فيها والده علوي بالفن والشعر والأدب، وهو متزوج ولديه بنت وحيدة وثلاثة أولاد هم :ملهم وباسل وعلوي فيصل علوي أكبرهم ووريث الفن بعد والده.
التعليقات (0)