كتب الاخ عريب الرنتاوي بهذه المرثية يقول :
لم أعرف إمرأة تحمل كل هذا الاعتزاز بعائلتها ، لم أر في حياتي إمرأة رفعت أباها وأخواها إلى مرتبة "القداسة والقديسين" ، فلم تأت يوماً على ذكر أي منهم إلا ولمع البرق في عينيها المطفأتين ، وسرت قشعريرة الاعتزاز بالذكرى في عروقها المتيبسة وجسدها النحيل ، وكدأبها منذ أن تفتحت عيناي على هذه الدنيا ، دائما ما كانت تنهي كلامها بجملة او اثنتين عن أخيها "الشهيد الغائب المُغيّب" مشفوعة بدمعة حرّاء تعيد استحضار الكارثتين معاً: العامة (النكبة) والخاصة (فقدان الأخ) وكأنهما وقعتا أمس أو اليوم.
ولم أعرف إمرأة ولا رجلاً ، لديه مثل هذه الذاكرة الفوتوغرافية ، لقد "رمت في آلة التصوير" كل ما وقعت عليه عيناها وحفظته في الحدقات ، لكأن إدراكها الغريزي أنبأها بأن يوماً سيأتي وتصبح الحرب على "الذاكرة الفلسطينية" واحدة من أشد حروب الفلسطينيين ضراوة ، في وجه من يحاولون احتلالها والسيطرة عليها وإعادة صياغتها ، لقد حملت معها طوال أزيد من ستين عاماً ، كل سكنة وخلجة وقعت في "رنتية" قبل النكبة ، وفي "النويعمة" بعدها وحتى النكسة.
حَفًظَت عن ظهر قلب أسماء الضباط الانجليز ورتبهم ، الذين ما كفّوا يوماً عن مداهمة قريتنا بحثاً عن أبي والثوار ، ثوار فلسطين الثلاثينيات والأربعينيات ، لطالما أعادت الأسماء والرتب على مسامعي ، بيد أنني وأنا من جيل أبنائها أخفقتُ في حفظ أي منهم ، وربما لم أحاول معتمداً عليها في أداء هذه المهمة ، ولا أدري من أين جاءتني الثقة بأنني سأجدها كلما احتجت إليها ، وسأفتح معها "خزائن" الوقائع والأحداث والأسماء والذكريات ، إلى أن رأيتها تستقر في لحَدها ، فأيقنت أن جزءاً مني قد دفن معها تحت التراب.
ما من واقعة تثير في نفسها مشاعر الاعتزاز والثقة بالنفس ، كتلك الواقعة التي تصدت فيها مع جدتي لدورية إنجليزية جاءت البلدة لاعتقال والدي والقبض عليه ، يومها كان الوالد رحمه الله ومعه ثلة من الثوار ، يلوذون بالبلدة لتناول طعامهم والاغتسال واستبدال ثيابهم المتسخة بأخرى نظيفة ، وصلت أنباء الدورية إلى البلدة قبل وصولها ، غادر الثوار على عجل ، نهضت عمتي وجدتي لتبديد آثار حضورهم ، "طمرتا" الطعام الكثير تحت التراب وفي "الطابون" لئلا تُسألا: لمن أعددتما كل هذا الطعام؟ تعاملت عمتي عائشة وجدتي مع الانجليز بصلابة و"رجولة" على حد تعبيرهما ، رَدَّتا القوم على أعقابهم خائبين ، أفلت الثوار من "قبضة الانتداب" ، واقتصرت الأضرار على "الماديّات": بضع دجاجات وكثير من المرق و"الفتيت". وأصدقكم القول أنني سمعت هذه الحكاية بكل تفاصيلها أزيد من ثلاثين مرة على الأقل ، وفي كل مرة كنت كمن يسمعها للمرة الأولى.
أقعدها المرض وهدّ الإعياء جسدها الذابل النحيل ، انحنى عمودها الفقري حتى كاد رأسها يلامس ركبتيها ، بيد أنها كانت دائمة التحليق على ارتفاعات شاهقة ، تقطف من روض الذكريات "زمن العز" في فلسطين قصصاً وحكايات ، أغاني وترانيم ، بوحا ونواحا وتعديدا ، فأية روح وثّابة تحتجزها هذه الأضلع الناتئة. وأية حكاية جَمْعية تختصرها ذكريات إنسان واحد فقط؟ قبل أن تفارق الحياة بأيام ، اخبرني نجلها الأكبر ، أن العمة "أم العبد" لم تُبق حياً أو ميتاً إلا واستحضرته ، نادتهم بأسمائهم لكأنها تدعوهم إلى وليمة أو حفل زفاف ، أو لكأنها تستعجلهم القدوم للتصدي لـ"دورية الانتداب" ، هل يريد هؤلاء اعتقال "رجا ومن معه" مرة أخرى.. إذن سنتصدى لهم كما فعلنا أول مرة ، ولو بصدورنا العارية.. كانوا يستيقظون ليلا على أصوات الزغاريد منبعثة من بئر ذكرياتها ، لكأنها فرغت من إعداد الطعام للثوار القادمين على ظهور الخيل ، هذا أخوها الشيخ رجا مزنر بالكتب والفشك ، وذاك أخوها حافظ "زين الشباب أبو رجائي لم يُمتّع بالشباب".
استرجعت وأنا استنشق غبار قبرها ، عبارة نسبها كتابّ لأول رئيس وزراء إسرائيلي ديفيد بن غوريون وردّها آخرون لأول رئيسة وزراء إسرائيلية جولدا مائير: "كبارهم سيموتون.. وصغارهم سينسون" ، ها هم كبارنا يموتون ، أما نحن "صغارهم" و"صغارنا" فلم ننس ولن ننسى ، والفضل في ذلك عائد لكبارنا الذي حرصوا على نقل الأمانة جيلاً بعد جيل ، ولكبيراتنا ، اللواتي أرضعننا ذكريات النكبة والبطولة قبل أن يتدفق الحليب من صدورهن إلى حلقونا الغضة الطرية ، فشكراً لهؤلاء على ما فعلوا وفعلن ، عزاؤهم وعزاؤنا أن شارون سينقل إلى جولدا مائير عندما يلتقيها قريباً في جهنم بأن الفلسطينيين ما زالوا ينجبون ، وأنهم ما زالوا يتذكرون ، أليست القائلة بأنها تشعر بالغصة كلما علمت عن ولادة طفل فلسطيني جديد؟،
مع تحيات عوني ظاهر
التعليقات (0)