مائة عام على ميلاد المسرح التونسي...
الوعي بالدفاع عن الهوية الوطنية
البشيرعبيد
يحتفل المسرحيون التونسيون طيلة هذا العام بمائوية تأسيس المسرح التونسي الذي تألق في السنوات الأخيرة عربيا و دوليا و جعل منه مبدعون كبار أيقونة المسرح العربي و تجاوز بذلك حكاية اللهجة غير المفهومة مثلما كان يدعي"بعضهم" سابقا. المسرح، هذا الفن المرتبط بالحياة و الإنسان و المجتمع، لا يمكنه أن يحلق عاليا و بعيدا إلا إذا التصق بالكائن البشري و انطلق من الجذور و جعل من الإنسان و الهوية و الوطن، مرتكزا ته الأساسية لتعبيراته الجمالية و أبعاده الفكرية، و بدون هذه المرتكزات و الأبعاد و ما يترتب عليهما من أعمال و اجتهادات و مقاربات قصد التطوير و التحديث و مخاطبة هواجس المتقبل للعمل الفني المسرحي، بدون توفر هذه الشروط تصير الدراما المسرحية بمثابة الصياح في واد عميق و لا من مستجيب. لقد بينت التجارب المتتالية منذ عقود أن المسرح التونسي، بمدارسه المختلفة و اتجاهاته المتعددة و مقارباته المتنوعة، هو الآن المتفوق عربيا و يحلق باقتدار في سماء العالمية دونما ادعاء أو نفخ في الذات، و لم يصل إلى هذه المرتبة الدولية المرموقة التي يفاخر بها الجميع، لو لم يجتهد الكتاب و المخرجون و الممثلون و التقنيون و النقاد، ذلك أن العمل الجماعي في فن تشكل فيه التركيبة الجماعية الطريقة الأفضل للوصول لعمل محبك خال من التناقض أو "الهزال الفني".. و ليس خافيا على أحد أن الريادة التي وصل إليها المسرح التونسي في العقد الأخير، لم يأتي من فراغ، بل يرجع فيه الفضل إلى نخبة من المبدعين الكبار الذين لم يبخلوا بإسالة الكثير من الحبر وسهر الليالي من أجل تطوير و تحديث الخطاب المسرحي في تونس و الوطن العربي.. و هنا لا نأتي بالجديد إذا قلنا أن انفتاح المسرح التونسي في فترة السبعينات على أجواء المسرح العالمي و تجلياته المبهرة هو الذي أعطاه زخما جديدا و أفكارا متطورة لجعله لاحقا قلعة من قلاع المسرح الكوني المتسم بالتنوع و الاستمرارية و الإضافة الدائمة و الاجتهاد المتواصل و معانقة رغبات و هواجس الجمهور. و بهذا المعنى صار مسرحنا المعروف بخصوصيته التونسية و هويته الوطنية و أبعاده الفكرية العربية و الإفريقية، رافدا مهما من روافد تطوير الضائقة الشعبية و إعطاء العمل الفني أبعادا جمالية و فكرية غاية في الحبكة و الابتكار و الإبداع. و معلوم أن المسرح التونسي، منذ بداياته، بدأ يقف بخطوات ثابتة على أرض صلبة نتيجة نضالات أجيال متعددة من المسرحيين و مواكبة هؤلاء المبدعين بلا هوادة لآخر تطورات و إرهاصات المسرح العالمي دون نسيان ترجمات المسرحيات الكبرى في ظل الاستعمار محاولة منهم لاستنهاض الهمم لمقاومة الجحافل الغزاة، ولم يكن الأمر بالعمل اليسير، بل تتطلب بذل مجهودات جبارة للوصول إلى ضفاف" الحبكة الفنية".. و تعتبر هذه المهمة المتمثلة في استنهاض الهمم و بث روح النخوة و الاعتزاز في روح المواطن التونسي العربي، أمرا طبيعيا و جهدا محبذا مطلوبا لترسيخ الجذور في أرض صلبة و استحداثا لطرق جديدة لمقاومة قوى الاستعمار، ونتيجة هذا العمل الجبار برزت عدة فرق في تلك الفترة، كان هدفها المحافظة على الهوية الوطنية بتجلياتها العربية و الإسلامية، و من هنا نفهم الغاية من ضرب قوى الاستعمار لهذه الفرق المناضلة التي أربكته و أزعجته بأعمالها المسرحية التي ما انفكت تجتهد للوصول إلى الجمهور و تجذير انتماءه الحضاري و الثقافي.. و بهذا العمل الفني الكبير الذي تتطلب بذل تضحيات و نضالات كبيرة، أكد المسرح التونسي أن هذا الفن العريق في تاريخ البشرية هو مرآة صادقة للشعوب و المجتمعات، و مجتمع من دون مسرح هو مجتمع من دون مرآة، لا يستطيع أن يرى ذاته و نفسه، و قد أكد هذا الفن النبيل منذ عهد الإغريق(اليونان) إلى يومنا هذا أن نظرته استشرافية، لذلك فهو ينطلق من الواقع ليتجاوزه، والمسرح ليس له حدود و لا حواجز تمنعه من معانقة الآخر و النهل من تجاربه و إضافاته، و هذا العمل المحتكم لقانون الجدلية (التأثر و التأثير) هو الذي يفرز النقد الذاتي في أي مجتمع لإبراز قيم التسامح و التضامن و التكافل، و بهذا المعنى يؤكد المسرح كل يوم أنه في طليعة الفنون المدافعة عن الهوية ومبادئ العقلانية و الحداثة و التقدم، و ليس بالأمر الهين أن تقدم فرق مسرحية باعتمادات ذاتية متواضعة أعمالا محترمة لو لم تسندها روح كفاحية و عقلية أساسها الصبر و طول النفس و مكابدة الصعاب، ولا يجب أن ننسى هنا أن التجربة المسرحية التونسية أثرتها مدارس متعددة و اتجاهات فنية مختلفة، كان ولازال هدفها المركزي النهوض بالإنسان و ترسيخ هويته الحضارية و الثقافية و إبراز التيارات العقلانية و الحداثية في التراث العربي الإسلامي لدحر و محاصرة القوى الرجعية المحافظة. و اللافت في التجربة المسرحية التونسية أ، دولة الاستقلال سارعت بإدخال المسرح إلى المدارس و المعاهد و المؤسسات الجامعية و دعمت النشاطات المسرحية الهاوية و غير الهاوية و إرساء سياسة اللامركزية و إعطاء كل ولاية من ولايات الجمهورية مركزها الجهوي للفنون الدرامية و تدعيم فرقتها الخاصة،إضافة إلى بعث عديد العناصر الشابة المشهود لها بالموهبة إلى أوروبا للاستفادة من خبرات كبار المبدعين المتميزين هناك، إلا أن إشعاع المسرح التونسي و تألقه عربيا لا يجعلنا نغض النظر عن بعض الهنات المتواجدة في مسارها الطويل خاصة في الفترة الأخيرة، ذلك أنه رغم خطابه الحديث و دوره الكبير الفعال في الدفاع عن حصون الهوية، إلا أن حالة من استنساخ مسرحنا الحديث، تجعله في كثير من الأحيان يدخل في دوامة لا نهاية لها، وهنا لابد من دق نواقيس الخطر لتحصين هويتنا الثقافية و الحضارية و تجذير المسار التحديثي التونسي في تربة عربية إسلامية دون نسيان الانفتاح بروية وهدوء على أهم الإضافات التي يشهدها المسرح العالمي بروافده المتعددة و مدارسه المختلفة و اتجاهاته الفكرية الخصبة، و بهذا التمشي الرصين نكون قد وضعنا أنفسنا على الدرب الصحيح.
التعليقات (0)