مواضيع اليوم

مائة أديب مصرى (48-100) محمود تيمور شيخ القصة العربية

الدكتور صديق

2011-05-26 15:46:16

0

ولد محمود أحمد تيمور في أحد أحياء مصر القديمة في (12 من المحرم 1312هـ = 16 من يونيو 1894م)، ونشأ في أسرة عريقة على قدر كبير من الجاه والعلم والثراء؛ فقد كان أبوه أحمد تيمور باشا واحدًا من أبرز أعلام عصره ومن أقطاب الفكر والأدب المعدودين، وله العديد من المؤلفات النفيسة والمصنفات الفريدة التي تكشف عن موسوعية نادرة وعبقرية فريدة.

وكان درب سعادة -وهو الحي الذي وُلد فيه محمود تيمور- يتميز بأصالته الشعبية؛ فهو يجمع أشتاتًا من الطوائف والفئات التي تشمل الصناع والتجار وأرباب الحرف من كل فن ولون.

وقد تَشربَّت نفسه وروحه بتلك الأجواء الشعبية منذ نعومة أظفاره، واختزنت ذاكرتُه العديدَ من صور الحياة الشعبية والشخصيات الحية التي وقعت عيناه عليها، وأعاد رسمها وعبر عنها -بعد ذلك- في الكثير من أعماله القصصية.

وما لبثت أسرته أن انتقلت إلى ضاحية عين شمس؛ فعاش في ريفها الساحر الجميل الذي كان ينبوعًا لوجدانه، يغذيه بالجمال والشاعرية، ويفجر فيه ملكات الإبداع بما فيه من مناظر جميلة وطبيعة خلابة ساحرة.

وقد تعلم محمود تيمور بالمدارس المصرية الابتدائية والثانوية الأميرية، والتحق بمدرسة الزراعة العليا، ولكن حدثت نقطة تحول خطيرة في حياته وهو لم يتجاوز العشرين من عمره بعد؛ فقد أصيب بمرض التيفود، واشتدت وطأة المرض عليه؛ فانقطع عن دراسته الزراعية، ولزم الفراش ثلاثة أشهر، قضاها في القراءة والتأمل والتفكير، وسافر إلى الخارج للاستشفاء بسويسرا، ووجد في نفسه ميلاً شديدًا إلى الأدب؛ فألزم نفسه بالقراءة والاطلاع، وهناك أتيحت له دراسة عالية في الآداب الأوربية؛ فدرس الأدب الفرنسي والأدب الروسي، بالإضافة إلى سعة اطلاعه في الأدب العربي.

واتسعت قراءاته لتشمل روائع الأدب العالمي لعدد من مشاهير الكتاب العالميين، مثل: "أنطون تشيكوف"، و"إيفان تورجنيف"، و"جي دي موباسان".

وكان شقيقه "محمد" خير مرشد له بما يسديه إليه من النصائح والتوجيهات والآراء السديدة، وبما لديه من ثقافة واسعة، وموهبة أدبية رفيعة.

وقد تأثر محمود تيمور بأخيه في اتجاهه نحو المذهب الواقعي في الكتابة القصصية، والذي ظهر واضحًا في مجموعته القصصية الأولى "ما تراه العيون"، فأعجب بها محمود إعجابًا دعاه إلى أن يؤلف على غرارها؛ فكتب باكورته القصصية "الشيخ جمعة" سنة (1344 هـ = 1925م).

وفجأة تُوفِّي أخوه محمد وهو في ريعان الصبا وشرخ الشباب؛ فشعر محمود بانهيار آماله، وفقد حماسه، وأصابه اليأس، وانزوى حزينًا مستسلمًا للأسى والإحباط.

ولكن بمرور الأيام بدأ الجرح يندمل في قلبه، وأقبل من جديد على الحياة، وراح ينفض عن نفسه الفشل والإحباط، واعتمد على نفسه مهتديًا بهُدى شقيقه الراحل، ومترسمًا خطاه في عالم الأدب والإبداع، وأقبل على الكتابة بنشاط وروح جديدة.

ومما لا شك فيه أن تيمور الابن قد ورث عن أبيه العديد من الملكات والصفات؛ فقد كان مغرمًا بالأدب واللغة، شغوفًا بالقراءة والبحث والاطلاع، محبًا للكتابة والتأليف.

وقد عُني أبوه منذ سن مبكرة بتوجيهه إلى القراءة والاطلاع، وتنشئته على حب فنون الأدب واللغة؛ فأقبل الابن على مكتبة أبيه العامرة بنَهَمٍ شديد، ينهل منها، ويَعُبّ من ذخائرها، ويجني من مجانيها.

وكان له شغف خاص بالمنفلوطي الذي غرس فيه نزعته الرومانسية، كما تأثر بعدد من الشعراء، خاصة شعراء المهجر، وعلى رأسهم "جبران خليل جبران"، الذي كان لكتابه "الأجنحة المتكسرة" بنزعته الرومانسية الرمزية تأثير خاص في وجدانه.

لم يكن المرض هو مأساة تيمور الوحيدة؛ فقد كان فقدُهُ لأخيه محمد مأساةً أخرى، صبغت حياته بحالة من الحزن والتشاؤم والإحباط، لم يستطع الخروج منها إلا بصعوبة بالغة.

وكان على موعد مع مأساة ثالثة أشد وطأة على نفسه ووجدانه، زلزلت حياته، وفجعته في ولده الذي اختطفه الموت وهو ما زال في العشرين من عمره؛ وقد تركت تلك المأساة في نفسه مرارة لا تنتهي، وحزنًا لا ينقضي.

وكان ملاذه الوحيد وسلواه في كل تلك المحن والأحداث هو الكتابة، يَهرع إليها ليخفف أحزانه، ويضمد جراحه، ويتناسى آلامه. وقد انعكس ذلك في غزارة إنتاجه وكثرة مؤلفاته.

وقد حظي محمود تيمور بحفاوة وتقدير الأدباء والنقاد، ونال اهتمام وتقدير المحافل الأدبية ونوادي الأدب والجامعات المختلفة في مصر والوطن العربي، كما اهتمت به جامعات أوروبا وأمريكا، وأقبل على أدبه الأدباء والدارسون في مصر والعالم.

ومثَّلَ محمود تيمور مصر في العديد من المؤتمرات الأدبية، مثل: مؤتمر الأدباء في بيروت سنة (1373هـ = 1954م)، ومؤتمر القلم ببيروت سنة (1373هـ = 1954م) أيضًا، ومؤتمر الدراسات الإسلامية في جامعة بشاور بباكستان، ومؤتمر الأدباء في دمشق.

كما نال إنتاجه القصصي جائزة مجمع اللغة العربية بمصر سنة (1366هـ = 1947م)، وما لبث أن عُيِّن عضوا فيه عام (1368هـ = 1949م).

وحصل على جائزة الدولة للآداب سنة (1369هـ = 1950م)، وجائزة "واصف غالي" بباريس سنة (1370هـ = 1951م)، ومُنِح جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة (1382هـ = 1963م) من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. واحتفلت به جامعات روسيا والمجر وأمريكا، وكرمته في أكثر من مناسبة.

محمود تيمور ( القاهرة، 16 يوليه 1894 - لوزان، سويسرا، 25 اغسطس 1973) اديب مصرى كبير ، و من اهم كتاب القصه فى مصر ، من العيله التيموريه الأدبيه. ابن العلامه احمد تيمور و أخو الاديب محمد تيمور و عمته عائشه التيموريه.

اصدر مجموعة قصص قصيره بتصور حياة الطبقات الشعبيه المصريه زى " الشيخ سيد العبيط (1925)" ، و " رجب افندى " (1928) ، و " الحاج شلبى " ( 1930) و غيرها. و كتب روايات رومانسيه طويله مثل " نداء المجهول " (1939) اللى كانت من المقررات المدرسيه فى مصر ، و " كليوباترا فى خان الخليلى " (1946) ، و "سلوى فى مهب الريح " (1947) ، و مسرحيات استوحاها من التاريخ القديم زى " اليوم خمر " (1956).

 

قال عنه طه حسين: "لا أكاد أصدق أن كاتبا مصريا وصل إلى الجماهير المثقفة وغير المثقفة مثلما وصلت إليها أنت، فلا تكاد تكتب، ولا يكاد الناس يسمعون بعض ما تكتب حتى يصل إلى قلوبهم كمايصل الفاتح إلى المدينة التي يقهرها فيستأثر بها الاستئثار كله".

مات في لوزان بسويسرة 1973، ونقل جثمانه إلى القاهرة، ودُفِن بها.

 

الرسالة

 

حين مات عنها زوجها، وزفت ابنتها الوحيدة إلى عروسها من بعد، تخلّت هي عن مسكنها في العاصمة، واختارت لها شقة صغيرة في ضاحية «الزيتون»، فكانت تحيا هناك في شبه عزلة، لا مؤنس لها إلا ذكريات أيامها الخوالي.

ولعل ذكرى واحدة بين ركام ذكرياتها المختلفة، ذكرى فريدة غالية، هي التي احتلّت من نفسها أعز مكان.

إنها ذكرى حادث كان أخطر ما جرى عليها من أحداث، وكان أعمقها أثراً في توجيه حياتها وحياة ابنتها الوحيدة وجهة أخرى.

وكلما استعادت مشاهد هذا الحادث أحست بابتسامة ترف على شفتيها الهادئتين .. ابتسامة العجب من تصاريف القدر!

رب خطأ تافه غير مقصود يجر المرء إلى هاوية الخراب والدمار، أو يهبه نجاة تتفتح بها صفحة جديدة في سجل الأيام.

أثمة يد خفية لربان من السحرة يُدير دفة السفينة، وهي تشق الموج في عباب الحياة؟

كم لتلك اليد من ظواهر معابثات تنطوي على تدبير حكيم!

والآن وقد انقضت سنون طوال على ذلك الحادث الفذ، يطيب للسيدة «سعدية» حرم الأستاذ «يسري» أن تبتعثه بين الفينة والفينة من غيابة الماضي، وتجلو عنه غبار النسيان لعينيها خلال حلم من أحلام اليقظة في دعة وسكون.

منذ ثلاثين عاماً ونيف، وقد جاوزت السيدة «سعدية يسري» الأربعين من عمرها، في يوم قائظ، والساعة تُقارب الثالثة بعد الظهر، بارحت دارها، قاصدة «مكتب البريد»، وإنها لتحرص دائماً على الخروج في تلك الساعة، كلما أزمعت أن تزور ذلك المكتب، وما أكثر زياراتها له، مؤثرةً جهد إمكانها جانب التخفي والكتمان.

ولم يكن اختيارها لتلك الساعة عبثاً، فهو وقت القيلولة: فيه يغفو زوجها «الأستاذ يسري» غفوة الظهر، وفيه تخلو ابنتها الوحيدة «يسرية» لاستذكار دروسها، وهو الوقت الذي لا ينشط فيه الناس لتتبع الخلق، وتقصي ما وراءهم من أسرار.

ويا له من سر، ذلك الذي تُحاول السيدة «سعدية يسري» أن تستأثر به لنفسها .. إنه سر حياتها الكبير!

ولما بلغت «مكتب البريد» توخّت «شباك الرسائل المحفوظة»، وقلبها سريع الخفوق، وسألت:

أثمة رسالة باسمها؟

فلم تمض لحظات حتى مد إليها عامل البريد يده برسالة، فتناولتها في عجلة، وسرعان ما دستها في أعماق حقيبتها، وحثت الخطا إلى البيت، تنتهبها أشتات الخواطر والأفكار …

هذه رسالة ممن أولته قلبها كله، من حبيبها الأوحد …

أما لقاؤها له، فلم يكن إلا بين فترة وفترة، فهو من أهل الثغر، لا يأتي إلى العاصمة إلا لماماً. وإذا التقيا كان كل حظهما أن يتطارحا أحاديث الشوق ومناجيات الهوى، بمنأى عن أسماع الفضوليين وأنظار الرقباء.

إنها جد حريصة على أن تظل علاقتها به في طي الخفاء.

حسبها اليوم أن تحيا في أخيلة جميلة تهبها لها تلك اللقيات الخاطفة، فتشيِّد منها قصور السعادة والهناء، مرتقبة يوم الخلاص، يوم تتحقق لها المتعة الكبرى في لقاء ليس بعده انفصام.

لقد واثقت حبيبها على أن تهجر عش الزوجية وتلحق به، لتقضي معه ما تبقى لهما من أيام في بلد خارجي بعيد، حيث يمارس عملاً تجاريا، يدر عليه الكسب الموفور.

ها هي ذي تنتظر منه أن يحدد الموعد .. أن يعين اليوم الذي تبدأ فيه المغامرة البهيجة الحاسمة.

كفى ما مضى من أعوام كثيرة قضتها في كنف زوجها الذي تقدمت به السن وطحنته الأعباء …

تزوّجها يافعة، لم تكد تحبو إلى السابعة عشرة، وهو يومئذ رجل مكتمل النضج يربى على الأربعين.

أليس من حقها الآن، وقد اعتصر زوجها الأناني رحيق شبابها، وكاد يلقي بها نفاية لا مأرب فيها لأحد، أن تحول بين نفسها وبين التردي في تلك الوهدة السحيقة، وهدة الإهمال والضياع، وأن تستخلص من أيامها الباقية فرصة للاستمتاع بالحياة؟ ..

هي اليوم في أوج ازدهارها الأنثوي، وقد غدت ابنتها فتاة في السادسة عشرة توشك أن تكون لها حياتها الخاصة بعد سنوات قلال. أما زوجها هي فقد رانت عليه شيخوخة ثقيلة لا شفاء له منها إلا بالإذعان لما تقضي به الأقدار.

ماذا تجني من عيشتها الحاضرة، إلا أن تقبع في ذلك الركن المعتم الموحش، ركن الزوجية الجدباء؟

ما أشبه هذا الزوج بطائر من طيور الأساطير علا في الأفق حينا من الدهر، يسبح في الضوء الساطع، ويملأ صدره بالهواء المنعش، ثم وهنت قواه، فانهوى جاثماً على الأرض، مرخياً جناحيه ليخفي تحتهما تلك الزوجة المنكودة، فيحول بينها وبين الاستمتاع بمباهج العيش، واسترواح نسيم الحياة.

لقد مكثت في كنفه حتى اليوم مخلصة له وفية، واستنفدت في صحبته فورة الصبا وزهرة الشباب … وكفاها ذلك من بذل وفداء.

إن لنفسها عليها حقا، وقد آن لها أن تلبي نداء رغباتها الطبيعية المفروضة، وهي تحس الحيوية في أوصالها تضطرم، مهيبة بها أن تنطلق مع هاتف الحب، يُطرب سمعها بأغاريده العذاب.

هذه فرصة تسنح لها، ولن تدعها تفلت منها.

يممت صوب دارها محتضنة حقيبتها، كأنما هي بين يديها وليد تحميه من مخاطر الطريق.

ستحتويها حجرتها بعد قليل، وستخلو إلى رسالتها تبسطها أمامها لتقرأ النبأ العظيم.

وتابعت خطاها، وقلبها يكاد يثب بين جوانحها وثباً.

وعادت الخواطر في رأسها تتداعى.

ربما أنكر عليها منكر أن ترضى ذلك السلوك، فتهجر زوجها بعد عشرة امتدت سنين بعد سنين، زوجها الذي تعلق بها، وتدله في حبها، وأسبغ عليها حنانه، ووفر لها عيشة هناء ورفاهية، زوجها الذي احتمل من نزقها ومن بوادرها ما يضيق به صدر الحليم، فكان يُبالغ في تدليلها والتلطف بها، محققا ما كانت تهفو إليه من مطامح وأطماع.

هذا حق، وما في مستطاعها أن تجحد منه شيئاً.

ولكن هذا الزوج لم يكن يملك أن يفعل غير ما فعل، ليسوس زوجة أضفت عليه من فتنة الأنوثة وروعة الجاذبية ما أذاقه طيب العيش، وأناله بهجة الحياة.

لقد ردّت له جميله أضعافاً مُضاعفة، ولم يبق عليها أن تضيف جديداً.

… وكانت قد بلغت الدار.

وتسللت إلى حجرتها في تلصص.

وما هي إلا أن أقفلت وراءها الباب بالمفتاح. واستخرجت الرسالة من أعماق الحقيبة، وما لبثت أن فضت الغلاف بأنامل راجفة، وما أسرع أن تصيدت عينها هذه الكلمات:

«موعدنا يوم الخميس في الثالثة بعد الظهر … لقد أعددتُ كل شيء … سنُسافر من فورنا إلى المكان المتفق عليه، حيث نبدأ معاً رحلة العمر، نستمرئ رحيق الحب الهنيء …».

ووضعت الرسالة على صدرها، ودقات قلبها تتسارع، وفي خاطرها تتوارد أخيلة ومشاهد.

ولم يطل بها الوقت على هذه الحال.

عادت إلى الرسالة تقرؤها.

وفي هذه المرة اختلج جسدها اختلاجة دهشة.

أهذا خطه الذي ألف أن يكتب به رسائله إليها؟

وأقبلت على الرسالة تتفحص كتابتها تفحص فني خبير.

وكلما أنعمت النظر ودققت في الملاحظة، ازدادت من شك.

وتفاقم اضطرابها.

أتراها مكيدة ينصبها لها عاذل حسود؟

ولاحت في رأسها فكرة.

واختطفت الظرف الذي كانت تنطوي فيه الرسالة، وقرأت على ظهره ما يلي:

«الآنسة يسرية يسري. يُحفظ بشباك البريد».

وعادت تقرأ، وتقرأ، وهي لا تصدق ما ترى.

وغامت أمام عينيها الدنيا، وتفصَّد من جبينها عرق.

وتزاحمت عليها الخواطر من كل صوب، تُناوشها بلا رحمة.

لقد كشفت عن سر ابنتها الخطير.

لولا أن موظف البريد اشتبه عليه الأمر، بين اسمها «السيدة سعدية يسري» واسم ابنتها «الآنسة يسرية يسري» لبقي ذلك السر مصوناً لا تعلم به.

هاهي ذي تعلم الساعة ـ دون قصد ـ أن «يسرية» الصغيرة لها عاشق عتيد، وهي التي لم تعدُ السادسة عشرة بعد، وإنه حقا لعاشق جريء، أعد لها عدة الهرب في تدبير وإحكام …

يا له من اتفاق رهيب!

أم وابنتها تسيران في طريق … طريق خطيئة ودنس!

كلتاهما تزمع ما تزمع الأخرى من أمر، وتتخذ ما تتخذ من حيلة ووسيلة!

وأخذت تروِّح وجهها بمنديل.

وخطت إلى النافذة تنظر.

الهدوء يشمل الدار.

زوجها في حجرته يُواصل غفوته.

وابنتها على مكتبها تستذكر درسها … درس العبث والمغامرة.

حين كانت الأم في مثل سن ابنتها تلك، كانت مثلاً للسذاجة والبراءة والصفاء، ولم تكن تعرف من المغامرات الغرامية شيئاً قل أو كثر.

إنها لتعجب كيف استطاعت ابنتها أن تعقد تلك الصلة بصاحبها، وأن تبلغ معه مرحلة حاسمة، دون أن يدري ممن حولها أحد؟!

ألم تكن الأم تُعايش ابنتها صباح مساء؟

كيف مرَّ ذلك كله، تحت أنفها وهي جاهلة به، أو ساهية عنه؟

أكان من الممكن حقا أن يصل إلى علمها نبأ، وهي التي قذفت بابنتها، منذ أعوام خلت، بين يدي حاضنة مُتهالكة عجوز؟

أكان من الممكن أن تلحظ ما يجري في الخفاء، وهي التي ظلت من أمرها في شغل شاغل؟

كل ما كان يملك عليها تفكيرها أن توفِّر لمظهرها التأنق والبهاء لتحتفظ ما استطاعت بما بقي من شبابها الذاهب مع الريح.

لقد اجتذبتها الحياة الصاخبة في مجتمعات اللهو والسمر، فانقادت لتيّارها الجارف، لا ترى في مشاغل الأسرة والدار إلا الخواء والهباء.

وجعلت السيدة «سعدية يسري» تعرض شريط حياتها؛ كيف كانت بادئ بدء أما مثالية، ترعى طفلتها أحسن رعاية، وزوجة عفة وافية، تتعهّد زوجها أتم تعهد؟ وكيف تغيرت بها الحال، فألفت نفسها تتناءى رويداً رويداً عن ذلك الجو الألوف، جو الأسرة بما يشيع فيه من دعة ووئام؟

شد ما سحرتها تلك النزعة الجديدة التي ألقت بها في دوّامة المغامرات، تستمتع بنشوة الحب ومتعة الأحلام.

وتراءت لها في تلك اللحظة هاوية سحيقة كانت تتسع فوهتها أمام عينيها، وعن يمينها زوجها الشيخ، وعن يسارها ابنتها اليافعة، وهي تدفع بهما وبنفسها أيضاً إلى حافة الهاوية، ليسقطوا فيها جميعاً إلى الحضيض.

وترامت على المقعد تستبد بها نوبة نشيج ...

واسترسلت في بكاء …

وكلما انهملت من مآقيها العبرات، اشتدت رغبتها في البكاء الحار، ولكأن روحها تغتسل في فيض دموعها، تلتمس الطهر والنقاء.

وأحست السيدة «سعدية يسري» صوتاً ينبعث من حجرة ابنتها ..

إنه صرير باب ينفتح.

وهبت دفعة واحدة.

وفي لحظة كانت أمام الحجرة، فألفت «يسرية» على أهبة أن تبرح الدار.

ومثلت الأم تجاه ابنتها، وقد انعقد لسانها لا ينبس.

وقالت الفتاة، وهي تتفحّص وجه أمها في اضطراب:

ـ ما بك يا أمي؟ إنك تبكين!

فسارعت الأم تمسح عينيها، وقالت متهدجة الصوت:

ـ إلى أين أنت ذاهبة يا ابنتي؟

ـ إلى المتجر القريب، أشتري بعض حاجات.

ـ بل إلى دار البريد، لتتسلمي رسالة .. لقد تسلمتها عوضاً عنكِ!

فشحب وجه «يسرية»، وسرت في أوصالها رعشة …

وأمسكت الأم ابنتها، وقالت لها، وهي تسوقها إلى الحجرة:

تعالي نتحدث قليلاً …

… وبعد وقت خرجت من الحجرة السيدة «سعدية» وهي تحيط ابنتها «يسرية» بذراعها، على حين كانت الفتاة خافضة الرأس، كسيرة الخاطر، تجفف بقايا دمع على خديها يترقرق …

ومالت الأم على «يسرية» تقول في ملاطفة:

لقد حان أن يستيقظ أبوك … ألا تأتين معي إلى المطهى كي نُعدَّ له قدحاً من الشاي؟!

 

 

 

شندويل يبحث عن عروس

 

 

كان "شندويل" جالساً القرفصاء، معتمداً رأسه براحتيه، وقد ملكه تفكير مضطرب حائر، وران على الدار هدوء ثقيل، يشيع فيه هم وقلق ورتوب. وجب أن يحسم شندويل الأمر على أي نحو يكون. لم يعد طفلا ولا صبيا، إنه شاب مكتمل الشباب، بل إنه بلغ مبلغ الرجولة، وانصرم الوقت وشندويل لم يُغيِّر جلسته، يضرب في متاهة لا يعرف له منها مخرجا .. وبغتةً ألفى نفسه ينهض، وعلى وجهه يرتسم عزم وتصميم، وأخذ سمته إلى "أم فكرية". "شندويل" هذا فلاح من قرية "المنشية"، وهي من أعمال "شبين الكوم" .. رجل في حاله، لا يعرف العيب ولا يجري لسانه به، مخلص أمين، طيب القلب، ليِّن العريكة، ولكنه معروف بصراحته، لا يُداري أحداً. نشأ يتيم الأبوين، لم تكتحل عيناه بمرآهما، فكفله رجل خير، مزارع له أرض تفيء عليه رزقاً محدوداُ، فضمَّه إلى أسرته: زوجه وبناته الثلاث، وكان "شندويل" يكبرهن بأعوام قلائل، فاختلط بالأسرة كأنه واحد منها، يعمل معهم في خدمة الدار والحقل والماشية.

 

وبعد سنوات دهم رب الأسرة مرض مُفاجئ أودى به في أيام، فكانت فاجعة تجلّدت لها الزوجة قدر ما تستطيع، ووقفت حياتها على توفير أسباب العيش لبناتها الثلاث، مع رعاية مرافق الدار والحقل والماشية، يُعينها الفتى "شندويل" أحسن العون بما أوتي من قوة بنية، وما طُبِع عليه من صبر ودأب، وما تميَّز به من جد ونشاط. وتواصلت الأيام … وكبر الفتى، واشتد عوده، وانتهى إليه عبء الحقل أجمع، فنهض به راضيا بعمله، مرضيا عنه … مع الصبح يخرج إلى الحقل محبور النفس، يسوق الماشية أمامه، وهو يُردِّد أغانيه، ويُتابع العمل في نشوة، يحرث ويعزق ويروي، ويُعنى بكل شيء حواليه من زرع وضرع، لا تهدأ له حركة، ولا يشغله عن عمله شاغل، وتراه يستقبل بزوغ النبتة بفرحة غامرة، فيظل يتحسسها ويتشمّمها كأنها من لحمه ودمه. وعند الظهيرة تلوح "أم فكرية" وبناتها الثلاث، يحملن صحاف الطعام، فيلقاهن "شندويل" بترحاب، وبعد أن يمسح عرقه بطرف قميصه، يُهيئ لهن مكاناُ ظليلاُ من كثب من القناة … وما هي إلا أن يتحلّق الجميع حول سماط الطعام، مقبلين على الأكل في شهية. وتسأل "أم فكرية":

 

ـ ما خطب المحصول؟

فيؤكد لها "شندويل" جودته، ويُبشرها بنمائه، ويُقسم لها أنها ظافرة منه يوم الحصاد بما يُحقق لها وبناتها الثلاث كل ما تطمح نفوسهن إليه.وربما طاب للأسرة أن تُداعب "شندويل" في أثناء الطعام بالنكات اللاذعة،ليثور ثائره ويهيج غضبه،بيد أنه لا يزيد على أن يُشرق وجهه بابتسامة سمحة. فإذا أرخى المساء سدوله، أوى شندويل إلى ركن في الزريبة، أعده مكاناً مختاراُ له، حتى يكون بمنأى عن حريم الدار، وما أسرع أن يغشاه سبات عميق تتراءى فيه نواعم الأحلام. على هذا المنوال سارت الأحوال رضية ندية، وترادفت الأيام على الأسرة في طمأنينة وسلام، حتى دب في قلب "شندويل" شعور طارئ لم يكن له عهد به من قبل. لقد نشأ الفتى، وهو يجد نفسه في مكان الأخ الأكبر للبنات الثلاث، وفي مرتبة الابن لربة الدار، فقنع بهذه العاطفة الحلوة الهادئة المُحايدة، يتلقّاها ممن حواليْه، ويُبادلهن إياها في لطف وإيناس، ولكن الطبيعة لا تُقر الهدوء والاتزان، ولا تعرف الحياد .. إن لها نزواتها، بل قل إن لها قوانينها، وهكذا وجد "شندويل" نفسه على الرغم منه ينظر إلى البنات في ازدهار أنوثتهن نظرةً من طراز آخر

 

نظرةَ ميل وانعطاف، وراءها مشاعر تتوهّج .. أما الرباط الأخوي المحض، فلم يعد له وحده مكان! وكانت البنات على نمط متشابه من الوسامة، انتقل إليهن من الأم، فكأنهن وإياها نسخ مكرّرة، إلا فوارق تفرضها السن، وما تتميز به بعضهن من الشمائل والخلال. وقد شاع في المنطقة نبأ أولئك الصبايا الملاح، وطار صيتهن في المناطق المجاورة، وتهادت الألسن حديثهن المستطاب .. فأما الكبرى فكانت أثيرة عند "شندويل"، فأزمع ان يخطبها، وأفصح "لأم فكرية عن عزمه فطأطأت رأسها في صمت، وقد تناولت عوداُ يابساً تنكت به الأرض حيالها، فلما طال صمتها، أعاد "شندويل" الإفصاح عمّا طلب، وقد حسب أنها لم تسمع حديثه، أو لم تدر فحواه، فرفعت رأسها، وكست مُحيّاها طابع جد، فقلق "شندويل" أشد القلق ... وبعد هنيهة، قالت "أم فكرية":

ـ أأجد لابنتي أعزَّ منك؟ أنت ابن البيت .. كلك خير وبركة، ولكن سبقك غيرك يا "شندويل؟"..

ـ من تعنين يا خالة؟

ـ المشرف يا "شندويل" .. المشرف الزراعي طلبها منذ أيام .. وعرض مهراً قدره مئة جنيه. فغمغم "شندويل" وقد زاغت عيناه:

ـ مئة جنيه؟

ـ وعنده جنينة برتقال يربح منها الذهب!

 

وانجرّ "شندويل" إلى الزريبة، مثقل الخُطا، يكاد يتعثر، وتوخّى ركنه المختار، متهالكاً على الفراش يدفن فيه وجهه، ويُسلم نفسه للأنين والانتحاب. وتم الزواج .. وانتقلت إلى دار المشرف الزراعي كبرى البنات في مهرجان من الأغاريد والأضواء، ينفح منه أريج البرتقال! ولم يجد "شندويل" مفرا من قبول الأمر الواقع، فشارك القوم فرحتهم، وألفى نفسه ينهض بواجبه نحو حفل الزفاف على أكمل وجه في صدق وإخلاص.

وعادت الحياة إلى سابق مساقها. وعاد "شندويل" إلى عمله في الحقل يجد ويكد .. ولم يتغير من نظام الأسرة شيء إلا أن عددها قد نقص فرداً. وأحس "شندويل" بقلبه على مر الوقت يخفق حبا للابنة الوسطى، وقد اكتملت نضجاً ونضارةً، فتملكته فكرة الزواج بها، واختفت خيبته التي واجهته في التجربة الأولى، واختفى معها كل تدبر وموازنة ومنطق، فتقدّم في براءة وبساطة إلى "أم فكرية" يخطب وسطى البنات .. فطأطأت رأسها في صمت، وتناولت عوداً يابساً تنكت به الأرض حيالها، ولم تلبث أن همهمت:

ـ أأجد لابنتي أعزَّ منك يا "شندويل"؟ أنت ابن البيت .. كلك خير وبركة، ولكن ..

ـ ماذا يا خالة؟

 

ـ وكيل الجمعية التعاونية طلبها، وعرض شبكة ثمينةً .. سواراً مٌرصَّعاً بالجوهر! ومضغ "شندويل" كلماته يُردِّد:

سواراً مٌرصَّعاً بالجوهر؟! وانجرّ إلى مكانه من الزريبة، ودفن في الحشية وجهه وانخرط في بكاء مرير. ومرة ثانية، استسلم للأمر الواقع، وكان الساعد الأيمن في حفل الزفاف الجديد، وخطف بصره بريق السوار المرصّع بالجوهر ، وزكمت أنفه روائح ما حمل الزوج لعروسه من خيرات التموين، وفي المقصف العامر أوغل "شندويل" في الأكل، حتى أُتخم. وطوى الزمن أياماً وأياماً … وعادت الحياة إلى مجراها في الدار والحقل، وإن نقص من عدد الأسرة اثنتان، ولم يبق من البنات إلا واحدة أتفلت هي الأخرى من بين يديه؟..لن يكون ذلك بحال وأحس بحبه القديم للأختين السالفتين يتجمّع ويتجدّد في الثالثة على نحو مثير،فأقسم أن تكون من نصيبه لينتزعها انتزاعاً من"أم فكرية".وتقدّم لها ثابت الجنان، وخطب الفتاة الصغرى في جرأةوكانت "أم فكرية" على وشك أن تُطأطئ الرأس، وأن تفزع إلى عود يابس تنكت به الأرض، فصاح بها مُبادراً على غير ما ألِفت منه:

ـ لا أنا خير ولا أنا بركة ولا أنا أيضاً ابن البيت أنا "شندويل"..شندويل

جئت أخطب ابنتك الثالثة،وسأعمل جهدي على إسعادها.

ـ ولكن .. يا "شندويل"

ـ ماذا يا ست "أم فكرية"؟

ـ لقد خطب البنت رجل ولا كل الرجال يسكن داراً جديدة على "بحر شبين"، فيها ثلاجة وغسالة وجهاز إذاعة .. عقبى لك يا "شندويل"! فغص "شندويل" بريقه، وهو يُجمجم:

ـ ومن ذلك الخاطب يا"أم فكرية"؟ ـ سكرتير وحدة رعاية الأسرة وتنظيم النسل" فما كادت الجملة تصك سمعه حتى خارت قواه،فاستند إلى الحائط وهو يلتقط أنفاسه..إنه يذكر عندما زار المدينة آخر مرة،مدينة"شبين الكوم"،إنه مرّ بسرادق فخم يضم جمعاً غفيراً من الناس، وسمع خطيباً جهير الصوت يرفع عقيرته،يهز بها السرادق هزا،وهو يُردِّد أقوالاً عظيمة يستجيب لها الجمهور بالتصفيق والهتاف،وحين سأل عن الخطيب أخبروه بأنه سكرتير وحدة رعاية الأسرة وتنظيم النسل.وتراجع "شندويل"إلى مكانه المعهود في الزريبة،وألقى نفسه على الحشية يُمرِّغ وجهه عليها، ويُشبعُها بأسنانه نهشاً وتمزيقاً.وتكفَّلت الأيام بتضميد جراح"شندويل"،فكان مع الأسرة في حفل زواج الابنة الصغرى قلباً وقالبا،وملأ بطنه بأطايب المطاعم، وشنّف سمعه بألحان الموسيقى وأصوات الغناء.

 

وتقضّت أيام .. بل أسابيع .. وخيَّم على جوِّ الدَّار هدوء كثيف، وانتشر صمت قابض، وقل الحديث بين أم فكرية" و"شندويل" حتى أصبح لا يعدو الضروري من الألفاظ، كل منهما يحيا في ملالة وسهوم .. وأعدّ "شندويل" مرقداً لنفسه في الحقل بين شجيرات ظليلة، يتناول طعامه وحيداً، ويمضي الليل ساهماً يرعى النجوم. لقد تزوجت البنات، وكان زواجهن ناجحاً أيما نجاح: "المشرف الزراعي" بمهر مائة جنيه وجنينة برتقال. ووكيل الجمعية التعاونية بسوار مرصّع بالجوهر. وسكرتير وحدة رعاية الأسرة وتنظيم النسل بثلاجاته وغسالاته وأجهزته الإذاعية. شخصيات مرموقة، تتضاءل بجانبها شخصية "شندويل"، حتى لتبدو تافهة مهينة .. حقا إنه فلاح، فلاح مجد نشيط، يستطيع بساعده أن يأتي بالمعجزات في حقل الزراعة الخصيب، ولكن ما قيمة تلك المعجزات أمام تلك الأسماء الضخمة والمراكز الفخمة التي يُعشي ضوؤها العيون؟ .. ومن الملوم؟ "شندويل" أو الأسرة التي كفلته؟ لم يُفكِّر هو لحظة أن يعمل لنفسه .. لم يفكر هو لحظة أن يقتني شيئاً .. عجلة .. أو عنزة .. أو على الأقل دجاجة واحدة .. لم يهمه جمع المال وادخاره قدر ما أهمه أداء واجبه ..

كان يسعى أبداً إلى إرضاء من أحسنوا إليه، لا يتطلع إلى مزيد لقد اعتصر دمه في خدمة من آووه وكفلوه وأخيراً يستبين له فقره، وهوان شأنه فماذا أفاد من طيبته؟ وماذا أجدى عليه إيثاره؟ أيقن "شندويل" الآن أن وجهة نظره في تقييم نفسه بين الأسرة كانت على خطأ من البدء، أو كانت مبالغة فيها,ماذا كان مصير الأسرة لولاه هو؟ لولا ما أسداه إليها من خير، وما بذل من عون؟ كان هو قوام البيت، وراعي الحقل وحامي حمى الأسرة،أليس هو جديراً بأن يأخذ مكانه عالياً بينها؟ حان له أن يغضب، وحق له أن ينصف نفسه، وإن له كرامة عليه أن يُحافظ عليها ما وسعه أن يُحافظ! ووجد نفسه ينهض من فوره،وقد ارتسم على وجهه جد وإصرار،واتخذ سبيله إلى "أم فكرية".كان الصباح صفيا رخيا فتقدّم "شندويل" من "أم فكرية"،وهي في جلسة مريحة أمام طست الغسيل،فما رأته قادما حتى لملمت أوصالها، وأسدلت ثوبها تغطي ما تعرّى من جسدها،ونظرت إلى الشاب تخاطبه:

ـ خير يا شندويل

ـ أو قولي شرا يا ست "أم فكرية". قال ذلك في جهامة ظاهرة، وقد تصلّبت قامته، فغدت كجذع شجرة عتيقة. فنحّت "أم فكرية" الطست قليلا، ومسحت يديها بطرف ردائها، وقالت:

 

ـ ماذا في الأمر يا "شندويل"؟ فأجابها في صوت مجلجل:

ـ لقد اعتزمت الرحيل. فوضعت المرأة يدها على صدرها، وقالت في دهشة:

ـ أي رحيل تقصد يا "شندويل"؟

ـ سأرحل يا ستي .. أرض الله واسعة .. بلاد الله لخلق الله

ـ كيف تفكِّر في أن تتركنا؟

ـ على الرغم مني أفعل ،فصمتت لحظات وهي تتفحّصه، فراعها تجهمه وصلابة ملامحه، وما في صوته الرجولي الأجش من عزم وتصميم ثم قالت:

ـ ألم تعد الحياة تروق لك بيننا؟

ـ لم يعد لي أمل في العيش في هذه الدار رحلت عنها الصبايا ولم أظفر بواحدة منهن.

ـ قسمة ونصيب يا "شندويل".

ـ وقسمتي ونصيبي أن أرحل يا ست "أم فكرية"

ـ أتترك الدار التي فيها نشأت وربيت؟ أتترك خالتك "أم فكرية" وحيدة بلا ساعد ولا مُعين؟

ـ على الرغم مني أفعل سأبرح القرية الساعة ألتمس عيشي في بلد آخر بعيد كل البعد!

ـ هل ساءك زواج البنات إلى هذا الحد؟

ـ ثلاث صبايا كالأقمار،ترفضين أن تُزوِّجيني واحدة منهن والآن خلت الدار إلا مني ومنك لم يعد في البيت سوانا يا خالةأسامعة أنتِ قولي؟

ـ سامعة ..

ـ ألسنة الناس طوال والكلام يتنقّل على الأفواه

 

ـ ما هذه الأفكار الغريبة يا "شندويل"؟ ـ هي الحقيقة التي يجب أن تُقال لقد صرت رجلاً يا خالة رجلاً نبت له شارب محترم رجلاً في طول النخلة وعرض الجميزة وقوة فحل الجاموس ،ألم تريني وأنا في "الزعبوط" الجديد؟ ألم تُلاحظي كيفً أُحسِن لفَّ الشال الأبيض على رأسي فيغدو عمامةً مهيبة تُزري بالرؤوس العارية من أصحاب المراكز الكبيرة؟ فأرسلت المرأة ضحكة لينة ناعمة، وهي تقول:

ـ يخبلك ربنا يا "شندويل"

ـ لم يعد في الدار مكان,"شندويل" الصبي ذهب لحاله،وأخذ مكانه "شندويل" الرجل

ـ أنسيت يا شندويل أني في مقام أمك،وأنك في منزلة ابني؟

ـ يفتح الله يا خالة هذا كلام لا يعتد به أحد وأنا أول من لا يُصدِّقه..لسنا ابنا وأما .. بل نحن رجل وامرأة .. ورماها بنظرة ثاقبة، ما كادت تلتقي بنظرتها حتى اضطرت أن تسبل جفنيها، وتحجب بخمارها شطر وجهها .. وعلاها سهوم

ـ اسمعي يا خالة، وتفهّمي قولي..إنني بصريح العبارة لا أستطيع أن أُعايشك .. شريعة الله لا ترضى بذلك .. أنا مسلم موحّد لله .. لا أُقيم في الدار إلا زوْجاً لك .. فضربت صدرها بيدها تقول:

ـ يا عيب الشوم

ـ لا عيب ولا شوم ..

لقد أحببت بناتك الثلاث واحدة بعد أخرى .. لأنهن يشبهنك .. أحببتهن لأنهن صور منك يا خالة .. ورق صوته، وهو يواصل الكلام، فكان في منطقه كأنه يُغني: نشأت وأنا أراك مثل البدر .. بناتك من نورك أخذن نورهن .. وكنت دائما بدرًا منورا في سماء حياتي طفلا وصبيا، ورجلا .. في كل مرحلة كنت أحس نحوك شعورا يلائم سني .. ولكن في كل مراحل حياتي كان هناك إحساس واحد هو الحب .. الحب الغامر الفياض! وندت من "أم فكرية" شهقة وهي تُردد في صوت لين المكاسر:

ـ الحب .. الحب .. ثم قالت هامسة:

ـ لقد تقدّمت سني يا "شندويل" .. أنا كبيرة بالنسبة لك .. ـ ولكنك في نظري في عمر بناتك .. وصاح بصوت كله إيمان وإخلاص:

ـ والله في عمر بناتك .. بل أحلى وأجمل ..أنت في نظري طبق قشطة .. اعتبريني يا خالة خادما لك .. ومريني تجديني رهن ما تشائين ..

ـ ما عشت أنا لتكون خادمي يا "شندويل". وغضت من بصرها وهي تواصل القول:

"أنت رجل البيت .. سيد الدار .. وأنا خادمتك "يا شندويل" .. واختلج كيانه بهزة عنيفة، وألفى نفسه يهرع إليها، وينكبُّ على يدها يلثمها، والدموع تسح من عينيه سحا
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !