مواضيع اليوم

مائة أديب مصرى ( 80- 100) سناء البسيى

الدكتور صديق

2011-05-28 19:55:56

0

دادي حــرامي


بقلم: سناء البيسى


سحبتني الدادة السيريلانكية عنوة من ذراعي النحيل لتصعد بي الدرجات الرخامية لتزجبي غصبا عني داخل غرفتي و تغلق الباب بالمفتاح في الدور العلوي من قصرنا الجديد.

بعدما تفهمت إشارة طانت ريري لها بأخذي بعيدا عما يدور من أحداث المشهد الدرامي الذي كنت قد تابعت أولياته في الصالون الكبير

وقت أن كان الجميع في هرج ومرج منشغلين عني بما يبديه دادي من توسلات للضباط ــ الذين حضروا مع الصباح لأخذه معهم ــ كي يمنحوه لحظات يغير فيها هدومه و يضع في قدميه الحذاء‏,‏ وكان ساعتها لم يزل يرتدي الروب دي شامبرفوق البيجاما مع المنتوفلي‏..‏

و عندما مزقت أذني صرخة مامي و نشيج جدتي المرتفع وتأوهات طانت ريري شعرت بذروة المأساة فسارعت للنافذة لألحق في اللحظات الأخيرة بمشهد دادي يجرساقيه في ممر الحديقة بين الضباط تجاه سيارة سوداء مرتفعة لا أدري كيف استطاع سائقها الحصول علي تصريح المرور من بوابتنا الالكترونية المحاطة بالحراسة المدججة و الكلاب الشرسة المدربة‏..‏ و كأنما استشعردادي وقوفي هناك خلف النافذة المرتفعة فاستدار برأسه متطلعا ناحيتي‏,‏ لكنه لم يستطع التلويح لي كعادته فقد كانت يداه من عند الرسغين مكبلتين بالأصفاد‏,‏ حتي إنه عجز أن يأخذ معه حقيبة الغيارات و الساندوتشات و المهدئات و النسكافيه و الغلاية الكهربائية التي أعدتها له مامي علي عجل فحملها عنه أحد الجنود حتي زجوا به و بها في باطن السيارة المسلحة التي رجعت إلي الوراء ثم استدارت لتبتعد حتي أصبحت نقطة سوداء في الأفق تثير من خلفها عاصفة من التراب تحمل دادي المتهم بسرقة أموال الشعب‏..‏

من قبلها بأيام ذهبت للمدرسة مع عودة الدراسة بعد التأجيل الطويل تبعا لنصائح الدوائر المحيطة بنا كي أمثل بوجودي في الفصل الدراسي ــ الذي حتما لا يعرف بحكم براءته شيئا عما يدور في الخارج ــ شاهدا علي ثقة دادي البالغة ببراءته إزاء سيل الاتهامات التي ملأت عناوين الصحف و واجهات نشرات الأخبار‏,‏ ولأكون بظهوري في الصورة بمثابة الإجابة المفحمة علي الادعاءات الكاذبة التي ارتفعت مؤكدة هروبه مع أسرته و أمواله بطائرة خاصة لخارج الحدود‏,‏ و تأكيدا جازما علي أنه الصابر علي الشدائد و المحن المقتنع بأن المتهم بريء حتي تثبت إدانته‏,‏ وأن القانون سيد الموقف ــ وليس سيد قراره ــ و أنه المواطن الذي عاش و أعطي و بذل و عرق علي أرض الوطن و سوف يدفن في ثراه‏...‏ وإذا ما كان كل من دادي و مامي قد تواريا خلف أسوار القصرالكبير‏,‏ فقد واجهت وحدي بتكويني الهزيل و سني الصغيرة جحافل الاتهام و شهوة الانتقام و مواكب حب الاستطلاع ممثلة جميعها في مجتمع المدرسة الذي حملت عيون كل تلميذة فيه سيوفا و خناجر و سكنة عسكرية معادية‏,‏ لتشير ناحيتي بحقد قد بلغ مداه و تهمس لجارتها و كأنه التخطيط السري المزمع تجاهي لمسيرة غيرسلمية‏..‏

وتناثرت الشلل هنا و هناك تسدد نظراتها المحمومة لبنت الحرامي التي تجاسرت و جاءت بإثمها لتلوث طهارة المدرسة‏...‏ في الفسحة قررت ألا أنزل للملعب‏,‏ أو أشتري شيئا من الكانتين خاصة و أنني لم أكن أشعربالجوع بل علي العكس بالغثيان مع اصطكاك الأسنان‏,‏ و وقفت علي البسطة بين الأدوار أتطلع من نافذتها للسماء مدعية الانشغال أو انتظار إحداهن‏,‏ ليندفع الطابور جميعه هابطا من خلفي متعمدا مع سبق الإصرار والترصد ضغطي للزجاج و لكزي و كأنها العفوية بمسامير الكيعان‏,‏ و في عودته بعد الجرس اكتسحني الطابور في طريقه و كأنني خواء فتشبثت بالدرابزين كطوق نجاة حتي لاتطؤني الأقدام‏ ..‏

لو ‏..‏ لو امتدت يد و احتضنتني لتخاذلت في أحضانها خجلا و مذلة و انسحاقا‏ ..‏ لو استفزتني يد لأقمت معها عراكا أنشده لأنزف دمائي عن آخرها فلا خير في دماء تجري في عروقي ورثتها غصبا بحكم صلة الدم‏ ..‏ لونادتني إحداهن باسمي لأعطيتها علبة مصوغاتي و جيتاري و أفلامي و ملابسي كلها هدية‏..‏ لو كان الأمر بيدي لجمعت الموبايلات التي تتربص بي في الأركان لالتقاط صورتي و أشعلت فيها النار‏..‏ لو كانت صديقتي لم تتغيب لربما صنعت معها جبهة مقاومة‏,‏ و قمنا بمد خيوط الحوار مع رفيقات الأمس ثائرات اليوم‏,‏ لإقناعهن بأنه لا يؤخذ الأبناء بجريرة الآباء‏,‏ و أنه لو خيرنا بين سكني القصر و خيمة الميدان لاخترنا أن نصبغ وجوهنا بألوان العلم و هتفنا نعم للسلام لا للانقسام‏..‏ و ياريتني بنت عم سيد الجنايني أو عطية السواق أو حتي مس لطفية مدرسة الألعاب علشان أعرف أنام‏..‏ و ربنا يسامحك يا دادي؟‏!!!‏

حضرت المديرة بنفسها للفصل لتصحبني إلي مكتبها فتوجست شرا فليس من عادتها ترك مكتبها لأي كائن ما كان اللهم إلا للسادة مديري المناطق التعليمية فما فوق‏,‏ وما إن دخلنا حتي جلست بجواري فوق الكنبة البعيدة التي أسقطت من فوقها صورة المتنحي و بقي الجدار من تحتها شاغرا في انتظار من يملؤه لمدة أربع سنوات فقط لا غير إذا ما تم الاستماع للأصوات المرتفعة التي عانت طويلا من الثلاثين عاما و أصبح الود ودها قصورها إلي عام واحد فقط‏,‏ علي أن يأتي الجديد بثلاثين ألف توقيع مؤيد من جميع المحافظات قبلي و بحري و سيناوي‏,‏ و ألا يكون قد انشغل في شرخ الشباب علي أرض الغربة بعشق الشقراءالأجنبية فعقد قرانه عليها علي أرض السفارة لتنجب له أبناء جدهم عن أمهم أمريكاني أو استرالي أو مالطي أو من بلاد تركب الأفيال لا الحمير مع أن القانون لا يطبق بأثر رجعي‏!!..‏

ناولتني المديرة البونبوني ومسحت علي شعري‏,‏و ربتت علي وجهي فانسكبت شلالات دموعي المحبوسة فسحبت بحنان من علبة المناديل الورقية سلخة جففت لي بها الدمع الهتون‏,‏ و انتظرتني حتي هدأت تماما لتوجه لي سيل أسئلتها الشغوفة بشرط الإجابة بالتفصيل الممل كي تأخذ المعلومة الصحيحة من بيتها لتصبح بين صواحباتها العليمة ببواطن الأمور و المستخبي‏ ..‏ سألتني و لا النائب العام عن أحوال دادي و أعصابه و تصرفاته وقراءاته و مشاهداته و تليفوناته و ظروفه و جواباته‏,‏ واستفسرت مني حول أطقم مجوهرات مامي و فيما إذا كان بينها تصميمات فرعونية أو فصوص ملكية‏,‏ وحول قصرنا في مايوركا باسبانيا‏,‏ و مزرعة الفريزيان في الريف الهولندي‏,‏ و حبال وصالكم مع أبناء الدائرة‏,‏ و علاقتنا بتوشكي و شرق التفريعة و عمر أفندي‏, ‏و هل صحيح إن خالي الدكتور اشتري شهادته من روما‏,‏ و إن هناك خبير ماساج أجنبيا يدلك مامي ساعة الضحي في أودة الساونا‏,‏ و أن عندنا تحت السرايا ممر سري‏,‏ و إن دادي خلبوص قام بتهريب الفلوس‏,‏ و أن رائحتنا غاز‏,‏ و أن دادي قدم إقرار الذمة المالية بأن دخله من راتبه فوق الحوافز لا يتعدي الألفين و خمسمائة جنيه شهريا فقط لا غير‏,‏ وإذا ما كنا خلاص قد تركنا فيللا مارينا لمبيت السواقين بعد انتقالنا لمصيف هايسندا‏..‏

و إزاء إجاباتي الساذجة التي لا تعي شيئا انتفضت المديرة واقفة لتخطو بعصبية للجلوس علي عرشها خلف المكتب هاتفة‏ :‏ ياللا يا شاطرة علي فصلك‏,‏ هو انتي حتجيبي اللؤم من بره‏,‏ هو كله عندك ما أعرفش ما أفهمش‏..‏ مؤكد إنهم مبرمجينك قبل ما تيجي‏, ‏و طبعا مستحيل أقول لك انت بالذات هاتي لي ولي أمرك‏..‏ غوري من وشي‏..‏انت لسه واقفة‏..‏

عدت إلي أشباح قصرنا أتحرك في وجوم رافعة راية العصيان حول الذهاب للمدرسة بعد الآن‏,‏ و عجبت من أن أحدا لم يسألني عن يومي الدراسي الكئيب‏,‏ و كأنهم علي علم مسبق بكل ما تعرضت له من مهانة و تحرش و أسئلة استفزازية في أدق شئوننا الشخصية‏,‏ و مكث دادي شبه مغيب عن الجميع قابعا بذقنه النابتة أمام التليفزيون لا يغادر مقعده و عيناه معلقتان بمستطيل الشاشة تقفز ما بين الأولي و دريم و الجزيرة و الحرة و العربية و الفرنسية و الـسي‏.‏ إن‏.‏ إن‏,‏ و إذ طلبت منه بقصد إخراجه مما هو فيه أن يدير الريموت علي محطة والت ديزني لنشاهد معا فيلما لنجمة المراهقات هانا مونتانا نهرني بشدة مشيرا إلي أن هناك عشروميت تليفزيون آخر يمكنني مشاهدة فونتانتي بها‏,‏ ونادي علي مامي لتأخذني بعيدا عنه‏,‏ فنادت بدورها علي السيرلانكية لتأخذني بعيدا عنها‏..‏

و من بين هتافات الشاشات علي جميع المحطات الشعب يريد إسقاط النظام كان دادي يتسلل ممتقعا من وقت لآخر ليغلق عليه باب مكتبه لنسمع أزيز ماكينة طحن الأوراق التي يجمعها بنفسه شرائط في أكياس يدخل بها حمام جناحه الخاص لتتسرب من خلف الأبواب دفقات أنفاس لها رائحة الشياط‏..‏

و كله كوم ومنظره المسبهل بعد قراءاته لرسائل الفيس بوك الهجومية في مكتبه التي خرج إلينا من إحدي غاراتها ليقول لأونكل‏:‏ الواحد من كتر اللخبطة اللي حصلت له بقيت خلاص حاسس أني إنسان ليبرالي ديمقراطي تكنوقراطي راديكالي فلولي مندس ثوري ائتلافي إخوانجي متواطئ عاطل بائد مسلم مسيحي سني أرثوذكسي سلفي ماسوني بلطجي شعبي ماركسي ناصري ساداتي وطني فاسد حاقد ‏..‏ حد يديني مفك عادة و محبس حنفية و قزازة بيرة سخنة‏...‏ و شعرنا جميعا بخطورة الحالة المتفاقمة و حاجة دادي العاجلة لطبيب نفساني‏,‏ لكن مامي ارتأت أنه من المستحيل اللجوء الآن للدكتور أحمد عكاشة الوحيد القادرعلي مداواته و ذلك بعدما ظهر من خلال آرائه في جميع وسائل الإعلام عدم تعاطفه من أصله مع المتنحي و أعوانه‏..‏

و من هنا تركنا دادي يكرر مرارا و تكرارا مراحل المشكلة التي يعانيها بقوله المتعثر‏:‏ مشكلتي بدأت بعدما صحيت من النوم يوم السبت ليلة التلات بعد صلاة جمعة الصمود يعني تقريبا عالساعة تسعة الفجر قمت من النوم اتعشيت و شربت فنجان عصير ليمون و حبيت أشغل التليفزيون لقيته مش بيتنفس مع أني لسه مغير مساحات العربية و كويت الهدوم و حطيتهم في الفرن و قبل ما أصحي قلت يمكن نسيت أشحنه فريون قلت خلاص قمت اتصلت بالحلاق و قلت له التكييف بايظ و الديمقراطية لها أنياب و الترزي ساب القوانين و تاجر في البودرة‏,‏ و الدبة وقعت في البير و صاحبها فاسد و كبير‏ , ‏و عن اذنكم رايح أفتح التلاجة علشان جرس الباب بيرن و الثعلب السحلاوي في ذيله سبع لفات و كانت بدايتها سلمية‏!‏

ولا أدري فيما إذا كان دادي سيرتدي في صور الجرائد البدلة الرمادي التي استأذن ليرتديها في ذلك الصباح التعس‏,‏ و الكرافتة الزرقاء التي لم يجد وقتا لعقدها‏,‏ أم أنه سيكتفي مثل غيره بارتداء التريننج الأبيض‏,‏ مع أنه في آخر رحلة لنا في باريس غضب من مامي لأنها اشترت له تريننج أبيض ماركة لاكوست‏,‏ بل ألقي به بطول يده وسط جناح الأوتيل صارخا فيها‏:‏ انت فاكراني يا ست هانم مدرب كورة أو تمرجي أو نزيل قراميدان؟‏!‏
فتسللت يومها من خلفها مستفسرة عن معني قراميدان فنهرتني مشيحة بوجهها‏ :‏ روحي يا اختي اسألي أبوكي جته نازلة تنزله و قراميدان يزلزله‏..‏ و كأنما كانت أبواب السماء ساعتها مفتوحة أمام دعوتها فلم يمض علي عودتنا أكثر من شهر حتي قامت قيامة ثورة الشباب التي تهدد دادي مع تداعياتها بارتداء التريننج الأبيض الذي لا تتكشف من وراء القضبان عما إذا كانت ماركته لاكوست و لا أي كلام‏,‏ هذا مع ملاحظة أن جميع أعضاء الفريق السابق له الجالس علي دكة الاحتياطي في انتظار إشارة التسخين للنزول إلي الملعب لملاقاة الجماهير المحتشدة جميعهم يرتدي التريننج الأبيض‏,‏ وإن بدا مزموما حول محيط كرش البعض‏,‏ ولدي البعض الآخر لا تغطي رجل البنطلون فيه دوران الكواحل‏!!‏

ليس من السهل هذه الأيام إقناعي بالنوم ‏..‏ أنام بعين و أصحو بأخري و أعلن عجزي عن سماع المزيد حول دادي‏,‏ و ليس أمامي سوي الانتظار و علي دادي أيضا الانتظار حتي لو جاء الحكم مؤبدا‏,‏ أن ينتظر لحظة الإفراج‏,‏ و كل ما يفعله بين ساعة دخوله سجينا و ساعة خروجه طليقا أن ينتظر‏,‏ ينتظر الليل إذا جاء النهار‏,‏ و ينتظر الغروب حتي تشرق الشمس‏,‏ انتظار يتكفل الزمن بتغيير طعمه و لونه‏,‏ حتي ليؤديه الإنسان بلا ملل‏,‏ وإنما باستسلام تام للانتظار‏ , ‏و خضوع مطلق له‏..‏

أتسلل هاربة من كل شيء إلي السطح المظلم‏,‏ فأشعربجثة الليل ثقيلة فوق أكتافي‏,‏ و جثة القمر تجثم فوق صدري و كأن قلبي يبكي‏..‏ كل صغيرة و كبيرة من حولي تنتحب في أذني ‏..‏ دولاب دادي المزدحم يبكي‏..‏ تبكي ساعته الماسية‏..‏ تبكي فرشاة أسنانه‏ ..‏ تبكي اللوحات و المرايا و أجهزة التكييف و أصابع البيانو ‏..‏ تبكي صورة زفافه التي يقف فيها نقيا رشيقا أنيقا واعدا بجوار أمي‏ ..‏ تبكي شهادته التي نالها عن جدارة فيشرخ الشباب‏..‏ يبكي دفتر مذكرات غاب عن عينيه طويلا كتب في افتتاحيته حديث رسول الله صلي الله عليه و سلم‏:‏ إياكم و أبواب السلطان و قول ابن مسعود يدخل الرجل علي السلطان و معه دينه‏,‏ فيخرج و ما معه دينه فسئل كيف ذاك ياأبا عبدالرحمن؟ فأجاب‏:‏ يرضيه بما يسخط الله فيه و عن علي بن أبي طالب قوله‏:‏ الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا و يتبعوا السلطان‏, ‏فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم ..‏ و لا أمان للدهر إن صفا و لا أمان للسلطان و إن قرب منك‏..‏ أبكي لأن دادي نسي دفتره و تبع السلطان‏.‏

من بعد فيللا الكومباوند في القطامية التي أهداها دادي لمامي ليصالحها بها بعدما وصلت إليها أخبار مؤكدة عن ارتباطه العرفي بالمطربة اللبنانية الشقراء أثناء سفرها لأمريكا لتضعني هناك لضمان حصولي علي الجنسية التي يشق بها أرض المطارات كما السكين في الزبد‏,‏ و أمام إصرارها علي طلب الطلاق لجأ دادي للوسطاء ذوي النفوذ الذين حكموا بطرد المطربة خارج البلاد بتلفيق تهمة أمنية لها‏,‏ لتظل مامي بعدها متشائمة من الفيللا و من محيط جيران الكومباوند الحاسدين و المتابعين لها في الرايحة و الجاية‏,‏ و من هنا انتقلنا للقصر الجديد علي تل عالي ليشرف بموقعه الفريد قرب السماء علي الناس اللي تحت‏..‏ يقودني ليل الخطي لأجنحة المطابخ الصامتة التي كانت في ماضيها القريب خلية نحل و استعدادات و تجهيزات و مهام نحر و سلخ و حشو و رص و صواني و زجاجات و كاسات و فوط ملفوفة بالبخار و ولائم فاخرة كل كرسي فيها أمامه بطاقة الضيف‏,‏ حيث يحرص بروتوكول الجلوس علي تناسق الجوار بحجم المساهمة في آليات السوق‏,‏ فصاحب القصر ــ دادي ــ إلي جانب أنه معالي رجل الأعمال الوزير نجم اقتصادي كبير‏,‏ و مامي هي الأخري عضوة ذات فعالية داخل السلك نفسه بعد ابتداعها مشروعاتها الخاصة في بيع الأراضي و الفيللات التي تعتمد فيها علي دوائر اقتصادية نسائية صاحباتها لهن نشاطات أخري في عملية الاستيراد والتصدير‏..‏ في كل شيء‏..‏ من نمر العربيات‏,‏ لشواحن الموبايلات‏,‏ لشنابر النظارات‏,‏ لملاءات المستشفيات‏,‏ لطراطير طهاة اللوكاندات‏,‏ إلي أكثر البضائع ربحا و هو قطاع الإكسسوارات‏,‏ حيث تنزع الماركات الأجنبية لتثبيت البطاقة الوطنية صنع في مصر مع الاحتفاظ بحق التفاهم الجانبي في مسألة السعر الحقيقي بالآلاف الذي تستوعبه جيدا زبونة المحل عندما تأتي علي وجه السرعة بمجرد الاستدعاء لتلحق قبل مشيرة وعنايات بنزع وش اللبن‏,‏ لتحمل في يدها وحدها في ربوع مصر جميعها الشنطة الوحيدة الفريدة القادمة من فالنتينو‏,‏ و تهز ساقها وحدها بالحذاء السواريه الفرينيه القادم من باريس علي متن الطائرة الخاصة بماركة كارتييه‏..‏

في ساعات متأخرة من الليل بعد الهدوء الظاهري ــ قبل حظر التجوال ــ يبدأ طنين الحضور المشبع بأبهة عربات منسابة كأنها راقصات البولشوي تفتح وتغلق أبوابها الثقيلة بخبطة لها طابع الكتمة فتدرك عن بعد أن الشوفير خلاص قد قام بواجب الالتفاف ليساعد المدام و فستانها علي الانزلاق يتبعها البيه المحفلط في شرف المغادرة الميمونة للقصر المنيف‏,‏ و رغم شوق التلاقي تطير باقات القبل في الهواء حتي لا تفسد الملامسة طبقات الماكياج و لمعة الروج في اكتناز الشفاه المتضخمة إغراء بفعل حقن البوتكس‏..‏

و في الردهة الرخام المزججة بالمرايا الهندسية تحت سقف سرة الكريستال يستقبل دادي ضيفات القصراللاتي يصعرن له خدودهن فيوقع بقبلته المداهنة المداعبة لتنزلق تجاه طريق الشفاه‏..‏

و وراء كل واحدة يستدير ليلفها في حضنه لينضو عنها فراؤها فيتبدى عريها واضحا بسلسلة فقرية تصل للقطنية و من الأمام تبسط الخريطة ليظهر جليا شارع بين النهدين الموصل لسرة الميدان‏,‏ و علي بعد خطوة في السهرات الباردة يقف عم عبده السفرجي بحزامه الناري و قفطانه اللامع يتلقي قطع الفراء الثمين بموديلات الإيتول الفيزون و الترواكار المنك و الماكسي الاستراكان لتستلقي جميعها في غرفة جانبية تغدو في دقائق مسرحا لحيوانات الغاب و جبال الثلوج‏..‏ المدعوون الرجال بدورهم يقومون لحظة وصولهم بتقديم فروض و لائهم لمامي المضيفة‏,‏ و لا أدري بماذا يهمس لها كل منهم في سلامه الذي يصل لموقع الآذان لكي تموء منتشية بصليل و اهتزازات و ترديدات لزوم حفل العشاء‏:‏ ميل مرسيه يا محسن بك‏..‏ يخرب عقلك يا شوكت بيه‏..‏ طول عمرك مجامل يا باشا‏..‏ تسلم لي عيونك يا برهومة‏..‏ برضه جايب لي مراتك يامدحت؟‏!‏ واحشاني موت يا روحي‏...‏ سلم علي جوزي و قول له بقين ينفخوه و يخلوه طاووس نافش ريشه‏..‏ جبت معاك الشيك‏..‏ إذا ما أنا انسحبت من غيرما أحد يحس بي ادخل من بعدي التراس‏..‏ عليك بالدهل اللي وراك‏..‏ أهلا يامعالي الوزير‏..‏ شرفت يا سيادة السفير‏..‏ منور يا كاتبنا الكبير‏..‏البيه المستشار عندنا يا مرحبا يا مرحبا‏..‏ هاللو يا روحي تسلم لي عيونك‏..‏ هلت علينا شمس الوزارة و قمر مارينا و نجم اللسان و فارس مدينتي و ملك الحديد‏..‏ لاعبني و ألاعبك يا زعيم‏..‏ يا تاخدني يا أرجعك‏..‏ فيكم لأخفيكم‏...‏ سقعها و بعها أصلها حرانة‏..‏ تفوت علي الصحراء تخضر‏..‏ فينا و لا رحت بعيد‏..‏ البلد دي أحسن من غيرها‏..‏ نقسم البلد نصين‏..‏ أنا ضابطهولك ع الموجة‏..‏ إشارتك خضرة يا محمد بك‏..‏ ماعنديش خطوط حمراء‏..‏يا جامد‏..‏ اديني سكة وخدلك ألف فدان‏!..‏ دي كلها رمل‏!..‏ ميل علي صاحبك يشق لك فيها ترعة‏..‏ يا حبيبي شخشخ جيبك‏..‏ مكرم عبيد كله من غير رخص‏..‏ اعتبرني يا سيدي عشوائية‏..‏

دادي وزير صورته في عيوني مثال للتوتر‏,‏ يجلس بيننا بلا استرخاء علي طراطيف أصابعه يربت علي رقبته و يشدشعرات من حاجبه و شنبه و أنفه و يمسح جبهته رايح جاي‏,‏ و يكشر بلا داع و يبتسم بلا وعي‏,‏ و يبصق شيئا مبهما علي طرف لسانه ليس موجودا من الأصل‏,‏ ويداعب تفاحة آدم و كأنه يخطط لبترها‏,‏ و يضم في أحضانه أكبر منافس له و كأنه يريد ابتلاعه‏,‏ و يقسم أمامه و أمامنا أنه في منزلة الأخ الحبيب‏..‏ يتحرك و في خلفيته حقيبة الأوراق‏,‏ و يبلغنا موعد حضوره للغداء أو العشاء أو المبيت في الخارج عن طريق السكرتيرة‏,‏ و يخرج وسط الليل عنده اجتماع‏,‏ و يسافر مع الفجر للوقوف في طابور تشريفة الاستقبال‏,‏ و يضع الموبايل في جيب البدلة و الروب و البيجامة و علي المائدة‏,‏ و في الحمام يأخذ معه قوائم حسابات البنوك و القروض و المنح و الهبات و التشهيلات و التسهيلات و المخصصات لمراجعتها‏,‏ و يدون أرقاما يتذكرها فجأة فيكتبها علي مفرش السفرة أو علي غطاء علبة الدواء‏..‏

و كل إنسان عنده له ثمن‏..‏ تمسحت به مرة فشعر بوجودي فأجلسني علي ركبتيه‏,‏ و انشغل عني في حديث تليفوني أنهاه مع الطرف الآخر بدفقة سرور بالغ قائلا لي إن وشي حلو عليه‏,‏ وإني أساوي عنده في هذه اللحظة عشرين مليار و أكثر‏,‏ فسألته يعني كام عشرة جنيه؟‏!‏ فعاد لاحتضاني قائلا‏:‏ ماتعديش‏..‏ اللي يعد يتعب في البلد دي‏!!‏

من بعد ما أخذوا دادي مني في ذلك الصباح حضر للقصر ناس فلاحون علي وجوههم لهفة و في عيونهم إطلالة دموع يسألون عن آخر الأخبار و أتعاب المحامين‏..‏و رقابتنا سدادة‏..‏ نساء بلا طلاء بجلاليب سوداء رائحتهن من الأرياف تهت في أحضانهن‏..‏ ابن عمتك يا ضنايا و بنت خال والدك‏..‏ تعالي يا نضري سلمي يابنت الغالي علي خالتك أم سماعين‏..‏ بنتها شقيقة أبوك في الرضاعة‏..‏ و الواد الصغير ده يبقي أبوك في مقام جده‏..‏ ربنا يفك ضيقته و يظهر براءته و ما ضاقت إلا ما فرجت وأقرب من فرجه ما فيش‏....‏

قرأت اسم دادي تحت صورته في الصفحة الأولي‏..‏ دادي حرامي‏..‏ مامي نوت تعمل عمرة و تغطي راسها‏..‏مامي قالت لأونكل حكيم ‏:‏ أرجوك كفاية وفود من البلد البنت مش ناقصة اكتئاب و لا حتي أنا‏,‏ و إن كان و لابد سافر لهم بنفسك يا حكيم و فرق عليهم فلوس صدقة عنا كلنا‏..‏ وكله بثوابه‏..‏ و المهم قبل ده و ده لقيتو له محامي؟‏!!‏
 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !