مفتاح واحد فقط
٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥بقلم محمد صلاح العزب
لبيتنا بوابة حديدية كبيرة سوداء ، معلق بها من أعلى جنزير صدئ غليظ ، في طرفه قفل نحاسي ضخم جداً .
أبي يقول أنه يكره هذا القفل لأنه لا يمكن كسره . " هل يريد ابى ذلك حقا ؟ ". لو وضع جدي يده على كتفك بحنان ، مكلما إياك بصوت ودود لضربتك الزلازل من داخلك .
كلنا نخافه فربما يزعق في مرة فينهار البيت على رءوسنا . البيت يتكون من طابقين ، في الأرضي يسكن جدي بمفرده ، في العلوي نقطن نحن .
أبى يضرب من لا يمشى على الأرض هونا ، فربما ضايقت الخطوات الثقيلة الجد النائم ولا أحد يعلم ماذا يمكن أن يحدث عندها .
مفتاح واحد فقط لبوابة البيت يعلقه جدي بحبل رفيع في رقبته . تلح أمي دائما على أبى في أن يطلب من نسخة من المفتاح ، ولا تكف إلا عندما يقول لها : " لو جرؤت اطلبيه أنت " .
في المرات القليلة التي سرت فيها معه يقبض جدي على يدي المرتعشة بقوة كلما مررنا على قوم يده ، أجدهم ينتفضون مهرولين لتحيته ، أنكمش داخل نفسي .
مباشرة بعد صلاة العشاء ينام وقد أغلق البوابة .
يفاخر بان لصا لم يقرب البيت أبدا حتى قبل تركيب البوابة . " حتى اللصوص يخافونه ؟ " .
كأنما يقرأ رأسي يردف مضيقا إحدى عينيه ، ضاغطا على الحروف . أنه برغم ذلك فالبوابة تعنى الكثير من الأشياء التي لم يذكر أيا منها , ولم أجرؤ – بالطبع – على سؤاله عنها .
قبل الجميع يستيقظ ، فأنت تصحو في أي وقت وتنزل لتجده قد فتح البوابة حكايات رهيبة يرويها أبى عنه , أمام المرآة أتساءل عن سر الشعيرات البيضاء في رأسي . كم تمنيت لو أستطيع التأخر بالخارج كبقية أصدقائي .. أبى لا يمانع لكنها البوابة .
مهرولا يأتي أبى من المسجد بعد العشاء حتى يلحق بجدي قبل أن ينام، و إلا اضطر للبقاء في الشارع حتى الصباح كما يردد دائما . باختناق تبكى أمي ، تجاوزنا منتصف الليل ، أبى يدعى النوم ، أيقظته حينما وضع ظهر يده على جبهة أخي الأصغر المشتعلة كاد يبكى . في توتر لحظناه جميعا يذرع الشقة من أولها لآخرها ، أخى الأوسط مع أمي يتوسلان له ، كأنما يحاول زحزحة جبل يصرخ :
" لا أقدر .. لا أستطيع ايقاظه .. لا أستطيع " .
كمن أخذ قرارا أو عثر على شيء وقف فجأة :
" بالضبط .. ندلى السلم الخشبي من الخارج وننزل عليه " .
وأسرع بإحضار السلم الذي لم يصل إلى نصف المسافة .
أكثر من مرض أخى .. من بكاء أمي آلمنى موقف أبى . في حزم قلت لهم : " سأنزل واطلب منه المفتاح " خرجت من باب شقتنا .. الجو بارد .. مظلم .. يحمل رائحة الرهبة .. نزلت درجتين :
" هل أعود ؟ .. سأنتظر حتى الصباح .. لن يحدث شيء لو انتظرنا " يلسعني وجه أخي المشتعل ، أنفض رأسي بقوة ، لم أشعر إلا وقد نزلت الدرج كله .
باب شقة جدي مغلق ، أمامه وقفت طويلا ، من خلال بئر السلم أراهم ينظرون في صمت ، أمي باكية لا تزال ، أطرافي باردة :
" كيف سأواجه ؟ .. ماذا لو .. ؟ .. لا أستطيع .. سأرجع " .
دمعة من عين أمي سقطت داخل عيني المتطلعة لأعلى . مددت يدي .. بخوف أطرق الباب ، لا رد ، أطرق بتردد ، الباب كما هو ، بقوة اطرق . بحسم اطرق .. بقوة أطرق .. بتمرد اطرق . نسيت مرض أخي .. بكاء أمي .. البوابة .. جدي ، فقط أطرق فأشعر أنني أكبر .. أتمدد عملاقا .. ماردا .
أحالت طرقاتي الليل الساكن نهارا .
من أعلى بدأوا يشجعونني .. نزلوا عدة درجات .. درجات أخر .. كلهم إلى جواري .. كلنا نطرق .. جدي لا يفتح .. لا يفتح .
مشيت نحو البوابة ، الجنزير معلق في جانب واحد منها . " هل انكمش هذا القفل " . قالها أبي .
مددت يدي نحو البوابة ، أجذبها ، مطيعة .. صاغرة .. مسرعة انفتحت . تعجبنا .. ذهلنا .. مشدوهين تبادلنا النظرات .
في ريبة تساءل أخي : " هل نسيها جدي ؟ .. أم كانت مفتوحة دوما ؟ "
«سيدي براني» لمحمد صلاح العزب
٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٠، إصدار جديد ل: محمد صلاح العزب
صدرت مؤخراً عن دار الشروق بالقاهرة رواية «سيدي براني» للكاتب محمد صلاح العزب.
الرواية تدور فى مدينة «سيدى برانى» على الحدود بين مصر وليبيا، فى إطار أقرب للواقعية السحرية التى تستدعى التراث الصوفى والحكى الشعبى، من خلال شخصيات تحيا لكي تحكي حياتها لا لتعيشها، فالجد الذي يعيش ١٣ حياة مختلفة عبر أزمنة وأماكن مختلفة يحكي حكايته لمريده سمعان الذي يحكي بدوره الحكايات للحفيد الذي لا يشهد إلا طرفا من حياة جده الأخيرة، حتى يحمل الحفيد كل الحكايات يقدمها قربانا لحياته الجديدة حتى تقبله، معظم الأزمنة في الرواية متخيلة، بينما تتنوع الأماكن بين القاهرة وباريس وسيدى برانى.
تخلط الرواية بين الواقعى والمتخيل، وترصد الحياة الأخيرة للجد بتركيز شديد لتقدم رؤية عامة للقرن العشرين من بدايته وحتى نهايته من خلال الحياة الأخيرة للجد. يقول العزب: بدأت كتابة هذه الرواية منذ عام ٢٠٠٣، وخلال هذه الفترة كتبت ونشرت مجموعة قصصية «لونه أزرق بطريقة محزنة» وثلاث روايات «سرداب طويل يجبرك سقفه على الانحناء»، «سرير الرجل الإيطالى»، «وقوف متكرر»، إلا أننى كنت أعود دائما لهذه الرواية وكان اسمها فى البداية «صلاة العزلة» وظللت أعمل عليها وأطور فيها إلى أن خرجت بصورتها النهائية، وبذلت فيها مجهودا أكبر مما بذلته فى الروايات الأخرى، فمثلا حجمها ٣ أضعاف رواياتى السابقة، كما اهتممت بالبناء اللغوى والدرامى على السواء وطورته أكثر من مرة حتى يمكنني استيعاب الفترة الزمنية الممتدة والأماكن المختلفة للرواية.
محمد صلاح العزب روائي من مواليد القاهرة عام 1981. صدرت له مجموعة قصصية، وثلاث روايات حقّقت صدى واسعًا، ودفعت بكاتبها إلى الحصول على عدد من الجوائز أهمها: جائزة سعاد الصباح في الرواية (الكويت،2002)، وجائزة المجلس الأعلى للثقافة (مصر، 1999، 2004)، والمشاركة في مهرجان بيروت 39 (لبنان، 2010).
فصل من رواية “وقوف متكرر“
١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦بقلم محمد صلاح العزب
مدينة نصر
1
كان اللقاء الأول لراندا وياسمين هكذا:
أمام كشري شيخ البلد في شارع عباس العقاد تقف ياسمين تحت الرصيف، في حين تقف راندا على حافة الرصيف بعدها بثلاث سيارات.
تعتمد راندا بشكل أكبر على فراسة الزبون وخبرته، فهي لا تبدو مميزة على الإطلاق، بمظهرها الجامعي العادي، والكشكول السلك الذي تريحه على صدرها، مما يجعل كثيرا من الزبائن لا يلتفتون إليها، يحقق هذا لها نوعا من الأمن من أمناء مباحث الآداب الذين يجولون بملابس ملكية بشكل مكثف في هذه المنطقة، كما يتيح لها فرصة اختيار الزبون المقبول شكليا لمواجهة حالة التقزز التي وجدتها في أول مرة مع معلم الجزارة ذي الخمسين عاما في سيارته اللادا القديمة، والذي ركبت معه بعد أن ظل يطاردها بالسيارة، ويقول لها:
((اقعدي معايا نص ساعة وخدي اللي انتي عايزاه)).
كان مرتخيا جدا، وصارحها بأنه يصبغ عانته.
أما ياسمين فتعتمد على الشكل السبعيني لبنت الليل، مع بعض التعديلات الطفيفة كنوع من مواكبة العصر: الميكب الأوفر، واللبانة، والوقفة المتمايلة، والتلفت المستمر، والملابس الضيقة المكشوفة، وحقيبة اليد الكبيرة التي يفهم بحكم المنظر العام ما تحتويه.
هي لا تقلق كثيرا من مسألة أمناء الآداب هذه، فهي تعرف معظم ضباط وأمناء وعساكر أقسام شرطة مدينة نصر أول وثان، ومصر الجديدة، والنزهة بحكم دائرة عملها، وتقدم لهم باستمرار رشاوى جنسية، أو مادية، أو تقوم بدور الوسيط في مصالح كبري بين الضباط وبعض زبائنها المهمين.
كنتما في جولة اصطياد، وحينما لمحت ياسمين بشكلها المميز قلت لمنعم:
((تمام أوي.. أقف)).
وأشرت لها بيدك فلمحتك، وتظاهرتْ بأنها لم تلاحظ شيئا، وبعد حوالي دقيقتين نظرتْ في الساعة، وتبرمتْ كمن كانت تنتظر شخصا وتأخر عليها، ثم بدأتْ في التحرك نحوكما بهدوء.
جاءت وقفتكما مواجهة تماما لراندا، فظنت أنكما وقفتما من أجلها، وفي نفس اللحظة التي فتحت فيها راندا الباب الأيمن، أتت ياسمين من الخارج كنوع من التمويه وفتحت الباب الأيسر، أغلقت ياسمين بابها بسرعة وهي تقول:
((اطلع على طول)).
في آخر عباس العقاد عند إنبي نزلت أنت وياسمين، فركبت هي في الكرسي الأمامي إلى جوار منعم، وركبت أنت في الخلف إلى جوار راندا، بعد تبديل الأماكن، تحرك منعم بالسيارة، وقال لياسمين التي بدت أكثر خبرة:
((بتاخدوا كام؟)).
نظرت بترفع لراندا وقالت:
((هو إيه اللي بتاخدوا.. إيه دي.. أنا ما اعرفهاش)).
تبادلت النظرات مع منعم وضحكتما، قال:
((الفقي لما يسعد)).
بهدوء قالت راندا:
((أنا عاوزة تلاتين جنيه)).
بدا مطلبا بسيطا ومتواضعا، فهززت لها رأسك، وسألتها:
((انتي اسمك إيه؟)).
((راندا)).
ولمحت الصليب الأخضر الصغير في معصم يدها اليمني، لكنك تظاهرت بأنك لم تره حتى لا تفسد الليلة.
قال منعم لياسمين:
((وانتي زيها)).
فشخرت وهي تسحب سيارة LM من علبة منعم:
((زيها إيه العيلة دي. دا أنا مفتوحة)).
حاولت أن تضع يدك على راندا، فالتفتت ياسمين، وقالت لها:
((شيلي إيده يا عبيطة.. الفلوس أول حاجة)).
قالت راندا:
((ما أنا عارفة)).
فشعرت أنها بريئة، وأنها أتت إلى هنا بطريق الخطأ.
أعطيتها الثلاثين جنيها، ولم تسكت ياسمين التي ظلت تشخر وتسب لشغـل العربيات ((اللي ماعدش جايب همه)) إلا بعد أن أعطاها منعم خمسين جنيها.
سألها منعم عن اسمها، فقالت:
((ياسمين)).
وسألتك راندا:
((معاك كلينكس؟)).
أخرجتَ لها كيس مناديل ميني فلورا، فهزت رأسها رافضة، وارتفعتْ قليلا عن الكرسي، وأخرجتْ من جيب بنطلونها الخلفي كيس مناديل فاين، قالت:
((مش بحب الفلورا عشان بيفرول)).
كان منعم قد وصل إلى الحي العاشر، وخرج على طريق النادي الأهلي، ركن في شارع جانبي مظلم، أغلق أنوار السيارة وتركها دائرة تحسبا لأي موقف، وأغلق كل واحد منكم الزجاج الذي بجواره والباب بالموسوجر.
وفي وسط اندماجكم رن فجأة موبايل بنغمة ((ما ترحش بعيد يا حبيبي)) بولـيفونيك، فأخرجت ياسمين الموبايل من جيبها، وقالت باهتمام:
((ازيك يا قمر.. لأ هو انا اقدر)).
حاول منعم أن يتكلم، فوضعت يدها على فمه بقوة، ولم تنزلها، أكملت:
((نص ساعة وتعالى خدني من قدام السندباد، واحتمال أجيب لكم معايا حاجة حلوة، كانت صامتة تسمع، ولا ترفع يدها من على فم منعم، فشعرت بأنها حركة مهينة ومن واحدة كهذه، وقلت في نفسك إنك لو كنت مكانه لصفعتها على وجهها، قالت:
((ماشي يا جميل.. ماشي.. سلام)).
وأغلقت.
حاول منعم أن يقبلها لكنها دفعته بعنف:
((مش بحب البوس)).
فقلتَ لراندا:
((ما تشوفي صاحبتك هتبوظ لنا الليلة)).
قالت ياسمين، ودارت برأسها، ولم ترفع عينها عن بنطلونك المفتوح:
((ريحة بقه وحشة قوي.. عاملة زي ريحة الشراب)).
فتخلى منعم عن مسألة التقبيل، وأعدت أنت رأس راندا إلى أسفل مرة أخرى.
فجأة ضحكت ياسمين ضحكة حقيقة عالية ورقيعة، وجذبت راندا من شعرها:
((إلحقي عامل إزاي.. ده رفيع وأبيض.. عامل زي السوجارة)).
دفعت راندا رأسها بين الكرسيين الأماميين لتنظر، ضحكت نصف ضحكة وهزت رأسها لياسمين.
نزلت كل منهما مرة أخرى إلى صاحبها وارتفع صوت أذان العشاء من مكبر صوت قوي لجامع قريب، فرفعت ياسمين رأسها بسرعة، وأغلقت ملابسها، قال منعم:
((إيه؟)).
قالت:
((استنى لما يخلص)).
بعد أن عادت بقليل ضحكت ضحكتها الرقيعة مرة أخرى، قالت:
((إلحقي جابهم بسرعة ازاي)).
فقال منعم مبهوتا يدافع عن نفسه:
((دا أنا جابيهم بمزاجي)).
فضحكت وقالت:
((ما كلهم بيقولوا كده)).
نزلت راندا أخرى على بنطلونك المفتوح، ومر وقت طويل، وهي بين الحين والآخر تقول لك:
((قربت)).
فترد عليها:
((لسه)).
تركت ياسمين منعم نهائيا التفت بجسدها تتابع الموقف عندك، وتقدم توجيهات عملية لراندا التي ملت في النهاية، وقالت لياسمين:
((أنا تعبت.. بقالي ساعة طالعة نازلة وما فيش فايدة)).
جذبت ياسمين رأسها ووشوشتها في أذنها، فاومأت لها راندا بالفهم، وبعد قليل، لاحظت أن راندا تقرب المنديل من فمها وهي تطلع وتنزل، تبلله بلعابها، ثم قامت فجأة وقالت:
((أخيرا.. خلاص)).
ففهمت أنت ما وشوشتها به ياسمين، وقلت:
((هو إيه اللي خلاص؟)).
فرفعتْ المنديل المبلل بلعابها أمام وجهك:
((أهم.. أمال إيه ده؟)).
لم تهتم كثيرا، فأنت تعرف أنك تتأخر، وأن البنت تعبت معك، أغلقت بنطلونك، وحاولت أن تقبلها في خدها، فامتنعت وقالت:
((كده خلاص)).
عدلتْ ملابسها، وأخرجت مرآة صغيرة، وإصبع روج، وضعت منه بشكل خفيف، وسوت شعرها بيدها، وانزوت في الكرسي واضعة يدها اليمنى على الشباك الأيسر. قالت ياسمين لمنعم الذي بدأ في التحرك بالسيارة:
((ودينا عند السندباد)).
وقالت لراندا:
((ما تيجي معايا المشوار ده.... هي ساعة بالظـبط وهديكي خمسـين جنيه)).
لم ترد عليها راندا، ولم تعترض، لاحظت أنها مترددة وخائفة.
حاولت أن تكلمها فأبدت تمنعا كما لو كنتما تتعارفان للمرة الأولى على كوبري قصر النيل.
قالت إنها تدرس في جامعة حلوان، ولم تحدد الكلية، قالت إن أباها يعمل محاميا، وإنه أراد أن يغصبها أن تدخل كلية الحقوق لكنها رفضت، قالت إنها تمارس ذلك كهواية:
((يعني بشتري لبس وميكب وبدفع فاتورة الموبايل.. وكمان ساعات مش باخد فلوس)).
دخل منعم البنزينة، فنامت على الكرسي؛ حتى تخفي وجهها.
مددت يدك وفتحت غلاف الكشكول الذي وضعتْه بينكما حتى لا تقترب منها، فوجدت مكتوبا:
مارينا عزيز كامل.
الفرقة الثالثة.
كلية الحقوق.
جامعة عين شمس.
نزلتا عند السندباد، وأمسكتها ياسمين في يدها وهما يعبران الطريق السريع، ونزلت أنت لتجلس في الكرسي الأمامي إلى جوار منعم.
بعد ذلك سترى راندا وياسمين معا أكثر من مرة في عباس العقاد ومكرم عبيد، دون أن تراك إحداهما، سترى راندا قد تخلت عن شكلها البسيط، وبدأت تميل إلى أن تشبه ياسمين في طريقة اللبس والميكب، ومرة وأنت مع هند بنت خالك في الملحق التجاري لهيلتون رمسيس، ستكون صاعدا أنت وهند أمامك على السلم الكهربائي، وتراهما نازلتين في مواجهتكما ومعهما ثلاثة شبان خليجيين، ستراك راندا وتبدو كأنها لا تعرفك.
طوال الطريق الطويل المحاذي لسور المطار لم ينطق أحدكما بكلمة، فكان صوت السيارة عاليا وصاخبا، عند مطلع كوبري الهايكستب نزلت السيارة في مطب فاهتزت بشدة، قال منعم:
((والله العظيم أنا جايبهم بمزاجي)).
هززت له رأسك موافقا ومتواطئا، وزاد هو من سرعة السيارة حتى تفترقا بأسرع وقت ممكن.
ورحل نجيب محفوظ .. الطفل الذي صار مطيعًا
١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦بقلم محمد صلاح العزب
"في مرحلة حاسمة من العمر
عندما تسنم بي الحب ذروة الحيرة والشوق
همس في أذني صوت الفجر:
هنيئا لك فقد حم الوداع.
وأغمضت عيني من التأثر، فرأيت جنازتي تسير
وأنا في مقدمها أسير حاملا كأسا كبيرة مترعة برحيق الحياة".
نجيب محفوظ ـ أصداء السيرة الذاتية
نجيب محفوظ 2006، ممدد على سريره في مستشفى الشرطة بالعجوزة، يلقي أمنيته الأخيرة: "نفسي أروح الحسين". فلاش باك: 11 ديسمبر 1911، ساحة المشهد الحسيني، نلمح رجالا بجلابيب يروحون ويجيئون، في أركان الساحة يتوزع المجاذيب، الشحاذون، وباعة الحلوى.. هنا يولد طفل، له شامة على خده الأيسر، يمنحونه اسم الطبيب الذي قام بعملية إخراجه للحياة: "نجيب محفوظ".
منذ هذه اللحظة يرتبط نجيب محفوظ باثنين أشد الارتباط: بالحسين، وأمه التي ورث منها الإحساس المرهف، والعمر المديد، وعشق الحسين. لم يكن غريبًا أن يكون اسم الأم "فاطمة"، أُمُّ الاثنين: نجيب محفوظ، والحسين، فكانت العلاقة بينهما أشبه بعلاقة أخوَّة من طرف واحد "طرف نجيب محفوظ"، فلم يكن ممكنا أن يرحل دون أن يطلب رؤيته للمرة الأخيرة، وحينما لم يتمكن من زيارته في ضريحه رأى أن يذهب إليه مباشرة.
تبدأ الحكاية بالحسين وتنتهي بالحسين، منذ ميلاده والحي يسكن وجدانه، عندما يسير فيه يشعر بنشوة غريبة، أشبه بنشوة العشاق، كان يشعر بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي. وبعد أن انتقل محفوظ مع أسرته إلى العباسية كانت المتعة الروحية الكبرى هي أن يذهب إلى الحسين.
"في فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوى الحب لهذا الحي إلى أصدقائي، فتحت أي ظروف لابد أن تكون السهرة في الحسين، وحتى لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلى منتصف الليل، لا نعود إلى منزلنا إلا بعد جلسة طويلة في "الفيشاوي" نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السمر والحديث. كانت الأم مفتاح السر، منها تعلم محفوظ العشق، كانت تعشق الحسين وتذهب لزيارته باستمرار، وكانت تطلب من طفلها أن يرافقها في زياراتها اليومية، يدخلان إلى الضريح فتطلب منه قراءة الفاتحة وتقبيل الضريح، كانت هذه الأشياء تبعث في نفس الطفل الرهبة والخشوع.
"في الفترة التي عشناها في "الجمالية" كانت تصحبني معها في زياراتها اليومية، وعندما انتقلنا إلى العباسية كانت تذهب بمفردها، فلقد كبرت أنا ولم أعد ذلك الطفل المطيع، ولم يعد من السهل أن تجرني وراءها".
هنا في الحي العريق تشكل الوجدان، على باب المقهى يقف الطفل لينصت إلى الشاعر الشعبي الذي يغني على الربابة في مقهى خان جعفر، منزويا وسط الأطفال، وقد اصطف الجمهور على الكراسي، إذا حكى الشاعر قصة "أبي زيد الهلالي" ينقسمون إلى فريقين: الأول يؤيد "أبا زيد" والثاني يؤيد "ديابًا" إلى حد قيام المشاجرات بين الفريقين، هل كان محفوظ وقتها ينزوي في ركن آخر مراقبا تلك المشاجرة القائمة على أساس فني؟! في حي الحسين يتعرف الطفل على ملامح هذا العالم الكبير، يقف في نافذة بيتهم المواجهة لقسم الجمالية، يرقب المظاهرات، وعساكر الإنجليز وهم ينظمون طوابيرهم، وزفة الفتوة، والمجاذيب، ينزل في ليل رمضان ليدور مع الأطفال يلهون بالفوانيس ذات الشمعة.
"كان والدي يعاملني بحنان ولطف، ولم يضربني في حياته إلا مرة واحدة، ولهذه "العلقة" قصة، كانت عساكر الإنجليز تحتل ميدان "بيت القاضي" حيث نسكن، وكانت تعليمات أبي تمنع فتح النوافذ المطلة على الميدان مطلقا، لأن الإنجليز كانوا يعتبرون النوافذ المفتوحة بمثابة تهديد لهم، فقد يكون هناك من يحاول إطلاق الرصاص عليهم من النافذة المفتوحة، وذات يوم انتهزت فرصة انشغال أمي في المطبخ وفتحت النافذة، وجلست أشاهد العساكر الإنجليز وأقلد حركاتهم وأصواتهم عند تغير الطابور العسكري، وفجأة وجدت أبي واقفا فوق رأسي وهو ينظر لي بغضب شديد، ثم أحضر عصاه وهوى بها علي وجاءت أمي تساعده، وطرحاني أرضا، وأمسكت أمي بساقي ورفعتهما إلى أعلى، ليتمكن أبي من ضربي بالعصا على بطن قدمي، وتركاني وأنا أعرج، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي يضربني فيها والدي رحمة الله". كما كان محفوظ الطفل ماهرا في لعب الكرة إلى حد أن كل من حوله كانوا يتوقعون أن يصبح لاعب كرة مشهورا، لكنه الأدب. يذكر مدحت عاصم في مذكراته أن محفوظ كان ماهرا في لعب الكرة وأنه كان يلعب حافيا.. ثم ينبري صاحب نوبل في شعور نادر للدفاع عن نفسه ويقول:
"ليس من المعقول أن ألعب الكرة حافيا دون حذاء، فالأرض في الوايلي بوسط القاهرة رملية، ولن تخلو من مخلفات زجاج مكسور أو بقايا مسامير أو حصى أو ما شابه ذلك، مما يمكن أن تحتويه الأرض عن غير قصد وعن غير نظافة، فتكون النتيجة الطبيعية إصابات وجروح ولذلك كان لعبي للكرة حافيا غير ممكن".
يلتحق الطفل الصغير بالكتاب، يذهب إليه سيرا على الأقدام، يقع الكتاب في بيت أثري، فيعشق الآثار الإسلامية، تتوغل في كيانه البواكي والمقرنصات والقباب والمحاريب، يجلس الطفل مفترشا الأرض، ولدًا ضمن الأولاد، يحفظ جزءًا من القران، ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة، يمتد معه عشق القران حتى نهاية حياته، فيما بعد سيصير الولد الصغير الذي يمسك باللوح وقد لوث ملابسه بالحبر الأزرق شيخا للكُتَّاب "هذه المرة جمع كاتب".
"لم أقرأ في حياتي كتابا واحدا أكثر من مرة باستثناء كتاب واحد هو "القرآن الكريم"، قرأت القرآن منذ الصغر، وتعلقت به، ومازلت أقرأ فيه بشكل يومي ولو أجزاء قليلة، قرأت كذلك كتب التفاسير، خاصة القرطبي، وسيد قطب، وإن كان أكثرها راحة وسهولة بالنسبة لي هو "منتخب التفاسير" الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية". تتفجر الأزمات تلو الأزمات والطفل الذي صار كبيرًا لم يحب الوقوف موقف الدفاع عن ذنب لم يرتكبه، تعلق بالإيمان، فجاءته التهمة في إيمانه، دافع محفوظ عن "أولاد حارتنا"، وعن إيمانه، كانت الفكرة محلية فألبسها ثوب الكونية، ثم فصل بين الرمز والمرموز، وتعامل مع أبطاله حسب طبيعة البيئة والمكان والقضية التي يطرحها، كان يملك مستويات متعددة من الوعي، وفي النهاية رفض أن تنشر الرواية في مصر إلا بعد موافقة الأزهر!!! ولم يكن رأيه في حرية الإبداع مطلقا غير مقيد، كانت الحرية لديه مقننة بالإبداع، وحينما تطغى الرؤية الأيديولوجية على الإبداع، في شطحات غير مسئولة كان يقف ليعلن أن هذا ليس إبداعا..
"ما كتبه سلمان رشدي ـ في آيات شيطانية ـ يدخل تحت بند السب والقذف وعليه أن يتوب، والإسلام يقبل التوبة إذا كانت صادقة مخلصة، وهذا ليس معناه مصادرة حرية الفكر، فما كتبه في روايته كان من منطلق حرية الفكر، وتراجعه سيكون من نفس المنطلق. ومن الصعب أن أوجه نصيحة لكاتب من المفروض أنه من قادة الفكر، فالأمر يرجع في الأساس إلى ضميره، فإذا كان متمسكا بآرائه التي احتوتها الرواية، فليس عندي نصيحة، ولا أستطيع على تغييرها، أما إذا شعر بخطئه وندمه، ففي هذه الحالة أوجه له هذه النصائح:
أولا : أن يعلن توبته كما يطلب منه.
ثانيا : أن يمنع ما استطاع ترويج الرواية.
ثالثا : أن يتبرع بأرباحه منها لإحدى الجهات الإسلامية". في المدرسة الابتدائية تتفجر الموهبة، يقرأ الولد الذي شب لكبار الكتاب "آنذاك" ويحاول تقليد أساليبهم، حاول تقليد المنفلوطي في النظرات والعبرات، وحين قرأ الأيام لطه حسين عكف على الأوراق طويلا محاولة كتابة قصة حياته على طريقة طه حسين، وأسماها "الأعوام"، ثم بدأ يكتب الشعر ثم غادره، إلى أن أخذته قدماه إلى ساحة الرواية، وجد نفسه فيها فلم يغادرها، ولن يغادرها. وتبقى الأم "فاطمة" هي أساس الحكاية، الأم في الحكاية هي الركن، منها تبدأ وعليها تتكئ، تغيب لتظهر في كل أعماله، رمزا لشيء كبير بالغ الود والحنو، قادر على الاحتواء..
"رغم أن أمي عاصرت ظهور التليفزيون فإنه لم يدخل إلى بيتها، بل لم تدخل السينما إلا مرة واحدة، لمشاهدة فيلم "ظهور الإسلام" بعد أن وصل إلى مسامعها أن من يشاهد هذا الفيلم يكون بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، وبما أنها لم تتمكن من الحج، ذهبت لمشاهدة الفيلم".
يكبر الولد وتمر به الأيام، تسلب منه كل شيء، ويمنحها هو كل شيء، تمضي الأيام، ويتعلم الحياة درسا بعد درس، ويبقى الحسين "الحي/الإنسان" ماثلا أبدًا في خلفية المشهد.
لم يكن عبثًا أن يسمي محفوظ ابنته فاطمة، هنا يتدخل الأديب لكي تستمر السلسلة "فاطمة/الحسين". في أول الحكاية "تذهب الأم بمفردها إلى الحسين، لأن الولد قد كبر ولم يعد ذلك الطفل المطيع".
وفي نهاية الحكاية "نفسي أروح الحسين"، وكأنما كانت كل هذه العقود الطويلة ضرورية حتى يدرك الطفل أنه كان من البداية ينبغي أن يكون مطيعا.
التعليقات (0)