محمود البدوى (1908 ــ 1986) رائد من رواد القصة القصيرة فى مصر ، بدأ ينشر قصصه منذ عام 1933 فى بعض الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات الأدبية المتخصصة كالرسالة والأديب والهلال واستمر يكتب حتى وفاته فى 12/2/1986 .
وفى خلال تلك الفترة تناول فى كتاباته الشخصية المهضومة الحق .. المعذبة .. القدرية .. العاجزة عن التحرك ومواجهة صعاب الحياة سواء فى مصر أو فى البلاد الأوربية التى طاف وجال بها .
والقارئ لقصص البدوى يحس بأنه يتغلغل داخل النفس البشرية وينفذ إلى أعماقها ويحرص على إضاءة الشخصية الإنسانية من داخلها عن طريق الاهتمام بالانفعالات النفسية وتأثير الظواهر الخارجية على الأعماق ورد كل ما يجيش فى صدر الإنسان وعقله إلى أسبابه وبواعثه الحقيقية .
وكثير من قصصه يسردها بضمير المتكلم ، وقد اتخذ هذا الطريق منذ نشر قصته "الحب الأول" فى 2/2/1938 ، وهو يكتب عن شخصياته بعد أن يعاشرها طويلا ، يفكر بطريقتها ، وينظر إلى واقع الحياة بنفس منظورها .
ولذلك فإن القارئ لقصص البدوى يلاحظ أن الحوار يتراوح بين اللهجة العامية والعربية الفصحى ، لأنه يكتب من الواقع ويصوره .
ويقول البدوى "لقد كان الحوار فيما مضى يورد باللهجة العامية .. ولكن بعد أن وجدت أن نصف المطبوع من كتبى يوزع فى البلاد العربية ، رأيت أنه من الجحود أو الإنكار أن يقرأ نصف القراء حوارًا لا يفهمونه .
ويمكن أن يعتبر هذا الموقف من اللغة تحويرا عن الواقعية البحتة ، أو الواقعية المطلقة .
على أنى توقفت عن استعمال العامية توقفا تاما حين وجدت أيضا عددًا من المترجمين لقصصى إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية يسألوننى عن معنى كلمات فى الحوار بالعامية .
إلا أن العرب يمثلون بالطبع هدفا أهم من هدف الترجمة ».
منذ عودة البدوى من رحلته التى زار فيها أوروبا الشرقية عام 1934 وهو يعشق الرحلات فى الداخل والخارج ، فسافر إلى جميع المدن المصرية من أسوان وحتى الإسكندرية وطاف وجال فى أوروبا وآسيا وبعض البلاد العربية فى رحلات ثقافية وغير ثقافية .
وكثر تردده على الإسكندرية فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين ، وأحبها كثيرا لجمالها ونظافتها وقلة سكانها وفتن بها كثيرا ، وعشق النزول فى مياهها ، كما كان يتردد على خطيبته ابنة عمه ضابط البوليس فى المدينة .
وعن ذكرياته فى مدينة الإسكندرية يقول :
"كان الأستاذ غراب يتردد كثيرا على الإسكندرية لقربها من دمنهور والمسافة قصيرة بكل سبل المواصلات السهلة .. فكان يحضر فى الضحى ويعود إلى دمنهور آخر الليل .
وذات ليلة التقيت به مصادفة فى محطة الرمل بالإسكندرية وكان معه الأستاذ صلاح ذهنى .. وكان الاثنان ينتظران أديبا من الإسكندرية فى مقهى إمبريال وقبل مجىء هذا الأديب عرفانى بأنه يتوق إلى معرفة المستشرقين ويعتز بصداقتهم كالأستاذ تيمور ليخرج أدبه من الدائرة المحلية إلى ما هو أوسع آفاقا وأرحب .
وقال أمين ضاحكا ..
وستلقاه أنت الليلة على أنك مستشرق .. لأنه ما رآك من قبل ولا يعرفك.. وشعرك الأبيض الطويل سيجعله لا يشك قط .. ولا تعترض فنحن نريد أن نقضى ليلة ضاحكة .. وعلى فكرة إنه يكتب القصة أحسن منك .. وسترى..
وكان شعرى طويلا منفوشا .. وبدلتى من قطعتين وكل قطعة بلون .. ومن طراز إنجليزى خالص .. ولا كواء ، ولا تنسيق ولا منديل يطل من الجيب . ولا أناقة فى المظهر جميعه .. وبيدى حقيبة مليئة بالمذكرات والأقلام.. وسأتكم لمدة ساعة أو ساعتين بالعربية الفصحى .
وكنا قد ضحكنا كثيرا قبل المشهد ، فلما تقابلنا مع الأستاذ "سعيد" كان الموقف كله جادًا ، ولا يمكن لمخلوق أن يكتشف فيه مظهرا لتمثيل .
رحب بنا الأستاذ "سعيد" وكان الترحيب بى مضاعفا ، ولاحظت أنه هادئ ، وديع ، وكريم الخلق إلى حد بعيد ، فكدت أندم ، وأكشف أوراقى لولا نظرة صارمة من صلاح ذهنى أرجعتنى إلى ما إتفقنا عليه .
وأخذت أحادثه ، وأثنى على قصصه ، وشكر الأستاذ تيمور الذى كان أول من دلنى عليه بأن بعث إلى بمجموعته القصصية .. وكم عرفنى تيمور بأدباء وقصاصين ، وأرسل إلىّ كتبهم بالبريد دون أن يعرضوهم .. وبذلك استطعت أن أكون فكرة شاملة عن الأدب المصرى .
وإبتهج الأستاذ "سعيد" عندما سمع هذا وطار من الفرح .. وعشانا فى نفس المكان .
ولكن أمين قال له بالعامية التى لا أعرفها .
ــ الأكلة دى ما تنفعش .. ولازم تعزمه فى بيتك .. لأنه عاوز يشوف بيت مصرى .. وإحنا ما لناش بيوت هنا فى الإسكندرية ..
فرد سريعا .
ــ طيب فى البيت يا أخى .. بكره الغدا فى البيت .
وترجموا لى الحديث بالعربية الفصحى .. فاعتذرت وقلت .
ــ إن ميعادى مع تيمور بك غدا فى القاهرة .. وقد عرفته فى رسالتى بيوم وساعة الوصول ..
فقال غراب سريعا .
ــ سنرسل له برقية ونعرفه بأنك ستصل القاهرة بعد غد فى نفس الميعاد .
واسترحنا إلى هذا المخرج .
وفى اليوم التالى كنا فى بيته .. وكان بيته من الفخامة إلى درجة أذهلتنى وجعلتنى أعجب وأتساءل كيف يخرج من هذا العز أديب ؟ وما هى المشاكل التى يمكن أن تحرك وجدانه ..؟
وكان يتحدث بالفرنسية مع أهل بيته .. وقد شعرت بالخجل لأنه إندفع فى حماس إلى وليمة فاخرة ..
وبعد أن فرغنا من الطعام .. وضعت أمامنا صحون ملونة صغيرة ممتلئة بالماء وفى كل صحن وردة .. فتعجل أمين ووضع يده فى الصحن حتى لا نتصور أنه خشاف ونرفعه إلى فمنا .. وكان بارعا وسريع الخاطر فى هذه الحركة .
وفى اليوم الذى حددته لسفرى إلى القاهرة لمقابلة الأستاذ تيمور ، جاء الأستاذ سعيد ، يودعنى فى محطة "مصر" وكان يرافقه غراب وصلاح .
وسألنى "سعيد" بأدب قبل تحرك القطار :
ــ هل ستقابل جميع الأدباء فى القاهرة ..
ــ بالطبع .. ولهذا جئت من بلادى ..
ــ سلامى إذن إلى أستاذنا .. الزيات وأرجو أن تحرص على مقابلة .. توفيق الحكيم .. وإبراهيم المصرى .. وعبد الرحمن الشرقاوى .. وثروت أباظة .. ويحيى حقى .. ونجيب محفوظ .. وعبد الحليم عبد الله .. ويوسف جوهر .. وسعد مكاوى .. ومحمود البدوى إذا وجدته ..
فقال صلاح ذهنى وهو ينفجر من الضحك .. ؟
ــ محمود البدوى ــ ما هو واقف قدامك فى القطر با مغفل .. وضحكنا .. وضحكنا .. وأصبح هذا الأديب الإسكندرى من أعز أصدقائى » .
رغم أننا قرأنا مجموعاته القصصية التى بلغت 24 كتابا وكتاب آخر لم ينشر حتى الآن بعنوان "المأخوذ" إلا أننا حينما نعاود قراءة قصصه التى بلغت أكثر من 375 قصة ، نجد فيها شيئا جديدا غفلنا عن رؤيته فى المرة السابقة .
ولما كان إنتاجه فى القصة القصيرة يدور حول الإنسان فى جميع أنحاء مصر وفى البلدان الأجنبية التى زارها منذ رحلته الأولى إلى أوربا الشرقية ويعتقد أنه صاحب رسالة يجب أن يؤديها ، وأن وظيفة الأدب هى التغيير إلى الأفضل وتغيير الوجه القبيح فى الحياة إلى الوجه الجميل .
فقد قمنا بتصنيف أعماله ، وحصر قصصه التى استوحاها أثناء تجواله وإقامته فى البنسيونات واللوكاندات والغرف المفروشة بالإسكندرية . واخترنا البعض منها ، ليس لأنها خير ما كتب ، بل لأنها نموذجا تنوب عن باقى القصص فى إعطاء صورة صادقة لأفكاره ونظرته للأمور وفلسفته فى الحياة .
التعليقات (0)