ولد سعيد الكفراوى عام 1939 بقرية كفر حجازى بمحافظة الغربية. وبدأ كتابة القصة القصيرة من الستينيات ليصبح أحد أعلامها. صدر له حتى الآن اثنتا عشرة مجموعة قصصية تعد إضافة مهمة لهذا الفن سعيد الكفراوي الذي ينتمي إلى جيل الستينيات وشكلت القرية أهم تجليات أعماله وصدر له 11 مجموعة قصصية، وترجمت أعماله إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية وحصل هذا العام على جائزة السلطان قابوس في القصة القصيرة.
ونقلت مجلة "الجزيرة الثقافية" عن الكفراوي قوله ان الحكاية هي ما ورثناه عن الأهل الذين حرموا من التعليم وتمتعوا بالثقافة الشفهية، ويستطرد عندما كنت صغيراً كنت أجد الأهل والجيران يجلسون علي المصاطب يحكون قصص الزير سالم وعنترة بن شداد المليئة بالعبر والعظات، وكثيراً ما كانت تلك الحكايات تتحدث عن الموت وليالي الفرح والمآتم والأساطير ومن هنا تكونت علاقته بالحياة والموت.
ويحكي الكفراوي حكايته مع الكتابة التي بدأت في سن مبكرة أواخر الستينيات حين سجل قصة بصوته في البرنامج الثاني بالإذاعة، وتعمد أن يسمعها والده وهو يجلس مع العمدة، وهنا انتشى والده وأحس أن هذه الثقافة ينتمي إليها ويشاهدها وعايشها في حواري وأزقة القرية وأن ابنه عبر بصدق وإخلاص عن واقع البسطاء ومنذ تلك اللحظة تغيرت علاقة الكفراوي مع والده.
ويحكي الكفراوي عن موقف آخر عندما حمل قصته وذهب إلى القاهرة قاصداً مجلة (المجلة) لينشرها على صفحاتها، وكانت المجلة أعرق مطبوعة في ذلك الوقت، ويرأس تحريرها الأديب يحيى حقي. ويصف الكفراوي الموقف قائلاً: دخلت على يحيى حقي لابساً جلبابا بلديا وطاقية، وحين رآني رفع رأسه وسألني عن اسمي وعن مقصدي فأجبته بأن اسمي سعيد الكفراوي وأريد أن أنشر قصة في المجلة، وأمام إصراري وقف هذا العملاق الكبير وأغلق البلكونة وطلب مني قراءة القصة فقرأتها ثم أعاد الطلب فقرأتها ثانية ثم طلب مني تسليمها لسكرتير التحرير وفوجئت بنشرها بعد ذلك. ولم أر يحيى حقي منذ هذا التاريخ إلا بعد 10 سنوات، وحين رآني تذكرني فقبلت يديه ورأسه وجبهته.
قدم القاص والروائى سعيد الكفراوى مجموعته الأولى فى بداية الثمانينيات فلفت انتباه النقاد إلى المستوى المتميز الذى ظهرت عليه المجموعة بتناولها لطرائق من الأداء السردى لم تكن شائعة من قبل ، وهى طرائق تهدف فى معظمها إلى خلخلة المركزيات التقليدية مثل مركزية الحدث ، أو الراوى ، فضلاً عن الاكتشافات الأسلوبية التى خلخلت آلية السرد الوصفى واستبدلتها بأساليب تمنح فضاء أكثر رحابة لحضور الذات الساردة لتعلن عن نوازعها وأحلامها وهواجسها ، بحيث تحل الذات الساردة محل المركزيات القديمة التى كانت تعيش خارجها، ومن ثم تضمن للغة مستوى من التناسق الشعورى بين الذات والعالم والأشياء ( الذات والموضوع ) فتقترب التجربة القصصية من الشعر ويعيشان معاً فى فضاء واحد من السرد والغناء ، وبهذا الغناء تكتسب اللغة طاقة من الشجن والأسى ، فى حين يتجه السرد إلى استعادة الماضى وتنقيتة بحيث يبدو كل مافيه جميلاً وقابلاً للعمل فى الآنى بطاقة الحنين ( النوستالجيا ).
وهو موقف يختلف فى أهدافه عن الرومانسية الأولى كملاذ ( هروبى ) من قبح الواقع ، ويبرر ارتباطه بالواقع من حيث أن ما يتبقى فى الذاكرة هو صورة الواقع الذى نعرفه ، أو بمعنى آخر هو كل ما أدركناه ويهمنا فى الواقع ، إذ لا واقع خارج الذات ، بل هو جزء منها ، وبهذه الطريقة يندمج مفهوم الواقع الموضوعى بمفاهيم أخرى أكثر ذاتية كالخبرة الشخصية والذاكرة والمتخيل والأسطورى ، وبهذا الدمج يصبح الواقع أكثر شعرية ومن ثم أكثر انكشافأ وألقاً بما يتيح لنا رؤيته على نحو أكثر عمقا، لأن الواقع الخارجى سطحى وخادع ، فالجزء الظاهر من جبل الجليد لايمثلة أبداً ، وبهذا المعنى يصبح الإدراك نوعاً من الاستبطان والوعى كشفاً وبصيرة وليس تبصراً ، وهو نفس الموقف الذى راهنت عليه تجربة الشعر فى السبعينات عند كتاب قصيدة النثر على نحو ما يمثله بقوة أدونيس.
وهذه المجموعة احتوت مختارات من قصصه التى كتبها على مدار ما يقرب من ربع القرن، ومن ثم فهى تجسد مشروعه فى السرد القصصى الذى تخصص فيه ، فمعروف أن سعيد الكفراوى لم يكتب الرواية حتى الآن ، وهو يرى أن القصة الجيدة تمنح قراءها متعة مساوية للرواية ، وأنها فن صعب لايقبل التزيد أوالترهلات أو اللغة غير الفنية ، فهى فن الكتابة المصقولة ، والحقيقة أن كثيرا من قصص سعيد الكفراوى تظل عالقة بالذاكرة نتيجة لاحتشادها بشبكة معقدة من العلاقات السردية قوية الدلالة، ومرتهنة ـ فى نفس الوقت ـ بالمكان والزمان والشخصيات الحية ، فشخصيات سعيد الكفراوى ليست مجرد نماذج بشرية ، بل هى منتزعة من واقع تجاربه الشخصية ومشاهداته الثرية .
ى بهذا المعنى وجد مشروعه السردى الذى تحددت ملامحه منذ مجموعته القصصية ( مدينة الموت الجميل ) ، وظل يعمل على صقله وتطويره بإصرار ، حتى انتهى إلى مجموعة من الخواص المميزة ، التى تجعل القارئ يفطن بقليل من الجهد إلى أن سعيد الكفراوى واحد من الكتاب القلائل الذين امتلكوا مشروعاً سرديا خاصاً.غير أن أهم ما يميز هذا المشروع أنه لم ينطلق من الأساس الأيديولوجى ولا من نفس القيم الواقعية التى قامت عليها مشاريع الكتابة فى الستينات ، فمشروع الكفراوى هو مشروع جمالى بالدرجة الأولى .
والناقد الكبير محمد برادة فى مقدمة كشك الموسيقى : ( .. عند سعيد الكفراوى ومعه آخرون ولا شك ، نحس أن صوت الذات لم يعد يرضى بأن يظل قابعاً فى الخلف ، متدثراً بـ ( المعادل الموضوعى ) ، وبالمعاينة الباردة ، إنه على العكس ( يهجم ) على كل ما هو ملتصق بكينونته ، الطفولة ، العلاقة بالأم ، القرية ، لحظات الحب ، المدينة المفترسة ، الوحدة ، الموت … وفى ثنايا الكتابة والشكل ، يشعرنا بأنه يريد أن يتبين موقع ذاته من كل ذلك ،لايريد أن يتخفى وراء عجائبية الوقائع وطرافتها ، ( وهى كثيرة وحاضرة ) ، وإنما يريد أن يقترب من تلك الحقائقية التى تستعصى على الوصف لأنها محفورة فى المسام ، تشعل الذاكرة وتذكى الحنين ) .
وعالم الطفولة يبرز على نحو خاص فى تجربة الكفراوى ، ويأتى مفعماً بالطزاجة والعفوية والدهشة التى تسم ممارسات الأطفال وألعابهم وأغانيهم وتشوفاتهم وأحلامهم البسيطة المستحيلة ، وعلاقاتهم المشتبكة بالأماكن والأسرار الصغيرة والأشياء الخاصة التى تتغير بفعل المخيلة من العادى إلى المقدس ، ولعل هذ القداسة تمتد إلى بعض الشخصيات التى يرتبط بها الطفل على نحو تخييلى كشحصية عازف الرباب أو شاعر القرية أو شيخ الكتاب أو الجد الذى يحاط ـ عادة ـ بهالة أسطورية وتنسب له بعض القدرات الخاصة التى تقترب به إلى منطق الخوارق أحيانا ولاسيما فيما يتعلق بقواهم الجسمانية وشجاعتهم فى محاربة الجان أو لصوص الطرق ، وهكذا تحمل مثل هذه الشخصيات بعداً أسطوريا .
والراوى فى قصص الكفراوى غالباً ما يكون طفلاً أو رجلاً كبيراً يستدعى الطفولة ، إذ تبدو الطفولة هى كلمة السر فى قصص الكفراوى ودافع الإلهام العفوى والخيال السحرى اللعوب .
ففى قصته المدهشة ( تلة الملائكة ) نجد هذا الراوى الطفل ، وهو يحكى عبر مخيلة مفعمة بالخيال عن عالم الغجر الذين يسكنون التلة البعيدة ويثيرون المخاوف والهواجس فى نفوس الصغار بعالمهم الغامض وأهازيجهم الساحرة ، إنه عالم يثير دهشة وفضول الراوى / الطفل ، الذى يضيئ الفانوس ويمضى لاكتشاف عالم التلة المثير .
تشظى المكان
أحياناً اشعر بأن ثمة قصة قصيرة بقوة رواية كاملة ، قد يرجع هذا لاتساع الفضاء الزمنى الذى يتحرك فيه السرد ، لكن هذا وحده لايكفى ، فهذا الحراك يجب أن يكون على قدر كبير من التنوع والتعدد بما يضمن للنص قدراً كبيراً من الديناميكية ، وهو تحريك مكتنز بالعلامات الجمالية والدلالية التى تدخل فى تفاعل مع بعضها البعض من ناحية ومع القارئ من ناحية أخرى ، إن هذا التحريك يهدف إلى شيئ واحد ، أن يفتح الأفق القرائى على آخره .
لابورصا نوفا .. واحدة من القصص التى تحضر فى أفق قارئها بقوة رواية.
إذا كانت مجموعة ( مدينة الموت الجميل )"1" تشير الى نفسها بقوة فى تجربة سعيد الكفراوى القصصية ، فان قصته البديعة ( لا بورصا نوفا ) تبرز بتفرد خاص بين قصص هذه المجموعة ، ليس فقط لكونها تتصدر قصص المجموعة أو لاسمها اللافت للانتباه ، ولكن ـ وهذا هو المهم ـ لاحتشادها بالكثير من العلامات والسمات الجمالية والدلالية ( لغة وتقنية ) ، وهى علامات تفيض على مساحة زمكانية كبيرة وتلامس مناطق عديدة من وعى الذات الساردة ، فهى على المستوى الزمنى تستقطع رحلة غير هينة من الوعى الريفى إلى الوعى المدينى ، فضلاً عن تجربة السفر إلى الخارج والتى يمكن احتوائها عبر المكان الصحراوى كرمز يضرب إيقاعيا فى خلفية الوعى ، وحيث تخضع كل من هذه الأمكنة لمنظومة من القيم والسياقات المعرفية والجمالية تختلف فيما بينها على نحو لافت ، ومن ثم فإذا كانت ( مدينة الموت الجميل ) تطرح علامة أسلوبية على المكان تكتنز بالدلالة وتشكل أفقاً مكانياً لحركة الذات الساردة ، فإن قصة (لابورصا نوفا ) تفتح قوساً خاصاً داخل هذا الأفق ، فلابورصا نوفا هو اسم أحد فنادق الدرجة الثالثة يعينه السارد فى ميدان محطة مصر ليكون أول لافتة تقع عليها عيون النازحين من القرى والمدن الأقليمية إلى العاصمة ، فهو بؤرة مكانية صغيرة داخل فضاء المكان ( المدينة) ، ولكنها تحتشد بدلالات الاغتراب ، ليس فقط بوصفه ( الفندق) موطن الغرباء وهوامش المجتمع النازحين ، فاللفظ الأجنبى الغربى لاسم الفندق ، يعمق هذه الدلالة فى اللاشعور ، كما أن كلمة ( البورصاً ) تسقط على نمط العلاقات داخل هذا المجتمع ، حيث كل شيئ قابل للبيع والشراء حتى الحب على نحو ما سوف نرى ، وفى النهاية فكلمة مثل ( نوفا) قد تشير إلى معنى الحياة الجديدة التى سوف يلقاها قروى نازح إلى القاهرة ( مدينة الموت الجميل ) .
الثراء الدلالى ، والتعدد المثير لمستويات وعى السارد بالمكان وتداعياته اللغوية ، يقدم ضمانات النص فى قدرته على التقليل من سطوة النمطية الأسلوبية ، بحيث يمر عليها القارئ مرورا عابرا بفضل الاشتغال الفنى ، وعلى الرغم من أن موقف الذات الساردة هو موقف نمطى تماما ، إلا إننا ، أثناء قراءتنا للنص لا نستشعر وجود النمط فى أى لحظة ، أعنى لا نستشعره كعائق ، وس
وفى هذه القصة يمتزج البعد التخييلى بالثقافة الدينية على نحو رائع ، فالطفل يمضى إلى تلة الشياطين / الغجر مدفوعا بالفضول الذاتى لكنه يحتمى فى فضوله بتخيله أن فانوس رمضان له القدرة على تبديد وحشة الظلام، وتظهر الثقافة الدينية عندما تمده بيقين على قدرة شهر رمضان على سجن الشياطين ووضعها فى الأصفاد ، وبهذا المعتقد الذى يبلغ حد اليقين يذهب الطفل إلى التلة ، وهناك يتجسد المعتقد ويتحول الخيال إلى حقيقة ، حيث يجد التلة تعج بالملائكة فعلاً ، تستقبله الملائكة فى طقس تطهير مستمد من الثقافة الدينية أيضاً ، عندما تنزع قلبة وتغسله ثم تعيده ، ليمضى بعدها الطفل أكثر يفاعة وثقة فيما يعتقد .
وهذا التماس السردى الشعرى هو المسؤل عن الحضور الصوفى الشفيف فى تجربة سعيد الكفراوى على نحو ما تمثله بعض قصص مجموعته ( كشك الموسيقى ) مثل قصة ( تلة الملائكة ) ، ( فى حضرة السيدة ) ،( بيت للعابرين )
سعيد الكفراوي: القصة القصيرة هي الشكل الأمثل للتعبير عما أريده
الثلاثاء, 26 يناير 2010
القاهرة - سلوى عبدالحليم
Related Nodes: 012602b.jpg
يؤكد القاص المصري سعيد الكفراوي (1939) رضاه برفقة القصة القصيرة على مدى نحو نصف قرن ... «قابلتها مصادفة ومن خلالها عبرت عن هؤلاء الذين يزاملونني في الأرض والسكن والمقبرة». وعن ارتباطه بالقرية التي صارت تشكل أبرز تجليات تجربته القصصية يقول صاحب «مدينة الموت الجميل» : «للقرية حضورها الدائم في الذاكرة وهي بالنسبة إلي أكثر سحراً من المدينة التي ما يزال سرها غائباً عــنــــــــي». ويـــــرى الكفراوي أنه على رغم تأزم المشهد الثقافي العربي، فإن ثمة أدباً جديداً ينطلق ليخترق المحرم ساعياً نحو حرية مفتقدة وعدل غائب».
بدأ الكفراوي مشواره الأدبي في ستيــنــــات القرن الماضي، وفـــــي الوقت الذي تحول معظم قصاصي جيله إلى كتابة الرواية، ظل هو على إخلاصه لجنس القصة القصيرة، فأصدر 12 مجموعة قصصية من بينها «ستر العورة»، «سدرة المنتهى»، «بيت للعابرين»، «دوائر من حنين»، و «عشرون قمراً في حجر الغلام»، وحصل على جوائز عدة، وترجمت أعمال له إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية . هنا حوار حول مسيرته وأشياء أخرى.
> ما سر هذا الإخلاص لكتابة القصة القصيرة؟
- عبر سنوات عمري كله تعاملت مع القصة القصيرة باعتبارها الشكل الأمثل للتعبير عن معنى ما أريد كتابته. أنا آخر الأمر أبحث عما يلائم ما أريد قوله. ربما نشأ هذا الاختيار منذ أن كانت الجدة تقص علي أحسن الحكايات وأنا نائم على فخذها في ساحة الدار. بعدها أحببت هذا الشكل عندما قرأت يوسف إدريس ثم إدوار الخراط، وأدركت أن كلاً منهما يحاول الوصول إلى منطقة أشواق تخصه. ثم كان تشيكوف وكافكا اللذان تعلمت منهما أن رؤية الكاتب يمكن أن تتسع لتشمل الوجود. ثم عرفت من خلال أوكونور أن القصة هي الشكل الأمثل للتعبير عن الجماعات المغمورة على المستوى الروحي والمادي، وعن الحالمين والمهزومين. أنا لم اسع إليها. ربما قابلتها مصادفة، وأنا سعيد برفقتها وأحاول من خلالها التعبير عن الزمن الذي أعيشه، والمكان الذي أسكنه، وأحوال الناس في واقعهم الاجتماعي، هؤلاء الذين يزاملونني في الأرض والسكن وفي المقبرة بعد الرحيل.
> دعنا إذاً نستعرض فترة التكوين وتأثيرها في وعيك؟
- كنت في صباي أواظب على قراءة ما يكتبه العقاد وسلامة موسى في مجلات «الرسالة» و «الثقافة» و «الهلال» ومشاهدة الأفلام التي كانت تعرضها دار السينما في المدينة القريبة من قريتنا بعدما حفظت ما تيسر من القرآن الكريم على يد معلم ضرير، كما كنت أتردد في الوقت نفسه على مكتبة المجلس البلدي. إنها أيام طه حسين وسحر ترجمات بيروت واكتشاف يوسف إدريس ونجيب محفوظ، ثم ادوار الخراط، وأصداء من سياسة قادمة من عاصمة بعيدة تتحدث في ذلك الحين عما يسمى بـ «الضباط الأحرار، وثورة يوليو، وإحساس بأن ثمة زمناً مختلفاً على الأبواب». ارتبطت بالبشر الذين عرفتهم أول العمر. ارتبطت بتصورهم للدنيا وارتباطهم بتلك المساحة من الأرض التي عاشوا عليها، وسردوا في أركانها حكاياتهم. إحساسهم بالمقدر والمكتوب. ارثهم الديني عبر تواريخ طويلة، وحقب لا تنتهي. مسني من تلك الجماعة أو العائلة شيئان، أولاً: احتفاظها بسر خفي لا يبدو لك إلا في لحظات الخطر، وثانياً: الإحساس الساخر المشوب بالحزن تجاه أفعال الحياة. ملاحظة تلك الأشياء منذ الصغر كونت لدي ذلك التعارض بين الممكن والمستحيل، بالذات عند الكتابة. تعلمت مبكراً الصبر على الاحتمالات، وعلى فجاجة بعض البشر. تعلمت أيضاً الشغف بالأحلام والذي يجابه عندي العنف وافتقاد حرية الكائن في واقع يسعى إلى عدل غير موجود.
> يمثل عالم القرية في قصصك البراءة والحلم الأسطوري في مقابل المدينة التي تمثل العطب والزوال، كيف ترى هذا الأمر؟
- ليست هكذا تتم الأمور، فردوس في القرية وجحيم في المدينة. هما عالمان يزخران بالتناقض والأسئلة، وقصص القرية فيها الكثير من مشاهد الحياة والموت، وكذلك المدينة تصطخب عبر وجودها العارم. فقط القرية عرفتها اكثر، وأحببتها، وأصدق الأناشيد هو الذي يجيء من هناك. تتشكل القصة من أشخاص عرفتهم وأصوات تتردد في لا وعي الكاتب وصور تداهمه. هل تذكرين حكاية الجد والغلام في قصة «تل الملائكة»؟ من أي مكان نبع مشهد هبوط ملائكة على دقات دفوف الغجر، فيما الولد مسجى على طاولة وصدره مشقوق يهمس بدعوات الجد الشيخ أن يطيل الله عمره؟ مثل هذا الجو لا تتيحه المدينة باختناق علاقاتها الاجتماعية. المكان في القرية أكثر سحراً من الأمكنة التي تعج بالغرباء في مدنية ما يزال سرها غائباً عني. وللقرية حضورها الدائم في ذاكرة هي بالنسبة إلي توأم خيال، من خلالها أتعرف على الماضي باعتباره الوعاء لكل الأزمنة، والذي من خلاله أطل على عالم اندثر.
> فكرة التواصل مع المتلقي لم تعد موجودة لدى كثيرين من الكتاب، لمن إذاً يكتب الكاتب؟
- أي متلق تقصدين؟ لم يعد هناك متلق واحد. تعددت أشكال التلقي وتحكمت وسائط كثيرة في تهيئة الناس للنظر إلى كل ما يحدث في واقع ملتبس. واقع الحال العربي البائس. أما لمن يكتب الكاتب؟ فالإجابة : هو يكتب وحسب. من يقرأ أصلاً في واقع مأزوم لا نعرف ظاهره من باطنه؟ انظري إلى اتساع الهوة بين ما يكتبه المثقفون وما يتلقاه الناس من أجهزة الإعلام. أي تواصل يحدث مع جماعات تعيش ثقافة التبعية للماضي، وتعيش خرافتها الخاصة، فيما الكتابة المحترمة تعيش أزمة المصادرة والإقصاء.
> يرى بعض النقاد أن اللغة عندك تصل أحياناً إلى مستوى الشعر، أما بناء القصص فيبدو مثل المعمار الموسيقي المعقد، ما الذي تمثله اللغة بالنسبة إليك؟
- اللغة في آخر الأمر جزء من عالم الكاتب، ولغتي تحمل مخاوفي وتحتشد بالشعر والأساطير، وتحمل في الوقت نفسه حكمة من أكتب عنهم، هؤلاء الذين تعلمت منهم سرد الحكايات.
> ثمة تيمة أساسية في كتابتك هي تيمة الحلم، فلماذا الارتكاز على الحلم؟ هل هي حيلة فنية؟ وهل كان رحيل البطل في قصتك الطويلة «يا قلب مين يشتريك» حلماً أم حقيقة؟
- اعترف بأن القصص التي كتبتها تحتوي الكثير من الأحلام. الأحلام التي تعكس دخائل ومشاعر أشخاص القص. هي أحلام يختلط بها الوقتي باللا زمني وهواجس الأمهات بلقاء الأولياء وتجديد العهد لهم. البطل في «يا قلب مين يشتريك» كاد أن يرحل بالفعل لولا أنه رأى أباه الميت الذي رفض رحيله، فعاد إلى الدنيا وانتبه إلى وجوده المتعين بين يدي الأطباء، فيما كان يخضع لجراحة دقيقة. أعتقد أن الحلم حياة أخرى، وربما فن خالص، ومما يدهشني هو أن الكثير مما كتبته جاءني في الأحلام.
> عالم الطفولة يبرز على نحو خاص في تجربتك الإبداعية، لماذا؟
- أنا من الكتاب الذين إذا ضربتهم طفولتهم نشطت ذاكرتهم وأحبوا سرد الحكايات. و الطفل لا يكون طفلاً لذاته. الطفولة هي ذلك الإرث الفادح من الماضي. هي ذلك العمر القادم من الفردوس. أنا مأخوذ بما مضى من أيامي. تلك الأيام التي لا تكف عن ملاحقة الذاكرة ومطاردتها.
> في كتابك «حكايات عن ناس طيبين» خطوت خطوة مهمة نحو جماعتك محاولاً الاقتراب كثيراً من حقيقة تلك الجماعة. كيف استطعت أن تستعيد الماضي في تلك الحكايات المرتبطة بأشخاص حقيقيين؟
- «حكايات عن ناس طيبين» كتاب يمتد محتواه من الطفولة وحتى الكهولة. هناك من مروا في ذاكرة القرية، وآخرون، مثل نجيب محفوظ ويحيى حقي ومحمد مستجاب ومحمد عفيفي، خرجوا من ذاكرة الكتابة. أنا أعتبر هذا الكتاب تميمة ضد الفناء لأنني كلما قرأت حكايات نجيب محفوظ، أو يحيى حقي ويحيى الطاهر عبد الله عطرتني الذكرى بشخوصهم وأفعالهم.
> إلى أي حد يستطيع النص الأدبي أن يعكس بعضاً من حقيقة الكاتب الإنسانية؟
- أتصور أن النص الأدبي الجيد لا يعكس بعضاً من حقيقة الكاتب وحده، ولكنه يسأل الدنيا بذاتها. هو في الحقيقة يواجه ما في الحياة من عنف ويصطنع أشكاله التي يواجه بها، وعبر هذه الأشكال يكون التعبير عن ذات الكاتب. الكاتب الآن لم يعد بطلاً، ومن ثم تتجسد إنسانيته في ما يكتبه. ولم يعد الواقع مثالاً لفرح مؤجل، وذات الكاتب انتهت إلى ذلك النشيد الذي يمجد الحياة في مواجهة الموت. الكاتب عندما يكتب يقف عارياً على نحو ما. نحن نسعى للقبض على معرفة النص الأدبي الذي هو وسيلة الكاتب لمعرفة ما هو خفي، وفي سبيل سعيه هذا تنتشر روائحه الأليفة في الأنحاء، وعبرها ندرك قيمة وجوده بين صفحات كتبها.
> كيف تقرأ واقع القصة القصيرة في العالم العربي ومستقبلها؟
- ظلت القصة القصيرة في وعي الكتابة السردية العربية منذ نشأتها الحديثة مع عيسى عبيد مروراً بحيي حقي ونجيب محفوظ وغالب هلسا ويوسف إدريس وادوار الخراط وزكريا تامر وبعض كتاب الستينات، وحتى اللحظة الراهنة عند محمد المخزنجي وجار النبي وربيعة ريحان وآخرين، تمثل ذلك السرد الشغوف باكتشاف اللحظات النادرة من حياة الإنسان. تراث هذا الفن البديع الباقي مثال للغبطة وفرح حقيقي بالحياة، وقد ظل أهم أشكال الكتابة الصعبة للتعبير عن الجماعات المغمورة. كانت الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي هي المثال لألق هذا الفن البديع على رغم ادعاء أن الرواية امتلكت زمن السرد. ستظل القصة القصيرة هي الشكل الأمثل الذي يعبر عن حياة الإنسان في واقع ملتبس. وأنا أتوقع أن تستعيد القصة القصيرة ألقها قريباً داخل فضاء السرد العربي. وكان ملتقى القاهرة للقصة العربية الذي عقد أخيراً وفوز الصديق العزيز زكريا تامر بجائزته علامة على صحة هذا التوقع، وعلى أن ثمة يقظة تنبعث مثل رائحة غامضة من ماضي هذا الفن.
> وماذا عن الرواية؟ هل فكرت يوماً في خوض غمارها؟
- عندما يأتيني الحشد اللازم لكتابة رواية، سأكتبها. وأنا سبق أن كتبت نصوصاً يراها البعض روايات قصيرة أو قصصاً طويلة، وهي «ستر العورة»، و «البغدادية»، و «يا قلب من يشتريك».
> تستعد حالياً لإصدار كتاب جديد عنوانه «عشرون قمراً في حجر الغلام»، هل تعتبره كما تردد إعادة اكتشاف لعالم عشته وكتبت عنه بالفعل؟
- هذا كتاب أحاول من خلاله استحضار عوالم جديدة يجوب فيها غلام ويحاول التعرف الى حقيقته الأولى فينكسر خاطره. تجارب تحتشد بالشك ومحاولة من الكاتب لإبراز ما هو فني وإبداعي من تجارب خاضها سلفاً. إنه عشرون حكاية تشبه الأقمار في كتب السحر.
> كيف ترى الواقع الثقافي العربي؟
- على رغم ما يحيطنا من يأس، وممارسات العنف والتعصب تجاه تيارات الكتابة، فإنني احتفي جداً بما يكتبه الأدباء العرب الآن. إنه أدب جديد، خصوصاً ما تكتبه المرأة في الخليج، يحمل وعياً يخترق المحرم والواقع القائم على الاحتمالات ساعياً نحو حرية مفتقدة وعدل غائب.
التعليقات (0)