مئة عام على ميلاد الشابي..
حكاية الجذور و الريادة
البشير عبيد
مرت في الأسابيع الفارطة مئة عام على ميلاد شاعر تونس الكبير الخالد أبي القاسم الشابي، هذا الذي شغل الناس و جعل من موهبته الخلاقة ظاهرة شعرية بامتياز.. لم يكن الشابي صاحب" أغاني الحياة" و " الخيال الشعري عند العرب" شاعرا من طراز عادي بل فرضت كتاباته الشعرية و النثرية اهتمام النقاد و الكتاب في بدايات القرن الماضي نظرا لتضمنها أبعادا جمالية عالية و مواقف فكرية غاية في الدقة و التعبير النقدي لمختلف القضايا الاجتماعية و السياسية و الثقافية، الأمر الذي ألب عليه القوى الفرنسية الاستعمارية و بعض الأطراف التونسية المحافظة آنذاك.علما بأن الشابي ولد في 24 فيفري 1909 في " الشابية" إحدى ضواحي مدينة توزر. كان والده رجلا صالحا تقيا و في هذا الجو الديني الصوفي نشأ و ترعرع أبو القاسم الشابي حيث بدأ تعليمه في" الكتاتيب" وهو في الخامسة من عمره، و أتم حفظ القرآن في السن التاسعة، ثم أخذ والده يعلمه بنفسه أصول اللغة العربية و مبادئ العلوم الأخرى حتى بلغ الحادية عشرة. التحق بجامع الزيتونة في أكتوبر 1920 و تخرج سنة 1928، ثم التحق بمدرسة الحقوق التونسية و تخرج فيها سنة 1930. أخذت مواهب الشابي الأدبية تبرز في قصائده و مقالاته و محاضراته حتى قبل أن يتم العشرين. و كان الشابي بحياته القصيرة ، نقطة تحول في الشعر العربي مما أهله لأن يصير أحد رواد الشعر الرومانسي العربي و أحد المبدعين الكبار في الشعر الوطني، حيث جسدت قصائده صرخات مدوية في مواجهة الطغاة الاستعماريين، و مثلت دعوته إلى التحرر و الانطلاق نحو مسارات الرقي و النمو و الحرية إحدى التعبيرات الفنية الراسخة في ذاكرة كل الشعوب التواقة من أنفاق الظلم و الحيف و العسف وهل ينسى الواحد منا أبياته المنحوتة في صدور و قلوب ووجدان المقاتلين هنا و هناك:
إذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي / ولا بد للقيد أن ينكسر
ولمن لا يعلم نذكره بأن الأبيات الرمزية الأخيرة التي عانقت الحبكة الفنية قد كتبها الصينيون منذ سنوات على حيطان سورهم العظيم، و هذه الحركة البسيطة العميقة تعتبر في حد ذاتها تشريفا للشعر التونسي و العربي برمته. يذكر البعض من معاصري شاعرنا الكبير أنه متأثر إلى حد كبير بتوجه والده الصوفي رغم أن هذا المنحى صحيح مئة بالمائة إلا أن هذا المعطى لا ينسينا أن الشابي ولد حاملا معه مضامين قصائده وما النهج الديني الصوفي لوالده و تأثيره عليه إلا عنصرا من العناصر المكونة لتركيبته الفكرية و الأدبية التي جعلت منه قطبا بارزا من أقطاب الشعر التونسي و العربي الحديث، و حتى نعطي فكرة للقارئ عن العلاقة الوطيدة الحميمة بين الشابي ووالده و التي انتهت بشكل مأساوي عبر عنها الشابي بحسرة كبيرة، نورد فقرة من رسالة بعث بها إلى صديق عمره محمد الحليبي بتاريخ 25 سفر 1948 / أوت1929 حيث كتب:" في الصباح أجلس مع أبي الذي أـنهكه المرض و أضناه و مضه الألم.. فما أراه كذلك إلا وتملأ صدري الزفرات و تملأ عيني العبرات و تنطلق من قلبي المثلوم و صدري المكلوم أنات القهر و دعوات الرجاء الى الله خالق الحياة و الموت و باسط النور و الظلمات أن يشفي هذا الأب الواهم الطريح". كما رثاه بقصيدة " يا موت" افتتحها نثرا بقوله:" في صرخة من صرخات نفسي المملوءة بالأحزان و الذكريات و شظية من شظايا القلب المحطم على صخور الحياة قلتها في أيام الأسى التي تلت نكبتي بوفاة الوالد رحمه الله ومنها:
يا موت قد مزقت صدري و قسمت بالأرزاء ظهري / ورميتني من حالق و سخرت مني أي سخر
إن كنت تطلبني فهات الكأس أشربها بصبر/ خذني إليك فقد ضمئت بكأسك الكدر الأمر
(غرة أكتوبر1929)
علما بأن موت والده المفاجئ قد أثر فيه تأثيرا كبيرا مما جعله يدخل في حالة صحية محورها الكآبة و الإحباط و قد أصيب بعد ذلك أبي القاسم الشابي بمرض تضخم القلب وهو في الثانية عشرة من عمره وقد أوجب عليه الطبيب عدم تعاطي أي نشاط فكري ذهني ، إلا أن صاحب " أغاني الحياة" واصل ممارسة الكتابة الشعرية و النثرية، علما بأن مرضه السالف الذكر أجبره على عدم الاستقرار توزر بعد أن أشار إليه طبيبه بزيارة المناطق الجبلية و الغابية الأمر الذي جعله يتنقل إلى عين دراهم (1932) ومنطقة المشروحة الجزائرية (1933)، و زغوان ودار شعبان بالوطن القبلي و مجاز الباب. ثم عاد في نهاية المطاف إلى توزر. إن اللافت في تجربة الشابي الشعرية هو التصاقه بقضايا الحياة و هواجس المجتمع التونسي الرازح تحت الحيف الاستعماري دون أن ننسى تطرقه شعريا ونثريا إلى الأصوات الدينية المحافظة. و المتصفح لمحاضرته المتميزة" الخيال الشعري عند العرب" تدهشه الرؤية الفكرية الثاقبة إضافة إلى موهبته الشعرية الخلاقة المشهود لها من كبار النقاد في تونس و الوطن العربي، ذلك أن هذه المحاضرة تعبر عن تصوره النقدي و المعرفي للكتابة الشعرية و الأدبية عموما، بدءا بالتجذر في تفاصيل الحياة بجميع مساراتها و منعطفاتها، مرورا بالتكوين النقدي و الفكري المفعم بالأسئلة الوجودية الحارقة، وصولا إلى عتبات التألق و الريادة.
التعليقات (0)