عبـد الفتـاح الفاتحـي
لا أحد بإمكانه اليوم التكهن بمستقبل العلاقات المغربية الإسبانية على خلفية التصعيد المتبادل بين البلدين في مجال حقوق الإنسان وحريات التدين.
تصعيد تفجر غداة قرار المغرب طرد المدعوة أميناتو حيدر إلى التراب الإسباني، وما تلاه من تحول في الموقف الإسباني من مقترح الحكم الذاتي، ودعمه لجبهة البوليساريو، وتصعيد إسباني في منتديات الاتحاد الأوربي أزيد فيه إسبانيا على خلفية طرد المغرب لمنصرين ضبطوا متلبسين باستغلال الوضع الاجتماعي لأطفال صغار بتعليمهم المسيحية.
وكان هذا الحادث إعلان لانصرام الفترة الذهبية في العلاقات المغربية الإسبانية. إلا أنه بدل من إعادة الدفء إلى العلاقات بين البلدين، لوحظ انحراف في الدبلوماسية الإسبانية التي غيرت جملة من التزاماتها نحو التطبيع المغربي، وبرز ذلك جليا، في الموقف الإسباني الجديد من مقترح الحكم الذاتي المغربي. إضافة إلى انسيابية بيانات الهيئات الرسمية الإسبانية والمدينة منددة بما تسميه تراجع الوضع الحقوقي في الأقاليم الجنوبية للمغرب. وتحاملها الأخير على المغرب بشأن ترحيله لعدد من المبشرين إلى خارج ترابه، حيث تم ضبطهم في حالة تلبس بنشر المسيحية في أوساط قرية صغيرة أطفالها من الفقراء.
وارتفعت حدة التوتر بين البلدين بعد استدعاء وزارة الشؤون الخارجية والتعاون للسفير الإسباني بالرباط "لويس بلاناس بوتشاديس"، حيث أبلغه الطيب الفاسي الفهري وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي لدى استقباله "الاستياء القوي لحكومة الملك محمد السادس، وذلك عقب اللجوء، مجددا، إلى الاستعمال غير المقبول للعنف الجسدي ضد مواطنين مغاربة بنقطة العبور بمدينة مليلية المحتلة".
وتلى هذا الاستدعاء بلاغ وزارة الخارجية المغربية أشار إلى أن المواطن المغربي مصطفى بلحسن، وهو طالب في الثلاثين من العمر، قد تعرض بالفعل اليوم لاعتداء جسدي من قبل عناصر من الشرطة الإسبانية، وتم نقله إلى مستشفى مدينة مليلية على إثر تعرضه للضرب وإصابته بجروح. واعتبر أن التصرف الذي اعتمدته الشرطة الإسبانية لا يستند إلى أي مرجعية أخلاقية، ولكن من أسس عنصرية واضحة.
وذكر البلاغ بأن الأمر يتعلق بالحالة الثالثة التي يتم تسجيلها خلال أسابيع، إذ سبق لحكومة صاحب الجلالة أن عبرت رسميا، في 16 يوليوز الماضي، عن احتجاجها القوي عقب أعمال عنف جسدي ارتكبت في حق خمسة شبان مغاربة، مقيمين ببلجيكا خلال عبورهم لمليلية.
وأضاف البلاغ أن المواطن كريم لغظف، الذي كان مرفوقا بوالدته تعرض لممارسات مماثلة في 29 يوليوز الماضي عند نقطة العبور نفسها بمدينة مليلية المحتلة.
وكانت الحكومة المغربية قد سبق لها أن احتجت رسميا وبقوة لدى إسبانيا عقب تعرض 5 شبان مغاربة يقيمون في بلجيكا لاعتداء من طرف الشرطة الإسبانية خلال عبورهم نحو مليلية.
وقالت الخارجية المغربية في بيان لها إن الشبان المغاربة تعرضوا «لمعاملة سيئة وعنف جسدي» في مركز بني نصار قرب مدينة الناظور (شمال المغرب) عندما كانوا يريدون العبور بسيارتهم إلى مليلية في طريقهم إلى العاصمة البلجيكية بروكسل حيث يقيمون.
وذكر البيان أن الشبان الخمسة أصيبوا بجروح بعد تعرضهم للضرب، حيث نقلوا إلى مستشفى في الناظور وعولجوا هناك. وأشارت الخارجية المغربية إلى أن الشبان الخمسة كانوا يحملون علما مغربيا في سيارتهم عندما عبروا نحو مليلية، وأن الشرطة الإسبانية اعتدت عليهم بسبب حملهم لراية بلادهم.
ووصفت الخارجية المغربية ردة فعل الشرطة الإسبانية بأنها «تجاوز خطير ينافي كل القواعد الأخلاقية والأعراف» و«إن الحكومة المغربية تعرب عن احتجاجها الشديد على هذا التصرف غير المقبول» الذي لا شيء يبرره «بأي حال من الأحوال».
وكانت الشرطة الإسبانية قد أجبرت الشبان المغاربة على التخلص من العلم المغربي وتوجيه إهانات لهم بعد رفضهم التخلص من العلم. وبعد مناوشات كلامية مع الشرطة الإسبانية حضرت مجموعة من عناصر مكافحة الشغب الإسبانية في محاولة لنزع العلم بالقوة، مما أدى إلى تحول الأمر إلى ممارسة العنف والضرب المبرح في حق الشبان المغاربة.
وتمسك الشبان المغاربة الخمسة أمام القضاء الإسباني في مليلية بحضور محامي الدفاع في شكواهم ضد «العنف المفرط» الذي استخدمته قوات الشرطة الإسبانية ضدهم، وأشار محامي الدفاع إلى أن ما حدث جرى تسجليه من قبل كاميرات المراقبة الموجودة في المعبر الحدودي، وطالب بإنشاء لجنة قضائية بهدف استعادة شريط التسجيل، مشيرا إلى أن معاملة الشرطة للشبان المغاربة غير قانونية وغير مفهومة لأنها تتعلق بحمل علم بلد آخر.
ويسجل المهتمون بأن تكرار حوادث الاعتداء على شبان مغاربة عند المعابر الحدودية، يشير إلى الوضع المتوتر في المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية، خصوصاً منذ النداء الذي أطلقه رئيس الوزراء المغربي عباس الفاسي للدخول في مفاوضات مع إسبانيا حول مستقبل المدينتين.
وهو ما ردت عليه إسبانيا حينها بتأكيد أن المدينتين "جزء من السيادة الإسبانية"، فيما قام زعيم "الحزب الشعبي الإسباني" ماريانو راخوي بزيارة مليلية، في خطوة اعتبرت "استفزازية"، خصوصاً أن مدريد تدرك أن علاقاتها مع الرباط تضررت كثيراً نتيجة زيارات مسئولين إسبان إلى الثغرين المحتلين.
ويتوقع عدد من المراقبين مزيدا من التصعيد في العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ومدريد، بعد استدعاء وزارة الخارجية المغربية السفير الاسباني للاحتجاج على تكرار الاعتداء على شبان مغاربة على الحدود، وإن يكن حسب المراقبين أن هذه الوقائع ليست سوى إحدى القضايا الخلافية الكبرى بين البلدين التي تشمل المواقف الأخيرة لإسبانيا من مقترح الحكم الذاتي واتفاقً للصيد والجدل المتكرر في شأن مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين...
تصعيد برز جليا في تصريحات قوية عبر عنها دانييل كونيسا الناطق الرسمي باسم الحكومة المحلية بمليلية، دعا فيها حكومة بلاده للاحتجاج على المغرب بدعوى اختلاقه للحوادث الأخيرة على الحدود.
وأضاف كونيسا أن وزارة الخارجية المغربية قدمت روايات مشوهة ومغلوطة حول هذه المشادات وأن على السلطات المركزية الإسبانية دعم موقف العناصر الأمنية بالمراكز الحدودية المذكورة.
تصريحات قرأت مغربيا أنها تضليل ورفع لمستوى التحدي على المطالبات الرسمية والشعبية المغربية بتحسين الأوضاع على المعابر الوهمية بين الناظور ومليلية والاستنكارات المتتالية على التعسفات التي يتعرض لها المواطنون المغاربة بمراكز العبور نحو المدينة المحتلة.
بل ذهب كونيسا إلى حد تحميل الحكومة المغربية مسؤولية ما حدث لأنها لم تقم بما يجب لوقف اعتداء أشخاص وصفهم بغير متزنين على عناصرها الأمنية بالحدود!.
وتوقف عدد من المحللين كثيرا حول طبيعة لهجة المغرب حيال نظيرته اسبانيا، حينما ندد بتخلي الحرس المدني الإسباني على ثمانية مهاجرين منحدرين من دول أفريقية جنوب الصحراء بعرض سواحله وهم في حالة صحية جد متردية. وهو اعتبره المحللون أنها هذه هي المرة الأولى التي يعلق فيها المغرب على العمل اللانساني التي تقوم بها السلطات الإسبانية في حق أجانب من المهاجرين.
وأفاد بلاغ وزارة الشؤون الخارجية والتعاون أن دورية للحرس المدني الإسباني قامت بالتخلي بعرض السواحل المغربية، للجماعة القروية بليونش، على ثمانية مهاجرين منحدرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء في وضعية صحية جد متردية. ويتعلق الأمر بأربعة كاميرونيين وسنغالي وتشادي وغاني وغابوني.
واعتبر المغرب هذا التصرف بالوضعية الشاذة واللاإنسانية، حيال مواطنين في حاجة إلى إغاثة وإسعاف مستعجل. وهو ما دعا بالسلطات الإقليمية لعمالة المضيق الفنيدق، إلى التدخل لإغاثة ونقل هؤلاء المهاجرين إلى المستشفى الإقليمي من أجل تقديم المساعدات الطبية والاستعجالية لهم والتكفل بهم.
واتهم البلاغ الحرس المدني الإسباني بالتصرف اللاإنساني الذي يتنافى واحترام كرامة وحقوق الإنسان والاتفاقيات الثنائية المبرمة بين البلدين في ميدان تدبير الهجرة، والذي يعكس في الواقع النزعة العنصرية التي تطبع تدخلات الحرس المدني الإسباني.
ويتوقف عدد من المتتبعين في محاولة لحصر أسباب ودواعي التشنج في العلاقات المغربية الإسبانية الأخيرة، إذ سجل تصعيد متبادل، المثير فيه قرار الرباط منازلة مدريد في المجال الحقوقي التي تدعي إسبانيا أنها حاميته في المغرب.
وهو ما بدا واضحا لعدد من المحللين في تزايد أسباب التصعيد من المغرب وإسبانيا وإن كان في قضايا وأحداث محدودة وبسيطة. وبدأ ذلك التوتر في أحداث تم حسمها رسميا إلا أن تداعياتها على المستوى الشعبي ترجمت حقيقة حجم الأزمة السياسية بين البلدين.
ورأت الرباط أنه لم يعد من الطبيعي الوقوف موقف المتهم المدافع عن نفسه، بل أنها في حاجة إلى اعتماد لهجة جديدة، بعد التحامل الإسباني على المغرب، نشب بعد استغلال اسبانيا تعليق المغرب لافتة كتبت عليها عبارة "مليلية المحتلة" في معبر بني أنصار الواقع على الحدود الوهمية مع مدينة مليلية السليبة. حيث وجدتها سلطات الاحتلال مناسبة لإثارة موجة من الاحتجاجات، حين اعتبرت أن ما كتب على اللافتة لا يتماشى مع العلاقات الجيدة التي تجمع بين مواطني الضفتين حسب ما أفاد به دانييل كونيسا الناطق الرسمي للحكومة المحلية للثغر لوسائل الإعلام الأسبانية.
وكانت إسبانيا مؤسسات وبعض الأحزاب قد قادت حملة للتشهير بالمغرب في منتديات الإتحاد الأوربي بعد ترحيل المغرب لمجموعة من المنصرين خارج ترابه، وبعد أن اتهمت المغرب بأنه لا يسمح بحرية التدين فيه، ودعت إلى تعليق المساعدات الأوربية المقدمة إليه وتعليق صفة الوضع المتقدم إلى حين قبوله بعودة المبشرين إلى أراضيه.
ورأى عدد من الملاحظين أن اسبانيا استغلت الموضوع بما يعكس توظيفا عدائيا، ذلك أن حجم الضغط الذي لم يتسرب إلى الأوساط الإعلامية المغربية، ولكنه ترجم بقوة في توشيح جلالة الملك في عيد العرش عدد من الراهبات الإسبانيات والبرتغاليات بأوسمة ملكية على الأعمال الخيرة والاجتماعية التي يقومون بها.
وتشير عدة تقارير أن المغرب قد عانى كثيرا بفعل الحملة الإعلامية والدعم السياسي الذي لقيه المبشرون المرحلون من قبل الحكومة الإسبانية وأحزابها.
وأكدت هذه التقارير أن معاناة المغرب كانت حقيقية في وقت تم فيه التهديد بتعليق المساعدات الأوربية وصفة الوضع المتقدم لدى الاتحاد الأوربي بقبول المغرب عودة المبشرين إلى أراضيه، استفزازات ومساومات أحزاب وجهات حكومية إسبانية جعلت وضعية العلاقات المغربية الأوربية في مرحلة الخطر.
كما أن القراءة الأولى لنص البلاغ المتعلق بتخلي الحرس المدني الإسباني عن المهاجرين في عرض البحر، إعلان لمواجهة حقوقية بين المغرب واسبانيا، وهو ما يعكس اختلاف وجهات النظر الرسمية حول ملف حقوق الإنسان وأن وجهات نظرهما حول هذا الموضوع على غير ما يرام، بل وأنها تشكل مصدر انزعاج حقيقي وجب الانتباه إلى تداعياته.
وتشير هذه القراءة إلى أن المغرب بدا في وضع الهجوم في سياق رده على الادعاءات الإسبانية، حيث ارتأى أن يتعامل مع الغريم الإسباني بالمثل، ولذلك أراد بلاغ وزارة الخارجية المغربية فضح الممارسات العنصرية التي يرتكبها جهاز دولة تنتمي إلى الإتحاد الأوربي وتدعي حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها.
وتواصل الاتهام المغربي لنظيرته الإسبانية بوصف ذلك التصرف بالعنصري واللانساني في حق مواطنين أجانب كانوا يهمون بالهجرة السرية إلى اسبانية.
وبالقدر ما اعتبر هذا هجوما حقوقيا صرفا، إلا أن بعض المحللين رأوا فيه تنبيها مغربيا لإسبانيا إلى الدور الهام الذي يقوم به في حماية سواحلها من توافد الهجرة السرية، التي كانت تقدر بالمئات إلى أمد قريب جدا، لولا فعالية الأداء المغربي في مكافحة الهجرة السرية. أي إن المغرب قد استشعر اسبانيا بوضوح من تداعيات مهاجمتها له في المنتديات الأوربية واستمرار دعمها الكبير لجبهة البوليساريو.
ويرى عدد من المتتبعين أن هذا التحليل يجد رزانته في كون المغرب لم يسبق أن صدر عنه أي بيان يخص سلوكات الإسبان حيال المهاجرين السريين، حتى في وقت ارتفاع أعدادهم نحو إسبانيا، وفي وقت كانت عدة شهادات لمهاجرين أشارت إلى أن الحرس المدني الإسباني كان يرمي بالكثيرين منهم في عرض البحر وهم أحياء بدافع الانتقام حينما يضبطونهم متلبسين فوق البواخر.
ولم تكن تباشير الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا حديثة، ولكنها انطلقت منذ أزمة أميناتو حيدر، حيث سجل تراجع في مواقف الحكومة الإسبانية من مقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، وعادت حكومة زاباتيرو لتتراجع عن عدد من المواقف، وتساند ما تسميه دعوات تحسين الوضع الحقوقي في الأقاليم الصحراوية وإصرارها على دعم واستقبال الجمعيات ذات النزعة الانفصالية.
هذا التوتر تعزز بإبداء الحكومة الاسبانية رفضها لتعيين المغرب لأحمد ولد سويلم العائد مؤخرا من جبهة البوليساريو إلى المغرب بمدريد، لكن حكومة الرباط أصرت على اختيارها ذلك ليستمر الوضع بدون سفير مدة شهور طويلة لا تعكس حجم التعاون بين البلدين، إلا أن قبلت اسبانيا بالسفير الجديد المغربي مبدية تحفظاتها على اختيار الرباط.
محـلل سياسـي
elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)