من المقرر أن يعقدَ في هذا اليوم الثلاثين من هذا الشهر مؤتمر دولي في جنيف لدراسة الأوضاع في سوريا، تشارك فيه كثير من الدول ذات العلاقة، وذات التأثير على الأطراف المتصارعة في سوريا.. ولعل المراقب المتتبع لسير الحوادث والأحداث المتفاقمة في سوريا يدرك مدى التباينات والخلافات في المواقف والتوجهات لدى كثير من الدول التي تشارك في هذا المؤتمر؛ ففي الوقت الذي ستنطلق فيه كثير من الدول الغربية ( ومعها بالطبع أتباعها وحلفاؤها من العرب الذين يناصبون سوريا العداء) مما تسميه مرحلة ما بعد الأسد، وهي تعني بذلك إسقاط النظام السوري الحالي، واستبداله بنظام، وربما بأنظمة، أكثر اعتدالاً، وأكثر مرونةً، وأكثر استعدادًا لتقبل الحلول الغربية، وأكثر تناغمًا معها، واستجابة لها، وأكثر انسجامًا مع هذه الأنظمة الرسمية القائمة من حوله، وفي الوقت الذي ستصر فيه هذه الدول الغربية، ومعها حلفاؤها وأتباعها من العرب، على التخلص من هذا النظام السوري الذي تتهمه بقمع المواطنين السوريين، والاعتداء عليهم، وبقتل الأطفال، والتنكيل بهم، نجد دولاً أخرى في هذا المؤتمر تقف إلى جانب سوريا، وإلى جانب النظام، وإلى جانب رأس هذا النظام تحديدًا، ونجد أن هذه الدول تصر على ضرورة أن ترفع كل القوى الخارجية يدها عن سوريا، وضرورة أن يقرر السوريون مصيرهم بأنفسهم، بعيدًا عن كافة المؤثرات الخارجية غربيةً كانت أو عربية، وضرورة أن تكف كل هذه القوى الخارجية عن تزويد ما تسميه المعارضة السورية، أو الجيش السوري الحر بالمال والسلاح والدعم اللوجستي، وضرورة أن تلزم كافة الأطراف الخارجية الحياد التام، كي يتوصل السوريون داخل سوريا إلى الحلول التي يرونها مناسبة لكافة القضايا الخلافية التي كانت مثار جدل على مدار العقود القليلة الماضية.
كثير من السوريين داخل سوريا وخارجها، وكثير من الفلسطينيين واللبنانيين والأردنيين والعراقيين، وكثير من العرب على امتداد الوطن العربي، وخارج حدود هذا الوطن الكبير يعتقدون أن النظام السوري هو خير الأنظمة العربية، لأنه: نظام عربي عروبي وحدوي، ولأنه نظام يدعم المقاومة والممانعة في سائر أقطار بلاد الشام، وفي سائر أقطار العروبة والإسلام، ولأنه نظام لا يؤمن في كثير أو قليل بالإقطاع، وسيطرة رأس المال، والتبعية لأحد، ولأنه نظام يأكل فيه الناس مما يزرعون، ويلبسون مما يصنعون، وهو نظام غير مدين لأحد، بل على العكس من ذلك؛ فإن كثيرًا من العرب يعرفون جيدًا ما يقدمه لهم هذا النظام من وسائل العيش ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولأنه نظام يوفر لكافة الناس في سوريا كل ما يستطيع توفيره من مأكل ومشرب ومسكن وعلاج قد يشمل زراعة الأعضاء حيث توجد، ولأنه نظام يفتح المجال أمام الطلبة دون تمييز أو استثناء لمواصلة دراساتهم العليا حتى الدكتوراة، في الوقت الذي نرى فيه كثيرًا من الطلبة المتفوقين في كثير من ديار العروبة يهجرون جامعاتهم لعدم مقدرتهم على دفع الأقساط الجامعية!! وفي الوقت الذي نرى فيه أن المقاعد الجامعية تباع في هذا البلد أو ذاك لمن يستطيع أن يدفع الثمن!! وليس هنالك حاجة لمزيد من الشرح والتوضيح؛ فالناس يعرفون كل هذا وكثيرًا غيره، وإن كانوا يفضلون الصمت لأسباب يعرفونها ونعرفها ويعرفها الناس في هذا العالم الذي طغت فيه المصالح الشخصية، وحكمته الأهواء والميول والأمزجة، واستبدت به الولاءات والتبعية لهذا ( السيد) أو ذاك (الزعيم)، ولهذه ( الشركة) أو تلك ( المؤسسة)، ولكن من الطبيعي أن هذا الصمت لن يستمر إلى الأبد، ولا بد للأبكم أن يتكلم، ولا بد للمصدور أن ينفث، ولا بد للنائم أن يستفيق، وللمظلوم المأزوم أن يتظلم، وأن يشكو، وأن يصرخ في وجوه كل الأدعياء: كفى، فقد طفح الكيل.. كفى، فقد وصل السيل الزبى.
وإذا كان هذا هو شأن كثير من المواطنين العرب داخل سوريا وخارجها، وإذا كان هذا هو شأن كثير من السوريين داخل سوريا وخارجها؛ فإن هذا أيضًا شأن كثير من الدول الصغرى والكبرى في الوطن العربي، وفي هذا العالم.. فإذا كانت دول غربية، ومعها أنظمة عربية تابعة تناصب سوريا كل هذا العداء لأسباب تعرفها الدنيا كلها، فإن هنالك دولاً شرقية كبرى ترى غير ما يرى هؤلاء، وإن هنالك دولاً وشعوبًا عربية وغير عربية ترى غير ما يراه الغربيون وأتباعهم وحلفاؤهم من المحسوبين على العرب والعروبة.. فماذا ستكون نتيجة هذا كله في هذا المؤتمر إذا أصر الغرب على عدوانه، وإذا أصر الغربيون على العبث بسوريا، وإذا أصر كل هؤلاء الخصوم على مواصلة اعتداءاتهم ضد هذا القطر العربي السوري؟.
أغلب الظن أن الغالبية الساحقة من السوريين، والغالبية الساحقة من العرب، والغالبية الساحقة من سكان هذه الدنيا ممن يفهمون الحقيقة، ويعرفون جيدًا طبيعة ما يحدث في هذه الديار يرفضون كل أشكال التدخل ومحاولات فرض الوصاية الأجنبية، والهيمنة الأجنبية على سوريا العربية، فإذا أضفنا إلى كل هذا الزخم الشعبي الجماهيري الواسع دولاً كثيرة في هذا العالم تقف إلى جانب هذه الشعوب بكل قوتها؛ فإننا ندرك بالتالي أن مؤتمر جنيف لا يمكن أن يعيد إلى سوريا أمنها المنشود، وسلامها المفقود إلا إذا تنازل أولئك الغربيون عن أوهامهم وأحلامهم، وتنازل معهم أتباعهم وأعوانهم وأدواتهم من المستزلَمينَ الكاذبينَ المزورينَ الحاقدينَ عن تدخلهم في الشأن السوري الداخلي، وفي الشأن العربي القومي التقدمي الوحدوي العروبي.. لقد أعلنها بوتين، وكافة المسئولين في الاتحاد الروسي مرارًا وتكرارًا صريحة مدوية أنهم يقفون إلى جانب سوريا، وأنهم لن يسمحوا لأحد بالتدخل في الشأن الداخلي السوري، وأنهم لن يكونوا بحال من الأحوال إلى جانب العدوان والمعتدين على سوريا العربية، وسائر حلفائها وأصدقائها في هذه المنطقة من العالم.
إن كثيرًا من الدول المشاركة في مؤتمر جنيف قد أخطأت كثيرًا وهي ترحب بذلك الطيار الذي هرب بطائرته، وأخطأت كثيرًا وهي تؤكد أن هذا الطيار الهارب لن يكون الأخير، ولقد أثبتت تلك الدول أنها تجهل كثيرًا من الحقائق المتعلقة بهذا الملف، وكأن هذا الطيار هو الأول من نوعه في هذه الدنيا! ويقينًا فإنها قد نسيت قصة ذلك الطيار الذي هرب بطائرته من العراق إلى (إسرائيل) عام ستة وستين.... ونسيت قصة أكثر من طيار عربي هرب بطائرته إلى مصر في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ونسيت، أو تناست قصص كثير من الطيارين في هذه الدنيا ممن هربوا بطائراتهم لهذا السبب أو ذاك، ثم نسيهم الناس فيما نسَوا من أحداث.
وإن كثيرًا من الدول المشاركة في جنيف قد أخطأت، وهي تتحدث بطريقة استفزازية عن الطائرة التركية التي أسقطتها وسائل الدفاع الجوي السورية ، وأخطأت أيضًا وهي تتحدث بطريقة فيها من التهديد والوعيد ما فيها!! رغم أن ما حدث هو أمر أكثر من مؤسف، وعلى الرغم من حق سوريا المطلق في التصدي لمثل هذا الهدف المجهول الذي أضحى على بعد أقل من كيلومتر واحد من سواحلها متجهًا نحوها بسرعة جنونية، وعلى الرغم من أن هذا الهدف ربما كان يشكّل كارثة جوية تصيب هذه المدينة أو تلك في القطر العربي السوري، ولو أن كارثة كهذه قد حدثت، فماذا كان من الممكن أن يقول كل هؤلاء؟ وما هي التفسيرات والتأويلات والاتهامات التي كان من الممكن أن يوجهوها لطيار سوري مزعوم قصف مسجدًا ، أو جامعة، أو مدرسة، أو محطة لتوليد الكهرباء، أو سدًّا يروي عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، أو مخيمًا من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق، أو روضة أطفال يضيفونها إلى سلسلة المذابح التي اقترفها أعداء سوريا، وألصقها إعلامهم برجال الجيش السوري، والأمن السوري الذي يتصدى منذ خمسة عشر شهرًا لمؤامرات المتآمرين على بلد لا لشيء إلا لأنه يقول ربي الله، ولا لشيء إلا لأنه بلد عربي حر كريم يفتح أبوابه لكل العرب الشرفاء، ويغلقها، وسيستمر في إغلاقها في وجوه المعتدين الحاقدين الذين يكيدون له، ويناصبونه العداء!!.
مؤتمر جنيف قد يكون منطلَقًا لإشاعة الأمن والأمان والسلم الأهلي في سوريا إذا رفعت كل قوى الطغيان والعدوان يدها عن هذا البلد، وإذا أحسنت التفكير في عواقب ما قد تؤدي إليه هذه الفتن العمياء التي تثيرها فيه، وإذا هي أدركت جيدًا متانة هذا النظام وقوته وتماسكه والتفاف كثير من الناس من حوله، وإذا هي أدركت مدى إصرار الاتحاد الروسي والصين وغيرهما من الدول الشريفة في هذا العالم على حماية سوريا من كل عدوان خارجي.. وبغير ذلك فإن هذا المؤتمر قد يكون سببًا في مزيد من التوتر والتصعيد، ومزيد من الدمار والانهيار الذي قد يصيب كثيرًا من الأقطار في هذا العالم، وكثيرا من الأقطار والأنظمة والكيانات في هذه المنطقة من العالم أيضا.
30/6/2012
التعليقات (0)