مأساة الحرية بين مصر وسوريا
كمال غبريال
أقدر أحرار سوريا وأتعاطف معهم، هؤلاء الذين يشاركون الآن في ثورة يتسيدها الإرهابيون، الذين يفجرون ويقتلون على الهوية، وينتوون تحويل سورياً إلى أفغانستان جديدة، تكون ملجأ آمناً للإرهابيين، وتصدر الإرهاب للعالم، وتقتتل طوائفها فيما بينها، كما وأنني لست نادماً على تأييدي ومشاركتي في هوجة 25 يناير المصرية، رغم أن تحذيرات مشابهة لما نحذر منها أحرار سوريا والعالم الحر عموماً الآن، قد طرق بها الأصدقاء مسامعنا محذرين، وكنا ننظر إليهم كما ينظر ثوار سوريا الأحرار الآن لأمثالي، متهمينهم بالخنوع ومساندة حكم بوليسي نازي كحكم العائلة الأسدية.
هل تبدو الفقرة السابقة محيرة ومتناقضة، أو هل تبدو وكأنها دفاعاً مستميتاً ومتهافتاً عن مواقف أدت وستؤدي لنتائج كارثية على شعوبنا؟!
بالتأكيد ليست الإجابة بنعم على هذا التساؤل هي التفسير الصحيح للدافع وراء هذه السطور، فلقد أعلنت شخصياً وفي أكثر من مناسبة اعتذاري لكل من ضللتهم مواقفي من ثورة لم تكن تلك التي تمنيناها وسعينا إليها، فالخطأ هو الخطأ لا يحتمل تبريراً، لكننا هنا لا نبغي فقط بحث ما جعل أمثالي في مصر ونظرائنا في سوريا وقبلنا في تونس نرتكب هذه الأخطاء، لكن أيضاً أن نتدارس حالة شعوبنا، والفارق الشاسع بين ما تحتاج إليه وما تقدر عليه، أو ما تسمح به ظروفها وموازين القوى داخل مجتمعاتها.
المفكر أو الناشط السياسي الذي أنفق عمره مبشراً بدعوة الحرية وكسر القيود، مهما كانت نظرته العميقة لواقع الشعوب المتردي، واحتياجها قبل الثورة على نظمها وحكامها إلى الثورة على نفسها، على ثقافتها وسلوكياتها وقيمها وما يسمى ثوابتها، وهي الثورة التي إذا ما أنجزتها لابد وأن تسقط النظم البغيضة والمتخلفة تلقائياً كما تتساقط أوراق الخريف، فالنظم السياسية مهما كانت مفارقة لطموحات شعوبها، إلا أنها لا يمكن أن تكون غير ثمار أنتجتها أشجار الشعوب، إلا أنه من غير المتصور أن تُقعد مثل هذه الرؤية داعية الحرية عن المسارعة بالوقوف مع الثائرين من شعبه.. ليس الأمر هنا أمر حماسة جياشة بالطبع، لكنه أعقد من ذلك، فكيف للثورة الحقيقية الشاملة عميقة الجذور التي يتطلع إليها أمثالنا أن تحدث في ظل حالة التكلس والتجميد التي فرضتها على شعوبنا النظم الشمولية الصدامية والأسدية والقذافية وأهون الكل المباركية؟!!
الحركة أو الانفجار مطلوب هنا بداية، وهو ما دعى إليه المتطلعون لفوضى خلاقة، ورغم أن شعوبنا لم تستكمل شروط حدوث حالة "الفوضى الخلاقة"، وهو ما سبق لنا إستعراضه في أكثر من مقال، إلا أن الحركة من حالة التجمد أو التعفن تظل مطلباً ابتدائياً جوهرياً لا حيود عنه، فالأمر أشبه بركون سفينة على شاطئ موبوء بالعقارب والثعابين، فيكون على ركاب السفينة عندها الإبحار مغادرين هذا الشاطئ إلى غير رجعة.. هنا لا موجب للتحذيرات المطالبة بالعقود، بحجة أن دراسة تيارات البحر واتجاهات الريح وشدتها تنبئ بأنها سوف تجرف السفينة لترتطم بصخور تبدو ظاهرة هناك عند خط الأفق.
عند هذه النقطة تحديداً من رحلة سفن شعوبنا المغادرة موانئ الطغيان والتخلف تختلف مواقف أحرار كل سفينة حسب تقدمها في رحلتها، فإذا كنا قد اتفقنا أن الأحرار في كل بلدان المنطقة (من كل السفن الأسيرة في موانئ الطغيان) لابد وأن يدعموا الحراك الشعبي مبدئياً، وإلا فقدوا كينونتهم كدعاة حرية وتحرر، فإنه بعد بداية الرحلة في بحور الثورة، ليس مطلوباً من المفكر الحر أن يترك نفسه للريح وللتيارات البحرية تدفعه مع السفينة إلى حيث تشاء، أو أن عليه أن يلتزم الصمت والتأييد المطلق حتى إذا رأى سفينة بلاده تندفع بسرعة نحو صخور توشك أن تحيلها إلى حطام.
نعم أتعاطف وأقدر موقف أحرار سوريا في تأييدهم ومشاركتهم في الثورة السورية، لكنني شخصياً وقد كان لي موقفاً مماثلاً لموقفهم من ثورة بلادي، فإنني لم أستمر طويلاً مؤيداً هاتفاً دون نقد وتحذير من انحراف خط الثورة عن مبادئها المعلنة، وظلت نغمة نقدي تعلو تدريجياً مع اقتراب السفينة المصرية من مراحل الخطر قرباً من الصخور النارية البارزة نتوءاتها كحراب في انتظار جسدها الهش والمنهك، حتى وصلت قرب النهاية وقبيل سقوط بلادي في يد جماعة الإخوان المسلمين إلى الرفض المطلق لكل ما كان، فيما عدا بالطبع حتمية الحركة والتحرك من ميناء الطغيان، دون أن يعني هذا الاستمرار في دعم الحركة باتجاه الجحيم أو الفناء، كما فعل ويفعل البعض الآن في مصر، ولا نستطيع أن نمنع أنفسنا من النظر إليهم باحتقار وازدراء.. هما إذن موقفان متضادان لا ينفي أحدهما الآخر ويخطئه، موقف التأييد لهبة شعوبنا مطالبة بالحرية ومحطمة لأغلال الطغيان، وموقف الرفض لانجراف بلادنا إلى هاوية طغيان أشد هولاً وتخلفاً.. هي إذن معضلة الأحرار أو مأساتهم التي أتى بهم إليها "شتاء" قارس البرودة سميناه "الربيع العربي".
لست أدري إن كنت قد نجحت في تحليل وتفسير وإيضاح هذه القضية الملتبسة أم زدتها تعقيداً، فأنا حقيقة لا أستشعر الندم، بل وأستشعر الفخر لحماسي الفوري للثورة، ومشاركتي في فعالياتها بقدر ما قدر لي من جهد.. استشعر الفخر أن حكمة السن ورحلات الفكر وكل تحليلاتي السياسية لم تحاصرني في زنزانة المحافظة والتقليدية، ولم تقعدني عن الالتحاق بجيل أبنائي وهو يهتف ويجأر مطالباً: "عيش. حرية. كرامة إنسانية"، لقد كان الشباب في أوج المظاهرات يهتف منادياً الواقفين في شرفات العمارات قائلاً: "يا أهالينا انضموا لينا"، وكنت سعيداً أنني أحد هؤلاء الأهالي، لكنني مع الذين يطالبون الكهول بالانضمام للثورة، كما لو كنت بعد ذلك الشاب الذي كنته في مظاهرات الطلبة عام 1968.. هتفت معهم، وهتفت وهم يرددون من خلفي "حرية. حرية. حرية"، فكيف يمكن أن أنسى هذا أو أتناساه أو أندم عليه، حتى لو أعقب ذلك أسوأ انكسار وأفدح هزيمة للشعب المصري في العصر الحديث، وما ينتظر سورياً أنكى وأشد هولاً؟!!
الولايات المتحدة- نيوجرسي
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات (0)