جنحت المخيلة البشرية الى الفكر الطوباوي فنسجت رؤية فيها وعد لانشاء مجتمع متكامل مبني على مركزية قيم متعددة شخصية كالسعادة والهناء والعدل والمساواة او سياسية كالحرية والكرامة او اجتماعية كاللحمة والتعاضد او اقتصادية تتمركز حول انتفاء العوز وتأمين الحاجات الاولية او دينية ترتبط بتثبيت منظومة اخلاقية متصلة بقيم دينية وعبادات ومعاملات ومن أهم خصائص الطوباوية انها تعتمد على العمل كوسيلة لتحقيق مجموعة الاحلام على المستوى الشخصي والاجتماعي والسياسي والديني والاقتصادي فكل الطوبيات وعود تعتمد على مشروع قد يظل فكريا او يتبناه البعض عمليا وقد تنتفي من بعض الطوبيات احدى الركائز لكنها تظل تدور في فلك الفكر المستشرف لمستقبل خذ مثلا المدينة الفاضلة بشقها الافلاطوني او المعرب الفارابي حيث فيها نظرة سياسية للحكم ومنهجه او الطوباوية الماركسية التي تفرض نمطا لتحرير طبقي من تسلط طبقة على اخرى او الطوباوية القومية التي ترتكز على لحمة الجماعة المشتركة بالاصل والتاريخ والتراث.
وكلها قد تكون طوباويات تنأى بنفسها عن الخوض في الاخلاق الفردية لكنها تستشرف مجتمعا تعتقد انه متكامل كمشروع نهضة جديدة. وهناك ايضا الطوباويات الموغلة بلغة السوق وما توفره من استهلاك مادي تبني على اساسه منظومة اشباع الرغبات والحاجات كوسيلة لانتشال البشر من عوز تعتقد انه مكبل للابداع والاكتفاء كما هو حال الطوباوية الليبرالية بمنظومتها الجديدة. وهناك ايضا الطوباوية الدينية التي تعتبر انها متكاملة تحرر الفرد من عبودية الفرد للفرد وتحسن منظومته الاخلاقية وتنظم علاقاته الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وما يجمع هذه الطوباويات كمشروع فكري - عملي يتركز على رغبة انسانية لاستشراف مستقبل افضل مبني على مبدأ تحقيق جنة الله على الارض.
وقد تستقوي هذه الافكار الطوباوية لفترة وتستقر كمشروع لكنها تتعرض للهزيمة او التراجع في مراحل تاريخية معينة لتحل محلها طوباوية جديدة فيها نشاط جديد ينبثق على انقاض طوباويات متهالكة سابقة لها زمنيا او قد تتناحر المنظومات فيما بينها لتستحوذ على المخيلة البشرية كبديل لفكر طوباوي مهزوم او فاشل. وقد تتبنى قوة سياسية فكرا طوباويا وتجعله مشروعها القادم وتجند له آليات ومؤسسات تفعله على ارض الواقع. وقد ينهار المشروع الطوباوي لكن آلياته تظل صامدة لفترة ما مما يعجل بمأزق طوباوي تسقط منظومته الاولى دون ان تحل محله مشاريع جديدة اما بسبب العقم الفكري او بسبب التشبث بوهم وسراب يضمن استمرارية مشروع بدأ يتآكل ويتصدع. من هنا يأتي حديثنا عن الطوباوية السعودية كما بدأت في القرن العشرين وتمركزت كمحور للشرعية السياسية تضمن السيطرة على الجزيرة العربية واحكام قبضتها على المجتمع معتمدة على وعد كبير ومستقبل مشرق. استنجدت الطوباوية السعودية اول امرها بالمشروع الاسلامي ومن ثم بالرأسمالية العالمية ومبدأ الطوباوية الليبرالية الاقتصادية. فجمعت ثنائية لطوباويتها قد تبدو عجيبة لكنها تمركزت كمحور لتمرير مشروع سياسي يحقق المستقبل كما تخيلته تحت غطاء الخطاب الطوباوي الواعد اولا بتنقية المجتمع من البدع والرذيلة واقامة الشريعة كاطار ينظم العلاقات والمعاملات والعبادات وثانيا باقامة منظومة اقتصادية نفطية الركيزة تنتشل المجتمع من فقر مزر وعوز مهلك ففتحت السوق له من مبدأ الليبرالية الاقتصادية المنفتحة وحولت الانسان الفاضل الموحد الى مستهلك ينعم بخيرات العالم وما لذ وطاب منها تحت مصطلحات تنمية مبهمة وشعارات كبيرة. وبالاضافة للشق الديني والاستهلاكي كركيزتين للطوباوية السعودية نجد ان السلم والامن الاجتماعي تصدر مؤخرا مشروع تسويق الطوباوية هذه حيث شعار الامن والامان اصبح يستهكل كخطاب دعائي يضمن تبني المنظومة رغم تصدع الامن الشخصي واستمرارية انتهاكه خاصة من قبل الجهات الحاملة للمشروع الطوباوي ومؤسسات الترويج له.
فصورت الطوباوية السعودية المجتمع بدونها وكأنه مجتمع متوحش سيتقاتل ويتناحر ساعة انهيارها او تصدعها تماما كما كان قبلها في عملية اعادة صياغة لتاريخ الجزيرة كتاريخ شرس متقاتل فالماضي المصور وكأنه أسود كالح سيعود بشراسته ليهيمن على المجتمع ونفيك به في الحاضر والمستقبل لحظة التشكيك او النقد للمشروع الطوباوي السعودي. وكغيرها من الطوباويات الشمولية تلازمت الطوباوية السعودية مع القهر والخضوع الكلي للفرد في سبيل مشروع جماعي مستقبلي فترويض الفرد وكسر شوكته حالة ملازمة للمشاريع الطوباوية مهما كانت مصادر الهامها وينابيع معرفتها وبما ان الطوباوية السعودية قد تسلقت على المشروع الديني منذ بدايتها نجدها قد اضفت على نفسها صيغة مقدسة قد توقع ناقدها او المشكك بمشروعها في غياهب الكفر والخروج من الملة على عكس الطوباويات البشرية الاخرى والتي حيرت المشروع الديني في خطابها وجعلته مشروعا فرديا شخصيا لذلك جاءت هذه المنظومة بالمقدس لتزجه في منهج بشري يتزلف الى المقدس ويربط بين البشر والمنهج في عملية تورط المشكك بها وتسبغ عليه صفات الخروج على الدين والثوابت وتضمن بذلك صمت المجتمع على اختراقاتها هي للمقدس تحت ذريعة عدم فهم الآخرين لقواعد المنظومة او حتى خروجهم عليها كليا. واستنجدت المنظومة السعودية مؤخرا بالنعمة الاقتصادية وخطاب الامن والامان لتتماهى في تطويع المجتمع اولا بتمني الفرص الموعودة استهلاكيا وثانيا بالتخويف والتهويل من خطر التفكك والتناحر الذي يأتي بغيابها كأمر حتمي مكتوب على المجتمع ان شكك في طوباويتها او حتى تخيل بديلا عنها كمشروع مستقبلي.
ورغم استماتة المشروع الطوباوي السعودي في الحجر على المجتمع تحت ذريعة تحصينه من تخيل طوباوية اخرى لدرجة استعمال العنف كرادع للمخيلة او لتبني منظومة مستقبلية اخرى نجد منظومة السلطة تتصدع تحت وطأة عوامل اجتماعية ساهمت في تفكك الطوباوية السلطوية وبداية انهيارها امام الفجوة بين الوعود الوهمية والواقع على الارض وكلما اتسعت الفجوة تتآكل هذه المنظومة الى ان تأتي لحظة انهيارها كليا. ونجد ان الطوباوية المتأسلمة ذات الصبغة المقدسة قد فشلت في تمكين مجتمع الفضيلة الموعود او الفاضل المتوقع خاصة وان المصادر الرسمية تنقل لنا صورة سوداوية عن المجتمع وتستعرض آفاته الشركية والمحبطة والتي دفعت العشرات الى سلك طريق الانتحار او التآكل الاسري والانهيار في اوساط اجتماعية معينة ناهيك عن تعثر المشروع الليبرالي الاستهلاكي الذي وعد بالرغد لكنه جاء متقلصا استفادت منه طبقات اجتماعية على حساب طبقات اخرى فالنهضة التنموية وان تباهت باعمار الارض الا انها انحسرت عند مشروع اعمار البشر فكريا وعلميا ومعرفيا رغم بزوغ طبقات صغيرة علميا واقتصاديا وتمكينها بطريقة انتقائية همشت شرائح كبيرة ظلت على هامش التنمية تستجدي مكانا لها في طوباوية السوق المفتوحة.
واول ما يبدأ انهيار الطوباويات نجده يضرب المروجين لها والمتبنين لمشروعها عندما تتآكل كاريزما هؤلاء خاصة وان مثل هذه الكاريزما تحتاج الى عملية تجديد دائمة حتى لا تفقد بريقها وهذا ما يحصل حاليا على الساحات الطوباوية السعودية حيث تبدو متخبطة متشعبة فاقدة القدرة على اعادة صياغة ذاتها باسلوب يعيد اليها بعض هذا البريق في غياب الانجاز الحقيقي. وما يزيد الامر تعقيدا هو زحف افكار طوباوية اخرى وامتلاكها للمخيلة المحلية خاصة وأنها تتعرض لمدة عامين لمشروع الكاريزما الجماعية تحت منظومة الشعب يريد او الجمهور يفرض نفسه وهي منظومات جديدة تمخض عنها الحراك العربي في دول الجوار الاقليمي هذا بالاضافة الى المشاريع التي بدأت تحيد الطوباوية السعودية بشقها المقدس والذي تجرأ البعض على التشكيك بكونه المشروع الوحيد تحت تفسيرات احادية لنصوص المقدس فطرح هؤلاء بديلا تفسيريا لاحادية المشروع السعودي والذي تغنى ان يكون هناك رأي آخر او اجتهاد جديد بل حارب كل من تقدم بطرح مغاير يقوض عملية احتكار المقدس والتي كانت من اهم ركائز المشروع السعودي الطوباوي. هذا التحول الجديد جاء ملازما لانفتاح معرفي وفرته وسائل تواصل جديدة كانت مغيبة في المجال السعودي حيث سعت المؤسسات السعودية على الحجر على الكلمة والفكرة واتهمت اي تجديد فكري بالمؤامرة الخارجية التي تقوض ليس الامن فقط بل حتى الاسلام ذاته فمن اتهامات التغريب او الفهم الخاطئ للدين مرورا بمخططات ما يسمى المتربصين اعداء الامة خلقت الطوباوية السعودية حالة ذعر من كل جديد ومتجدد لتضمن هيمنة فكرية تستحوذ على المخيلة البشرية فالجديد يحتاج الى موافقة الحاجب الرسمي ليصبح مستساغا ومقبولا. لكن اليوم مثل هذا التهويل لم يعد يجدي عند شرائح فتية اصبحت تتطلع للخطاب الآخر وتحاول بلورة خطابها كبديل للطوباوية السعودية. تحت هذه التحولات لا يسعنا الا ان نستشرف ان الطوباوية السعودية تمر ربما في مأزق وجودي لن تنتشل نفسها منه الا بصعوبة.
مضاوي الرشيد
كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
التعليقات (0)